فيما أصبح العالم على أعتاب الذكرى الأولى لانتشار كورونا، لا أفق للقضاء على هذا العدو المشترك، بل يعيد الوباء انتشاره في دول عدة، بما فيها إيران، التي دخلت في موجته الثالثة التي تبدو أشدّ مما سبقها
انتقلت عدوى فيروس كورونا الجديد إلى إيران في التاسع عشر من فبراير/ شباط الماضي، بحسب الإعلان الرسمي، لكن ثمة معطيات تشير إلى أنّ الفيروس وصل إلى البلاد قبل هذا التاريخ بشهر، وتأخر الإعلان عنه لأسباب سياسية، بحسب مراقبين وخبراء، وترفض السلطات هذا الاتهام. منذ ذلك التاريخ، تحولت إيران إلى إحدى الدول الأكثر إصابة بكورونا، فقد انتشر فيها الفيروس على نطاق واسع لتحتل في الوقت الراهن الموقع العاشر في الوفيات المرتبطة بالفيروس والـ13 في الإصابات على مستوى العالم، فضلاً عن كونها تحتل الموقع الأول في منطقة الشرق الأوسط في الوفيات والإصابات.
مرّ تفشي كورونا في إيران بعدة مراحل خلفت أكثر من 32 ألف وفاة، ونحو 600 ألف إصابة. لكنّ خبراء ومراقبين يشككون في صحة هذه الأرقام، معتبرين أنّ الأرقام الحقيقية أكبر من ذلك. وقد ذكر الرئيس الإيراني حسن روحاني، في 18 يوليو/ تموز الماضي، خلال اجتماع للجنة الوطنية لمكافحة كورونا، أنّ تقديرات وزارة الصحة الإيرانية مبنية على دراسات ميدانية (وليست فحوصاً مؤكدة وفق معايير منظمة الصحة العالمية)، تشير إلى إصابة 25 مليون إيراني بكورونا خلال الأشهر الخمسة الأولى لتفشيه في البلاد، مضيفاً أنّ 35 مليون شخص آخرين معرضون لخطر الإصابة بالفيروس.
بخصوص موجات كورونا، فإنّه عندما يتجاوز المرض مرحلة الذروة ويجري احتواؤه والسيطرة عليه يكون قد أنهى موجة، وبعد ذلك حينما يتصاعد المرض ويتجه نحو الذروة مرة أخرى، تبدأ موجة ثانية. وبالرغم من أنّ العدو كان واحداً، فإنّ لكلّ من الموجات الثلاث في إيران مواصفات خاصة، مع اختلاف طبيعة معظم التحديات والأسباب فيها. واليوم، فيما تواجه إيران الموجة الثالثة لا أمل بالقضاء على الفيروس في أجل قريب، أقله حتى الربيع المقبل، وسط تراجع الآمال في إنتاج لقاح متفق عليه في المستقبل القريب، فيما استعدادات وزارة الصحة الإيرانية جارية لشراء لقاحات أجنبية أعلن عن إنتاجها، مثل اللقاح الروسي أو الهندي.
الموجة الأولى
بدأت موجة كورونا الأولى في إيران يوم 19 فبراير/ شباط الماضي، عندما أعلنت الحكومة عن تسجيل أولى الإصابات بالفيروس في مدينة قم، على بعد 110 كيلومترات من العاصمة طهران، واتخذت منذ ذلك التاريخ مساراً تصاعدياً، بحسب الإحصائيات الرسمية، إلى أن دخلت مرحلة الذروة خلال مارس/ آذار الماضي، واستمرت هذه المرحلة حتى الرابع من إبريل/ نيسان الماضي، حين سجلت وزارة الصحة في هذا اليوم أعلى معدل وفيات يومية بعد الإعلان عن 158 وفاة و3 آلاف و452 إصابة. لكن، بعد هذا التاريخ بدأت الأرقام بالتراجع، إلى أن سجلت الوزارة أدنى الوفيات يوم 16 مايو/ أيار الماضي بعد انخفاضها إلى 35 وفاة. وفي المجمل توفي خلال الموجة الأولى 6 آلاف و937 إيرانياً وأصيب 118 ألفاً و392 شخصاً بالفيروس، تعافى من بينهم 93 ألفاً و147 شخصاً.
