بعد مرور أسبوعين على المعارك العسكرية التي اندلعت في 15 إبريل/ نيسان الماضي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ما زال بعض المواطنين عاجزين عن الوصول إلى جثث الضحايا من ذويهم الذين لقوا حتفهم خلال الاشتباكات المسلحة بينما كانوا في أماكن عملهم، أو في مستشفيات أو جامعات، أو أثناء مرور سياراتهم في الطريق العام.
كان المسن السوداني داود (74 سنة) يمتلك طبلية صغيرة بالقرب من المقابر الواقعة في وسط المنطقة الصناعية بالخرطوم، يعرض فيها بضاعة بسيطة عبارة عن مسامير، وصواميل. في اليوم الأول من اندلاع المعارك، أصيب الرجل برصاصة طائشة في رأسه أردته قتيلاً في الحال.
لفظ داود أنفاسه وهو جالس على كرسيه، فحمله عدد من أصحاب ورش تصليح السيارات المجاورة إلى مقهى شعبي قريب من مكان وفاته ريثما يهدأ الاشتباك بين القوات المتقاتلة، أملاً في التمكن من نقله لاحقاً إلى أقرب مستشفى، لكن الوضع تفاقم، وباتت الاشتباكات أكثر احتداماً، فاضطر الجميع إلى الهرب بحثاً عن مكان آمن للاختباء من الرصاص، وتركوا الجثة في مكانها.
بعد ساعات قليلة على بدء تبادل إطلاق النار، أُغلقت الكباري، وتوقفت حركة المواصلات العامة، كما اختفت المركبات الخاصة من الشوارع، فأصبح من العسير الوصول إلى وسط الخرطوم، ولذلك عجز أصدقاء داود عن الوصول إلى جثته التي كانوا يرغبون في دفنها.
يقول أحمد أبو رأس، وهو أحد العاملين بالمنطقة الصناعية لـ"العربي الجديد": "تعود أصول العم داود إلى مدينة أم روابة بولاية شمال كردفان، وليس له أبناء، ولكن لديه أقارب في الخرطوم، لكنهم يسكنون في أم درمان، وحين علموا بوفاته، شرعوا في التجهيزات اللازمة لدفنه، فحفروا له قبراً في إحدى مقابر أم درمان، لكنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى جثته، وقد كرروا محاولتهم تلك على مدار أيام عدة، وبعد انتقال القتال إلى أم درمان، قرروا كغيرهم من المواطنين النزوح إلى ولاية الجزيرة هرباً من تبعات الصراع".
بعد 12 يوماً على مقتل داود، غادرت القوات المتقاتلة المنطقة، لكن لم يتجرأ أحد على الذهاب إلى تلك الطُرق التي خلت منها الحياة، لكن أحمد أبو رأس أصرّ على الذهاب إلى المكان الذي لقي فيه داود حتفه. يقول: "قطعت نحو 8 كيلومترات سيراً من أجل الوصول إلى المنطقة الصناعية، وكنت أتمنى أن أكتشف أن هناك من قام بحمل جثة داود إلى المقابر، وأكرمه بالدفن، لكن للأسف وجدت الكلاب الضالة قد أحالت الجثة إلى عظام. لقد أكلتها. لم أتمكن من فعل أي شيء. وقفت لبرهة أشاهد ما تبقى من الجثة التي تناثرت أجزاؤها في المكان، قبل أن تجبرني الرائحة المنبعثة منها على المغادرة".
يضيف: "أجريت اتصالات عديدة لطلب المساعدة في دفن رفات الرجل الطيب، لكن لم يخاطر أحد في الوصول إلى وسط الخرطوم التي ما زالت محاطة بالقوات العسكرية المدججة بالأسلحة، والمتأهبة للانقضاض بعضها على بعض".
حالة العم الراحل داود نموذج لعشرات من الحالات المأساوية في هذه الحرب العبثية، إذ فقد الرجل المسن حياته بسبب الأطماع الشخصية للجنرالين المتصارعين على أشلاء المواطنين البسطاء للانفراد بمقعد السلطة.
تضاعفت المعاناة بعد توقف كثير من مرافق السودان الصحية عن العمل
خلال الأيام الأولى، تناثرت الكثير من الجثث في طرقات أحياء الخرطوم، بعضها تم دفنه في ذات المكان بمجهودات شعبية، وبعضها تمزق في العراء، وكتب المدير العام لصحيفة الدار السودانية، مبارك البلال، عبر "فيسبوك"، أنه "توجد جثث بعضها متفحم، والبعض الآخر بدأ يتحلل أمام بقالة أبويس ومغلق الرحمة إلى جوار منزلي بشارع المعونة بحري، وتحديداً في شمبات. إكرام الميت دفنه".
وكتبت معلمة الثانوية ميسون عبد الحميد على "فيسبوك": "في شارع الغابة بالقرب من مخازن السكر وبتروناس توجد جثث لمواطنين. على كل من لديه شخص مفقود تفقد تلك الجثث. لهم الرحمة".
من بين الضحايا مصاب تحامل على جراحه، وذهب من دون مرافق أو عربة إسعاف إلى مستشفى إبراهيم مالك الواقعة بحي الصحافة في جنوب الخرطوم، ولكنه وجد أبواب المستشفى مغلقة، فتهاوى أمامها والدماء تنزف من أطرافه إلى أن فارق الحياة في المكان الذي جاء إليه لينقذه.
