شتاء غزة... عشرات آلاف النازحين في خيام باردة على حدود مصر

13 يناير 2024
خيمة نزوح ملاصقة للحدود المصرية (عبد زقوت/الأناضول)
+ الخط -

تقع منطقة السوافي بين مدينة رفح والحدود المصرية، وهي منطقة صحراوية كانت قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول مخصصة للتنزه، ويقصدها الغزيون للجلوس في الهواء الطلق والهروب من الاكتظاظ الكبير.

تضم منطقة السوافي في أقصى جنوب قطاع غزة عشرات آلاف النازحين من مختلف مناطق القطاع، وقد أصبحت المنطقة الأكثر اكتظاظاً بالنازحين منذ بدء العدوان الإسرائيلي، لكن مع حلول المساء، تتحول إلى منطقة قارسة البرودة، فهي تقع بين الصحراء الخالية وشاطئ البحر، وفي بعض المناطق لا توجد مساحات خالية بين الخيام، إذ يحاول الغزيون جعلها متلاصقة من أجل مواجهة البرد، ومقاومة الرياح.
تقيم عبير الخطيب (35 سنة) في خيمة قريبة من الحدود بمنطقة السوافي، وبسبب شدة البرد، فإنها تعاني من ارتجاف الأطراف، وجفاف الجلد، منذ أن نزحت إلى هذا المكان في العاشر من ديسمبر/كانون الأول الماضي، وفي بعض الأوقات تعاني من تشقق في اليدين، وتسيل الدماء منها لأنها مضطرة لغسل ملابس أطفالها في مياه البحر، إذ لا تتوفر مياه أخرى للاستخدامات اليومية.
تقول الخطيب لـ"العربي الجديد": "قبل بدء العدوان، كنا نحب فترات الصباح المبكر وبداية المساء، حتى لو كان في سماء غزة طائرات الاستطلاع (الزنانة)، وهي لم تكن تغيب تقريباً عن السماء، لكننا كنا نبحث عن أي بصيص أمل يسعدنا. لا نشعر حاليا بهذا، فالمساء بارد جداً، والصباح أكثر برودة. أنا أرتجف طوال اليوم، وأبنائي يرتجفون في المساء والصباح، رغم أننا حصلنا على أغطية من بين المساعدات التي وصلت، لكنها بشكل عام لا تكفي، ونحاول اقتسام الغطاء الواحد على ثلاثة أفراد".
تضيف: "حتى عندما نبكي فإن البرد يُجفِف الدموع فوق وجوهنا، وأصبحنا نكره برد الصباح والمساء. لدي أربعة أطفال ينتظرون يومياً طلوع الشمس، وسماع أصوات الناس تتحرك خارج الخيمة حتى يشعروا بقليل من الأمان. نعيش في مقابل الحدود المصرية التي نراها بالعين المجردة، وفي كل يوم تتزايد الخيام من حولنا، حتى أصبحنا لا نرى شيئا سوى السماء التي تبدو سوداء في بعض الأيام بسبب ضباب الشتاء".

يواصل الغزيون النزوح إلى الجنوب مع استمرار العدوان الإسرائيلي

ومع استمرار العدوان الإسرائيلي للشهر الرابع على التوالي، يستمر الغزيون في النزوح من مناطق وسط قطاع غزة، خصوصاً من دير البلح ومخيم النصيرات ومدينة خانيونس، والتي شرد الاحتلال سكانها عبر استهدافاته المباشرة، فيما يؤكد أن هناك خطة ممنهجة لإجبار الغزيين على النزوح إلى أقصى نقطة يمكنهم الوصول إليها جنوباً للبقاء في الخيام.
نزح أكثر من 150 ألف غزي إلى المنطقة الحدودية مع مصر بحثاً عن الأمان، والبقاء قريباً من معبر رفح، على أمل الحصول على المساعدات، وهي ممتدة على طول وسط مدينة رفح من الحدود ومعبر رفح البري حتى منطقة السوافي باتجاه شاطئ البحر وغرب تل السلطان.
نزحت عائلة بربخ من مدينة خانيونس إلى منطقة السوافي، ونصبت خيمة تبعد نحو 500 متر من الحدود المصرية، وهم حالياً لا يملكون شيئاً تقريباً، ويعيشون على المساعدات التي تصلهم، وينتظرون أن ينتهي العدوان للعودة إلى منازلهم.