الموجة الأولى كانت لها سماتها الخاصة، إذ انتقلت عدوى كورونا إلى إيران بينما الفيروس غير معروف بالكامل على مستوى العالم كله، ولم يكن هناك تصور واضح عن طبيعته وسرعة انتشاره وانتقاله وطرق ذلك. وعليه، لم تتخذ السلطات الإيرانية التحضيرات والاستعدادات المسبقة، مثلها مثل كثير من دول العالم، خصوصاً العالم المتقدم، إذ واجهت إيران خلال هذه المرحلة تحديات صحية كبيرة ساهمت في تفشي كورونا بسرعة كبيرة خلال الأسبوعين الأولين من الإعلان الرسمي عن تسجيل أولى الإصابات، ما جعل الفيروس ينتقل سريعاً من بؤرته بمدينة قم إلى عدة محافظات، تحديداً المحافظات الشمالية. وفي مقدمة هذه التحديات، كان أكثرها قسوة شحّ المستلزمات والأدوات الطبية، مثل الكمامات والمعقمات والقفازات في عموم البلاد، والمستشفيات التي تحولت إلى خطوط الحرب الأولى لمواجهة فيروس كورونا. التحدي الثاني كان التخبط في إدارة الوضع، وذلك يعود في الأساس إلى جهل طبيعة كورونا أولاً، ثم الظروف القاسية التي تواجهها إيران منذ أكثر من عامين على خلفية فرض الإدارة الأميركية عقوبات غير مسبوقة عليها، وهو ما وضعها أمام أزمة اقتصادية أضعفت قدرتها في مواجهة الفيروس، ليضعها ذلك أمام ثنائية الاقتصاد والصحة، إذ إنّ مكافحته تطلبت فرض قيود مشددة، مثل الإعلان عن الحجر الصحي الشامل في عموم البلاد وإغلاق المدن والمحافظات، وهو ما كان يفاقم بالفعل الأزمة الاقتصادية التي اقتضت ضرورة تحريك عجلة اقتصاد البلاد أكثر من قبل وليس وقفها. لكنّ السلطات الإيرانية اضطرت في نهاية المطاف إلى فرض هذه القيود، وإن كانت متأخرة إلى حد كبير. أما التحدي الثالث فكان الجهل بطرق علاج المصابين في المستشفيات، والأدوية التي يمكن استخدامها لعلاجهم، ما زاد من الوفيات. والتحدي الرابع كان تعويد المواطنين على الالتزام بتعليمات غير مسبوقة وجديدة في حياتهم، مثل البقاء في المنازل لفترات طويلة، خصوصاً أنّ انتشار كورونا في إيران تزامن مع عيد رأس السنة الإيرانية الجديدة (نوروز)، الذي يعتبر أهم مناسبة تاريخية ووطنية في البلاد لا يمكن تجاوزها بسهولة.
وتمكنت الحكومة الإيرانية بمرور الوقت وبالتدريج من امتصاص الصدمة الأولى، وحصلت على تجارب في مكافحة كورونا، ليتحسن أداؤها في ذلك وتسجل نجاحات مهمة في مواجهة التحديات، في مقدمتها تحدي شح المستلزمات، كما أبلى المواطنون بلاء حسناً في الالتزام بالإرشادات الصحية، بنسبة قدرت بـ80 في المائة. وبالنتيجة، دخلت إيران في مرحلة احتواء كورونا في أواخر مارس/ آذار الماضي، وهو ما أظهره تراجع الوفيات نحو 80 في المائة، بحسب الأرقام الرسمية. ومع دخول الفيروس مساراً تراجعياً وحديث السلطات عن نجاحها في احتوائه وحتى السيطرة عليه، بدأت الحكومة الإيرانية بإنهاء القيود الاقتصادية بالتدريج وسمحت بفتح المحلات التجارية والأسواق، مع الإبقاء على قيود أخرى، مثل استمرار إغلاق المدارس والجامعات والمساجد ومنع التجمعات وغيرها.