كان الرجل يرتدي زياً مدنياً يؤكد أنه أصيب برصاصة طائشة، وليس شريكاً في القتال مع أي من الطرفين، لكنه لم يجد طبيباً يضمد جراحه، لأن الأطباء أنفسهم كانوا عرضة للموت، ولم يكن في وسعهم فعل شيء سوى إغلاق المستشفى حفاظاً على حياتهم.
يقول أحد المواطنين الذين شهدوا الواقعة، والذي طلب عدم ذكر اسمه، إنه شاهد الرجل أمام المستشفى وهو ينزف، وكان يبدو أنه وصل متحاملاً على نفسه، ولذلك هوى أمام البوابة عندما اكتشف أن المستشفى مغلق، ولم ينهض حتى فارق الحياة. يضيف: "كنا نعيش حالة رعب، فالجنود المدججون بالسلاح في حالة هيجان، ويصوبون أسلحتهم على أي شيء يتحرك، ولا يفرّقون بين مدني وعسكري، حتى عربات الإسعاف ونقل الموتى لم تسلم منهم، بل كانت هدفاً للقناصين من الطرفين، كأن الموت يوزع بالمجان على الجميع. في هذه الظروف، قد تكلفك الإنسانية حياتك، وبالتالي لم يكن جبناً ترك شخص ينزف حتى الموت، فأين نذهب به؟ الطرق مغلقة، والآليات العسكرية تجوب الشوارع، والجنود يبدو أنهم تلقوا أوامر بالقتل دون تمييز أو رحمة".
يتابع الشاهد: "لم يهتم أحد بمعرفة هوية الرجل، ولا المكان الذي أصيب فيه، ولا من أصابه، ولماذا. مثل هذه الأسئلة في تلك الظروف لا تفيد معرفة الإجابة عنها شيئاً. المهم أنه نزف حتى الموت، وظل جثمانه وقتاً طويلاً في مكانه إلى أن خرجت منه الروائح، وباتت الجثة على وشك التحلل. بعد مرور مدة، تم نقل جثمانه إلى مقابر قريبة، ودفن من دون هوية أو تشريح طبي يكشف عن طبيعة إصابته. كثيرون مثله قتلوا مرتين، الأولى عندما أطلق عليهم الرصاص بدم بارد، والثانية عندما تركوا في العراء حتى تحللت أجسادهم، وتم دفنهم من دون اتباع الإجراءات الرسمية في مثل هذه الحالات".
وتوقف مستشفى إبراهيم مالك عن العمل بشكل كامل في أيام الصراع الأولى بسبب وقوعه بالقرب من نطاق الاشتباكات، إذ اضطر الأطباء والممرضون والعاملون إلى مغادرته خوفاً على أرواحهم. يقول المدير الطبي للمستشفى مازن الكنزي إن "الأطباء الذين حاولوا الوصول إلى المستشفى واجهوا صعوبات عدة، إضافة إلى انقطاع التيار الكهربائي منذ بداية الحرب، وسقوط المقذوفات على بعض أجزاء المبنى. تحاول السلطات في الوقت الراهن الحصول على وقود لتشغيل مولدات المستشفى، وبالتالي توفير التيار الكهربائي الذي انقطع بسبب أضرار لحقت بخطوط الكهرباء الرئيسية".
وتسببت الاشتباكات الدائرة في توقف 80% من المرافق الصحية في العاصمة الخرطوم عن العمل، ما ضاعف من معاناة المرضى والمصابين، وخلّف الكثير من الضحايا، ولم تتمكن جهة رسمية أو أهلية من حصر أعداد الوفيات، أو توثيق تفاصيل الضحايا مجهولي الهوية، ويتوقع أن يزداد تأزم الأوضاع خلال الأيام القادمة في حال لم تتوقف الحرب، كما تعاني غالبية مستشفيات السودان من نقص حاد في ثلاجات حفظ الموتى، ومع انقطاع التيار الكهربائي عن بعضها لأكثر من عشرة أيام، فإن الكثير من الثلاجات القائمة تصبح عديمة الجدوى.
وشهدت مدينة الخرطوم إصابة أشخاص بالرصاص بينما هم داخل منازلهم، وبعضهم ظلوا ينزفون حتى فارقوا الحياة لعدم القدرة على نقلهم إلى المستشفيات، أو استدعاء طبيب لينقذهم. من بين الذين فارقوا الحياة شخص هندي الجنسية، كان موظفاً مرموقاً في إحدى الشركات الخاصة، وقد أصيب بطلق ناري، وفارق الحياة أمام أسرته بعد ساعات من إصابته بسبب عجزهم عن إسعافه.
كذلك قتل أحد القناصة غير المعروفة تبعيته لأحد طرفي الصراع طالباً في جامعة الخرطوم أثناء وقوفه أمام إحدى قاعات الدراسة التي كانت يختبئ فيها، وقد مكثت جثته في مكانها حتى قام زملاؤه بدفنه داخل حرم الجامعة لعدم قدرتهم على الخروج به إلى المقابر خشية تعرضهم لإطلاق الرصاص، فالقناصة كانوا في كل مكان.