خيام بلاستيكية تؤوي النازحين في رفح (عبد زقوت/الأناضول)
الخيام لا تحمي النازحين من البرد (عبد زقوت/الأناضول)

وتؤكد وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" أن المساعدات التي تتلقاها قليلة مقارنة بالأعداد الكبيرة والمتزايدة من النازحين في المنطقة الجنوبية، في حين تتزايد الشكاوى يوماً بعد يوم في المنطقة الحدودية التي أصبحت شديدة الاكتظاظ نتيجة القصف الإسرائيلي على المناطق كانت تصنّف باعتبارها آمنة في وسط وجنوب القطاع.
وتبيّن بيانات وكالة "أونروا" في غزة، أنه حتى العاشر من شهر يناير/كانون الثاني، بلغ عدد النازحين أكثر من 1.9 مليون شخص، وأن قرابة 90 في المائة منهم نزحوا عدة مرات من مختلف أنحاء قطاع غزة، إذ يتم إجبار العائلات على الانتقال بشكل متكرر بحثا عن الأمان. وهناك ما يقرب من 1.2 مليون نازح يلتجئون في 154 منشأة تابعة لأونروا في محافظات قطاع غزة الخمس، وهناك نحو 400 ألف آخرين قريبون من تلك المنشآت، ويحصلون على المساعدات بشكل دوري، من بين ما مجموعه 1.78 مليون نازح يتلقون المساعدات، بمن فيهم آلاف يقيمون بالقرب من الحدود المصرية. بينما قصف الاحتلال مؤخراً مدرسة في مدينة خانيونس، ما اضطر النازحين إلى مغادرتها.

يجبر الاحتلال العائلات على النزوح بشكل متكرر بحثاً عن الأمان

نزحت عائلة سمير عباس (51 سنة) من مدينة خانيونس، وقضت بضع ليال في العراء بشوارع مدينة رفح، وتسبب البرد القارس في إصابة غالبية الأطفال بنزلات معوية، ثم استطاع أفراد من العائلة جمع أخشاب وشراء بعض النايلون رغم الأسعار المبالغ فيها، وقاموا بإنشاء خيمة باتت تؤوي نحو 40 فرداً، ورغم كون الخيمة أفضل كثيراً من العراء، إلا أنهم لازالوا يواجهون مصاعب كثيرة بسبب البرد.
تنتظر عائلة عباس انتهاء العدوان للعودة إلى منزلهم الذي اقتحمه الاحتلال الإسرائيلي، وأقام في داخله نقطة تجمع، وترفض العائلة فكرة التهجير إلى مصر مهما كانت الظروف، ويؤكد سمير أنهم سيقاومون ذلك في حال أجبروا عليه، فهم لا يريدون أن يذوقوا شعور الاستسلام.

يضيف لـ"العربي الجديد": "قضى عدد من أفراد الأسرة تحت القصف، ما اضطرنا إلى النزوح جنوباً، وفي الوقت الحالي نواجه البرد بإمكانيات قليلة متاحة. المنطقة التي نزحنا إليها معرّضة للطقس البارد؛ كون محيطها خاليا من جهات عدة، وهي أشبه بصحراء قاحلة، وليس فيها أية مقومات للحياة رغم وجود آلاف الأشخاص. البرد شديد، ولا يوجد لدينا وسائل تدفئة لمواجهة هذا البرد، والماء قليل، والطعام شحيح، وأشتهي كأساً من الشاي لكن لا أملك الحصول عليه. لدينا بعض الأغطية التي حملناها معنا من منزلنا تحت القصف، لكنها لا تكفينا، فعددنا يقترب من 40 فرداً، فقد كان منزلنا يستضيف نازحين من أقاربنا، جاؤوا من مدينة غزة، ونحن اليوم على الحدود المصرية".