الموجة الثانية
لكنّ كورونا عاد إلى التصاعد مجدداً في أواخر مايو/ أيار الماضي بعدما سجل تراجعاً لافتاً طوال شهر سبق ذلك التاريخ، فارتفعت مجدداً حصيلة الوفيات والإصابات اليومية، لتدخل البلاد في الموجة الثانية، التي بدأت معها تسجل أرقاماً يومية غير مسبوقة في أواخر يونيو/ حزيران الماضي. فقد تجاوزت الوفيات والإصابات الحد الأقصى الذي بلغته خلال الموجة الأولى. واستمرت مرحلة الذروة في هذه الموجة إلى أن وصلت إلى القمة يوم 28 يوليو/ تموز الماضي بتسجيل 235 وفاة في يوم واحد و2667 إصابة. عادت الأرقام بعدها للتراجع، الذي تسارعت وتيرته إلى أن انخفض عدد الوفيات اليومي إلى 101 والإصابات اليومية إلى 1682. والمفارقة أنّ الموجة الثانية لكورونا بدأت في إيران أبكر مما توقعته وزارة الصحة التي قدرت أنّها ستبدأ في الخريف والشتاء تزامناً مع برودة الجو، وسط تفاؤل بأنّ الوضع سيكون أفضل خلال فصل الصيف بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وهو ما دحضته المعطيات على أرض الواقع. وأعادت تقديرات خبراء ومراقبين إيرانيين أسباب تفشي كورونا مجدداً وظهور الموجة الثانية إلى رفع القيود في القطاعات الاقتصادية، فضلاً عن تراجع اهتمام المواطنين بالإرشادات والتعليمات الصحية والتباعد الاجتماعي، إذ اتهم خبراء الحكومة بأنّها لتبرير رفعها تلك القيود قامت بتصوير الوضع على أنّه عادي، ما شكل انطباعاً لدى المواطنين بأنّه يمكن العودة إلى الحياة الطبيعية، وأنّ كورونا لم يعد يشكل خطراً كبيراً.
لكنّ الأسباب لا تقتصر على العاملين السابقين فقط، إذ تشير تصريحات خبراء قطاع الصحة والمسؤولين الإيرانيين في وزارة الصحة إلى أنّ طبيعة فيروس كورونا تغيرت خلال الموجة الثانية، إذ بات يصيب أعضاء أخرى في الجسم غير الرئة، مثل المعدة، كما أنّ سرعة انتقاله من المصابين ازدادت بشكل رهيب، فقد كشف نائب وزير الصحة الإيراني إيرج حريرجي، يوم 11 أغسطس/ آب الماضي، أنّ سرعة انتقال عدوى كورونا "ازدادت من 3 إلى 9 أضعاف". واللافت أنّ إيران دخلت الموجة الثانية لكورونا فيما لم تكن معظم تلك التحديات التي واجهتها خلال الموجة الأولى قائمة، إذ لم تعد تعاني من نقص في المستلزمات الطبية، تحديداً الكمامات، فضلاً عن اكتسابها خبرة في التعاطي مع المرض خلال الموجة الأولى، لكن، مع ذلك، كانت النتيجة أسوأ من الموجة الأولى في عدد الإصابات والوفيات.
الموجة الثالثة
لم يدم تراجع كورونا طويلاً في نهاية موجته الثانية حتى توقف المسار التنازلي للفيروس في معظم المناطق الإيرانية منذ مطلع سبتمبر/ أيلول الماضي، ودخلت محافظات عدة في مسار تصاعدي. وتستمر الموجة الثالثة حتى اليوم، وسط ارتفاع مستمر في الإصابات والوفيات. وكسر كورونا خلال هذه الموجة جميع الحواجز السابقة لتُسجَّلَ أرقام قياسية جديدة. واليوم، تعاني 26 محافظة إيرانية من أصل 31 محافظة من تفشي واسع لكورونا، فيما بقية المحافظات أيضاً تواجه بدرجات أقل هذا الفيروس، ويمكن أن تضاف إلى المحافظات الأكثر تعرضاً لانتشار كورونا خلال الأيام المقبلة إذا واصل مساره التصاعدي بهذه الوتيرة المتسارعة. وسجلت إيران في هذه الموجة أعلى عدد إصابات بالفيروس في يوم واحد، حتى الآن، أمس الثلاثاء، بـ6968 إصابة، كما سجلت أعلى عدد وفيات في اليوم نفسه، بـ346 وفاة.
