رمضان تركيا... مواعظ المساجد بأضواء "المحيّا"

07 ابريل 2022
كهرمان يلديز رمز مهنة نصب "المحيّا" (غوكهان بالجي/ الأناضول)
+ الخط -

صنع جامع آيا صوفيا في إسطنبول الخبر الأبرز في تغطية وسائل الإعلام لعمليات تزيين مآذن المساجد في تركيا ضمن استعدادات الاحتفال بحلول شهر رمضان هذا العام. وعادت أضواء "المحيّا" (زينة) إلى مآذن المعلم التاريخي بعد 88 عاماً من غياب طقوس رمضان، علماً أنّ القرار الرئاسي الخاص بتحويله من متحف إلى جامع، والذي صدر في يوليو/ تموز عام 2020، أثار ردود فعل دولية كبيرة حينها.
وحتى فتح القسطنطينية عام 1453، كان المعلم التاريخي كنيسة تحمل اسم "الحكمة الإلهية"، ثم حوّلها العثمانيون إلى جامع "الكبير الشريف"، وبعدها حوله نظام الدولة التركية العلمانية إلى متحف عام 1934، قبل أن يعود لاستقبال المصلين كجامع قبل عامين.

واختارت رئاسة الشؤون الدينة التركية أن تنقل أضواء زينة "المحيّا" بين مآذن آيا صوفيا عبارة "لا إله إلا الله" بالأحرف اللاتينية، استعداداً لأداء أول صلاة تراويح منذ عام 1934، وأعادت ذكرى أول تزيين رمضاني للموقع عام 1724.
وليست عبارات زينة "المحيّا" ارتجالية، إذ تحددها رئاسة الشؤون الدينية لنقل قصة أو تجسيد عظة، خصوصاً في رمضان. وهي رفعت العام الماضي شعار "رمضان الوعي بالمسؤولية"، وشعار "رمضان العبادة والغفران" هذا العام والذي نقلته السلاسل المضاءة في ستة على الأقل من مساجد إسطنبول.
و"المحيّا" فن عثماني يعود، بحسب المؤرخين، إلى 450 عاماً حين كان التزيين يحصل بمصابيح زيتية قبل وجود الكهرباء. وشكل جامع السلطان أحمد "الأزرق" نقطة انطلاق هذا التراث الذي استمر حتى تأسيس مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية عام 1923، حين تراجعت هذه الطقوس والعادات الدينية، قبل أن تتلاشى في شكل تدريجي وصولاً إلى إنهائها، وبينها أيضاً رفع الآذان خلال عهد رئيس الوزراء حينها عصمت إينونو (تولى لاحقاً منصب الرئيس بين عامي 1938 و1950) الذي أغلق معظم المساجد وحوّل بعضها إلى مستودعات وإسطبلات، قبل أن ينص قانون صدر عام 1927 وحمل اسم "مشكلة الجوامع في تركيا" على أن "الجوامع كثيرة وفائضة عن الحاجة، لذا يجب إغلاق أو تغيير أدوار بعضها"، وتتوقف عادة تزيين المآذن "المحيّا"، ثم تعود مع فوز حزب "العدالة والتنمية" بالسلطة، عام 2002، ولم تزل.

القنديل المختلف
وفي سياق الحديث عن زينة "المحيّا" الخاصة بشهر رمضان، لا بدّ من تفريقها عن القنديل الخاص الذي يستخدم للزينة والإنارة في مناسبات دينية عدة، بينها مراسم الاحتفال بعيد المولد النبوي، في تقليد قائم منذ عهد السلطان سليم الثاني الذي أمر بذلك. ويحمل القنديل لدى الأتراك بعداً روحياً ومعنوياً إلى جانب المادي عبر استخدامه في التزيين. فالقنديل الذي يستمد تسميته من إشعال القناديل على المآذن "يشمل إنارة القلوب أيضاً، عبر تبادل الأطعمة والحلويات ومساعدة الفقراء وزيارة المرضى والمقابر، تمهيداً لأخذ العبر وتذكر ضعف الإنسان والحياة الآخرة"، بحسب ما يقول رجل الدين محمد هالف أوغلو لـ"العربي الجديد". ويشير إلى أنّ القنديل يشمل أيضاً مراسم أول يوم جمعة في شهر رجب التي تعرف باسم "قنديل الرغبات"، وقنديل ليلة الإسراء والمعراج وقنديل ليلة القدر. والقنديل يختلف عن المحيّا الخاص بشهر الصوم، والذي تخصص له إلى جانب زينة الأضواء طقوس وعبادات كثيرة.
ويشرح هالف أوغلو أن تركيب "المحيّا" والإشراف على صيانة وتزيين وطلاء المآذن التي تأخذ معظمها حللاً جديدة خلال شهر رمضان أعمال خطرة جداً، علماً أنّ تركيا تضم نحو 84,684 مسجداً بينها 3269 في إسطنبول وحدها. وتشرف رئاسة الشؤون الدينية على كل المساجد، وأنشأت فرقاً خاصة بالتزيين وأخرى متخصصة في الترميم والطلاء وصيانة المآذن. 