الطعام والأغطية أكبر أزمات النازحين (عبد زقوت/الأناضول)
الطعام والتدفئة أكبر أزمات النازحين (عبد زقوت/الأناضول)

ويشكو غالبية المقيمين في الخيام من البرد الشديد الذي لا يمكن مقاومته بالبقاء في داخل الخيام، وكذلك قلة المساعدات الإنسانية التي يتلقونها، والتي تصلهم في أيام قليلة من كل أسبوع، وخصوصاً المواد الغذائية، بينما الحصول على الأغطية والفراش غاية في الصعوبة، فأعداد النازحين كبيرة، والغالبية منهم لم يتمكنوا من إحضار فرش أو أغطية معهم خلال رحلة النزوح، كما أن الكميات الواصلة منها ضمن المساعدات قليلة.
ويزداد قلق الغزيين يوماً بعد آخر مع تداول أخبار حول نية الاحتلال الإسرائيلي السيطرة على "محور فيلادلفيا"، وهو الخط الفاصل بين قطاع غزة والأراضي المصرية، إذ إن أي تدخّل إسرائيلي في هذه المنطقة يمثل خطراً يمس آلاف الغزيين الذين أصبحوا يبعدون مئات الأمتار فقط عنها. لكن رغم القلق، يستمر الغزيون في البحث عن الأخشاب والنايلون لبناء المزيد من الخيام، ويساند بعضهم بعضا في تلك المهمة الضرورية للوقاية من البرد. 
نزح أحمد لافي (37 سنة) من شمالي قطاع غزة، وقد عاش ثماني مرات نزوح منذ بدء العدوان الإسرائيلي، وحالياً يقيم مع أسرته وأشقائه وأبنائهم النازحين من مناطق مختلفة عند آخر نقطة قريبة من الحدود المصرية في خيمة صممها لإيواء 35 فرداً، فهو من بين الأشخاص الذين لم يتمكنوا من الحصول على الخيام التي توزع ضمن المساعدات، ويتهم سياسة التوزيع بأنها غير منظمة، خصوصاً في المنطقة الحدودية.

وضع أحمد طبقات من النايلون فوق الخيمة لوقاية الأطفال من البرد الشديد، لكن جميع الأطفال أصيبوا بنزلات البرد، وأصيب بعضهم بالإسهال. يقول لـ"العربي الجديد": "لا يوجد لدينا ملابس شتوية، ولا حتى ملابس مستعملة، والبرد في المنطقة قاتل، وأسمع أصوات كثير من الأطفال يبكون من شدة البرد، ولا تستطيع أجسادهم الصمود في مواجهته، وفي بعض الليالي يتناوب أطفالي الجلوس في حضني حتى يحصلوا على قدر من الدفء الذي لا يمكنهم الحصول عليه في داخل الخيمة تحت الأغطية المتاحة".
يضيف لافي: "خرجت من المنزل حاملاً جاكتين وحذاءين، وقد تمزّق أحد الحذاءين خلال التنقل في رحلة النزوح الطويلة، ولم أجد في السوق أية أحذية للبيع، لكني وجدت جوارب للأطفال كي يرتدوها للوقاية من البرد، وفي كل يوم نغسلها في مياه البحر عندما تشرق الشمس، وننتظر أن تجف لارتدائها مجدداً، لكنهم رغم ذلك يعانون من البرد. أتمنى أن نتخلص من هذا الكابوس، وفي كل يوم أنظر إلى المنطقة التي نعيش فيها، وأشعر بالشوق للعودة إلى منزلي. سنعود حتى لو كان المنزل مدمراً، فالبقاء فوق ركام المنزل أفضل كثيراً من البقاء هنا".

المساهمون