وتؤكد المعطيات الراهنة طفرة كبيرة وغير مسبوقة في انتشار الفيروس في إيران، ومن جهة أخرى أنّ الموجة الثالثة أكثر قسوة وشدة من الموجتين الأولى والثانية، فضلاً عن احتمال زيادة الخطورة أكثر مع بدء فصل البرد، إذ هناك مخاوف من أن يضع فيروسا كورونا والأنفلونزا إيران أمام أكبر أزمة صحية في البلاد خلال المرحلة المقبلة. ومنذ الآن، تشكو طواقم طبية إيرانية من مشاكل وصعوبات في التعاطي مع كورونا بسبب الالتباس بينه وبين الأنفلونزا لوجود أعراض مشتركة بينهما، وهو ما سيزيد من تعقيدات الوضع.
أما عن أسباب الموجة الثالثة، فالحكومة الإيرانية تختصرها في تراجع كبير بالتزام المواطنين الإيرانيين بالبروتوكولات الصحية، إذ تقول إنّ الالتزام انخفض من 80 في المائة إلى 60 في المائة خلال الآونة الأخيرة، معتبرة أنّ الرحلات الداخلية في أواخر أيام الصيف "كان لها تأثير كبير" في زيادة انتشار الفيروس. لكنّ مراقبين أشاروا إلى أنّه إلى جانب العامل المذكور، فالحكومة نفسها أيضاً تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية، لعدم التنسيق بين أجهزتها وعدم اتخاذها قرارات لازمة في موعدها للحؤول دون تشكل الموجة الثالثة. وفي السياق، ثمة انتقادات واسعة وجهت للحكومة لقرارها بفتح العام الدراسي الجديد يوم الخامس عشر من سبتمبر/ أيلول الماضي، أي قبل أسبوعين من موعده السنوي المحدد مع بداية الخريف، إذ أشار المنتقدون من برلمانيين ووسائل إعلام وجهات أخرى إلى أنّ هذا الإجراء سيساهم في تصاعد كورونا ويدخل البلاد في موجة ثالثة، محذرين من أنّه إذا ما انتشر الفيروس بين التلاميذ، فحينئذ يمكن أن يخرج كورونا عن السيطرة. وبعد ضغوط برلمانية ورفض كثير من الأسر الإيرانية إرسال أولادها إلى المدرسة، تراجعت الحكومة خطوة، معلنة أنّ الحضور في المدارس ليس إلزامياً، لكنّ تقارير متفرقة من عدة مناطق في إيران أشارت إلى إصابة تلاميذ بالفيروس.
كذلك، ثمة عوامل أخرى شاركت الأسباب آنفة الذكر في دفع البلاد إلى الموجة الثالثة، منها تجمعات شهدتها إيران خلال الشهرين الماضيين، مثل امتحانات الدخول إلى الجامعات التي شارك فيها نحو مليون و100 ألف طالب، فضلاً عن امتحانات القبول للماجستير والدكتوراه. وشهدت الفترة نفسها تجمعات دينية بمناسبة ذكرى عاشوراء. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ مواطنين كثراً استغلوا تزامن يومي تاسوعاء وعاشوراء (التاسع والعاشر من محرم)، مع عطلة نهاية الأسبوع للقيام برحلات داخلية إلى المحافظات الأخرى، خصوصاً المحافظات الشمالية، إذ تشير التقديرات إلى تسجيل مليونين و566 رحلة بين المحافظات خلال هذه الفترة.
وفي مواجهة الموجة الثالثة، لم تتخذ اللجنة الوطنية لمكافحة كورونا قراراً بفرض قيود عامة على مستوى الدولة، بل فوضت المحافظات لكي تتخذ كلّ واحدة منها جملة تدابير تناسب وضعها. وبدوره، أصدر المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، تعليمات للأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية بوضع جميع إمكانياتها الصحية من المستشفيات والمصحات والمعدات لمواجهة انتشار كورونا في البلاد. كذلك، أعلنت وزارة الصحة الإيرانية النفير العام في المستشفيات في عموم البلاد، مؤكدة رفض استقبال حالات غير طارئة، مع تأجيل العمليات الجراحية والرقود في المستشفيات في الحالات غير الطارئة.