"المحياجيون"
ويعتبر كهرمان يلديز رمز مهنة نصب "المحيّا" والذي يحافظ في سن الـ66 على طقس "المحيا"، ويتولى مع فريقه تركيب "المحيّا" في أكبر مساجد عواصم الدولة العثمانية في بورصة وأدرنة وإسطنبول، ويقول: "تعلمت تركيب المحيّا على يد المحياجي الأخير في العهد العثماني الحاج علي جيلان الذي استمر بممارسة المهنة حتى عام 2013 حين تقاعد بسبب تقدمه في السن، قبل أن يعود بعدما طلبت منه شخصياً بإلحاح شديد تعليم عناصر فريقي، وبينهم عزيز طوصيالي وسليمان كوك ورمضان قزل قايا وملك يوزطاش. وهو يستمر في الإشراف عليهم حتى اليوم، خصوصاً خلال تركيب المحيّا في المساجد الكبيرة بإسطنبول، مثل الأزرق، السليمانية، والجديد في إمينينو والوالدة، وجامع السليمانية في ولاية أدرنة وجامع أولو في بورصة.
ويروي كهرمان أنه يمارس المهنة منذ 50 عاماً، وأنّ رئاسة الشؤون الدينية تحدد العبارات التي تكتب عبر الأضواء بين المآذن، ويكتبها مفتي إسطنبول الذي يسلّمها إلى الفريق كي يقوم بتعليقها.

مدّ أضواء "المحيّا" بين مئذنتين (غوخان بالشي/ الأناضول)
مدّ أضواء "المحيّا" بين مئذنتين (غوكهان بالجي/ الأناضول)

"الرجل العنكبوت"
ويطلق الأتراك على توران ماطور المولود في ولاية جناق قلعة لقب الرجل العنكبوت، لأنه لا يخاف المرتفعات، وهو متخصص في إصلاح المآذن وترميمها وطلائها، وأب لأربعة أطفال. وتعلم ماطور المهنة قبل نحو 25 عاماً، وجاب كلّ أنحاء البلاد للعمل على إصلاح ودهن المآذن. ويشرح عمله وأساليب صعوده المآذن بالقول: "أتسلق المآذن بواسطة أسطوانة كي أستطيع التحرك بحرية في الأعلى وتأدية عملي بمرونة وسلاسة خلال تنفيذي أعمال الإصلاح أو الدهان، وعملي موسمي خلال المناسبات الدينية وينشط في فصل الصيف".
ويشير ماطور إلى أنّ من يراه ويراقبه يشعر بالخوف أكثر منه. ورغم أنّ لقبه "الرجل العنكبوت" لأنه يتحرك حول المآذن بثقة وسرعة، يؤكد أنه يتنبه بشدة لمخاطر المهنة وأماكن العمل التي "قد تكلفني حياتي". يضيف: "تتطلب مهنتي التي تجعلني معلقاً في الهواء على ارتفاعات عالية أعصاباً قوية وقدرة على التحمل وعدم الإصابة بدوار".

وفيما عادت عبارات أضواء المحيا "كُل وأطعِم ولا تُسرِف"، و"الصوم زكاة البدن" و"أهلاً رمضان"، ينتظر الأتراك وضيوفهم عودة الموائد الرمضانية إلى الساحات العامة وصحون المساجد، كما درجت العادات العثمانية، بعدما أبعد وباء كورونا موائد الرحمن خلال العامين الماضيين.