لا تفكر حياة حسينو بالعودة إلى منزلها في مدينة إدلب بعدما توقف قصف قوات النظام السوري وروسيا على المناطق والمخيمات وانحصر في أماكن الجبهة، لأنها تخشى أن تتجدد الاعتداءات، فهي لا تثق بالنظام الذي تصفه بأنه "مجرم"، أو بإعلانات الهدنة الصادرة عنه باعتبارها رأت مرات استهدافه الأبرياء. تضيف في حديثها لـ"العربي الجديد": "خرجنا من براثن الموت بعدما استهدفت قوات النظام الأحياء السكنية والأسواق والمنشآت الحيوية والمستشفيات والمراكز الطبية والمؤسسات التعليمية والمدارس".
وتقيم حياة حالياً في مركز إيواء ببلدة باريشا، شمالي إدلب، وتبدو على وجهها ملامح عدم الارتياح أو التأقلم مع هذه الإقامة، خاصة أن مراكز الإيواء مكتظة بعائلات ويملأها ضجيج وصراخ الأطفال. وهي تنتظر بالتالي أن ترحل غيمة القصف نهائياً وتهدأ الأوضاع الأمنية كي تعود إلى منزلها ويتابع أطفالها الخمسة حياتهم الطبيعية ويستأنفون تعليمهم.
بدوره، لم يفتح عمر السويد محله التجاري في مدينة الدانا، شمالي إدلب، بعدما أغلقه في بداية حملة القصف بسبب خوفه من إعادة استهداف المدينة، فهو لا يثق أيضاً بالنظام واتفاقات الهدنة التي يقول إنها "أثبتت أنها مزيفة وكاذبة على مدى سنوات الحرب". يضيف أن "إغلاق محلي مدة طويلة تسبب لي في خسائر كبيرة، لا سيما أنني ملتزم بدفع مبلغ 300 دولار بدل إيجار شهري، كما أثّر على البضائع التي تكدست خلال الفترة الأخيرة". ويشكو عمر من ضعف حركة الشراء في الأسواق، فحتى لو جازف بفتح محله، "فحركة الشارع لا توحي بوجود استقرار، ولا يقصد الناس المحلات إلا لإحضار بعض الخبز والطعام والمستلزمات الأساسية، ثم يغادرون على عجل".
ولا تزال مدن وبلدات تعرضت للقصف أشبه بمناطق أشباح خالية، بحسب ما تقول المهندسة علا القاصوص، التي تسكن في مدينة دارة عزة، غربي حلب، بعدما استهدفت بقصف عنيف خلال الفترة السابقة، وتوضح أن المحلات التجارية والأسواق والمطاعم ما زالت مغلقة، كما يستمر تعليق الدوام في المدارس والكثير من المراكز التدريبية والتعليمية والمهنية.
وتقول لـ"العربي الجديد": "لا تكاد المنطقة تستقر وتخرج من حملة قصف سابقة حتى تستهدف بحملة قصف جديدة، ما يجبر الأهالي على النزوح مجدداً، وهو ما يوقف المرافق الحيوية".
وتشير إلى أن "الهجمات لا تمثل إلا جزءاً بسيطاً من إجمالي الهجمات التي شنها نظام الأسد وحليفه الروسي على إدلب والمناطق المحيطة بها، ما يكشف ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية وانتهاكات متكررة لحقوق السكان في الحصول على خدمات الصحة والتعليم وتوفير مستوى معيشي لائق على صعيد الغذاء والماء والسكن".
وتسأل: "إلى متى ستستمر مأساة الأهالي وتسلّط نظام الأسد عليهم وعلى أطفالهم وحياتهم ومدنهم وأرزاقهم من دون حسيب ورقيب؟"، وتطالب المجتمع الدولي بـ"ردع إجرام الأسد، وإيجاد آلية تنهي حكمه المستبد ومأساة شعب بكامله، وتعيد الحقوق إلى أصحابها والمهجرين إلى مدنهم وقراهم"، رغم أنها لا تثق كثيراً بالمجتمع الدولي الذي "اكتفى طوال سنوات الحرب بمشاهدة ما حصل للمدنيين والتنديد بالأفعال".
أيضاً يترقب صفوان البري، المهجر من حمص والذي يقيم في مدينة ترمانين، غربي حلب، انفراج حملة القصف بعينين حزينتين وقلق بالغ، لأنه يعتمد على عمله اليومي في بيع الفاكهة والخضار على بسطة صغيرة بأحد شوارع المدينة كي يحصل لقمة عيشه. ويقول لـ"العربي الجديد": "يزيد بقائي بلا عمل وضعي المعيشي السيئ، ويراكم ديوني، خاصة أنني أعيل أسرة مؤلفة من خمسة أشخاص. نحن نازحون فقراء لا نأكل إذا لم نعمل، والوضع المعيشي صعب والغلاء كبير والخروج للعمل أساس استمرارنا". يتابع: "أرجو أن نتخلص من الأسد وظلمه وإجرامه، فهو لم يكتفِ بتهجيرنا من مدننا، بل لاحقنا بالصواريخ والقنابل ومختلف أنواع الأسلحة إلى مكان نزوحنا".
واستهدف النظام في حملته الشرسة أماكن حيوية لمنع استقرار المدنيين وإجبارهم على النزوح والفرار بحثاً عن الأمان، ما زاد معاناتهم اليومية، وسط صمت دولي وأممي عن المطالبة بإيقاف المجازر المرتكبة تجاه الأهالي، خاصة بعدما اتجهت الأنظار لما يجري في غزة.
وأعلن معاون مدير صحة إدلب الطبيب حسام قره محمد، في حديثه لـ"العربي الجديد"، مقتل 50 شخصاً وجرح نحو 225، أما الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) الذي قضى متطوعان في صفوفه أيضاً، فأوضح أن "التصعيد الذي امتد من 4 إلى 8 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، واستخدمت فيه قوات النظام أسلحة حارقة وعنقودية محرمة دولياً، يهدد حياة المدنيين، ويفرض حالة من عدم الاستقرار وتهجير جديد يزيد مأساة متأصلة منذ أكثر من 12 عاماً".
أيضاً وثقت منظمة "منسقو استجابة سوريا" نزوح نحو 79 ألف مدني في شمال غربي سورية إلى مناطق أكثر أمناً جراء التصعيد العسكري، وذكرت أن "استمرار العمليات العدائية في مناطق شمال غربي سورية سيولّد موجات نزوح جديدة وسط صعوبات إنسانية قبل حلول الشتاء"، وأشارت إلى أن الهجمات المستمرة على المنطقة تسببت في توقف العملية التعليمية، وحرمان 400 ألف طالب على الأقل من التعليم، وتعطيل عمل نحو 15 منشأة طبية من مستشفيات ومراكز صحية إضافة إلى مراكز خدماتية أخرى، وحرمت أكثر من مليوني مدني من الحصول على خدمات طبية. وطالبت "منسقو استجابة سوريا" المنظمات الإنسانية بالعودة إلى العمل في مختلف المناطق، واستئناف العمليات الإنسانية للمدنيين، خاصة في مناطق النزوح.