دخلت مستشفيات لبنان مرحلةً تعتبر الأخطر في تاريخ البلاد، وسط أزمة اقتصادية لم يختبرها المواطنون حتى في أحلك ظروف الحرب الأهلية (1975- 1990)، وجولات الاقتتال والعدوان الإسرائيلي. مرحلة تحتّم اتخاذ قرارات صعبة أكثرها شدّة وقف استقبال المستشفيات المرضى نهائياً، في سيناريو لا يستبعد أن تتسع رقعته ما يهدّد صحة الناس.
تواجه المستشفيات حصار أزمات شح المحروقات التي توزع بـ "القطارة" في السوق إلى جانب الأدوية والمستلزمات الطبية، وتوقف خدمات مرتبطة بهجرة الأطباء والممرضين، وارتفاع فاتورة العلاج وتخطي الغلاء كل حدود إمكانات الفرد، ما يضعها في نفق مظلم لا بصيص نور فيه، في ظل انعدام الحلول وغياب الرؤى والخطط على مستوى الدولة.
وأعلن مستشفى المقاصد في بيروت عدم قدرته على استقبال مرضى ومعالجتهم لفقدانه مادة المازوت الضرورية لتزويد مولداته الكهربائية بها، وعدم توافر أدوية أساسية لمرضى غسل الكلى وتلك الخاصة بالتخدير، وأخرى ضرورية للحالات التي تستقبلها أقسام المستشفى وبينها الطوارئ. وتؤكد إدارة "المقاصد" التي تقدم خدماتها الصحية منذ أكثر من مائة عام، أن المسؤولين الرسميين وغير الرسميين وراء الأزمات المتعاقبة التي أفضت الى الوضع الحالي، محذرة من أن "النقص الحاد في مادة المازوت والكهرباء والأدوية سيتسبّب في وفاة مرضى، أو يلحق أذى بكثيرين منهم".
وضع دراماتيكي جداً
يعلّق نقيب المستشفيات الخاصة سليمان هارون، في حديثه لـ"العربي الجديد"، على وضع مستشفى "المقاصد" بأنه "بات غير قادر على استقبال مرضى جدد، إذ لا يملك كميات كافية من المازوت، ما جعله يتخذ في الفترة الأخيرة سلسلة إجراءات للاقتصاد في استهلاك الكهرباء، بينها وقف تشغيل المصاعد ومكيفات التبريد في الأقسام والمداخل والمكاتب الإدارية من أجل تغطية احتياجات غرف المرضى. ويمكن تلخيص الوضع بالتالي بأنه دراماتيكي جداً".
يضيف: "الأكيد أن السبحة ستكرّ لتشمل مستشفيات أخرى باتت على مسافة أيام وحتى ساعات من نفاد مخزونها من مادة المازوت. وكنا نبهنا مرات إلى أن بلوغ هذا الدرك الخطير أمر حتمي في ظل انقطاع الكهرباء والنقص الحادّ في الأدوية والمستلزمات الطبية".
ويشدد هارون على أن "الوضع دقيق وخطير، خصوصاً أن مستشفيات باتت لا تستطيع اليوم إجراء الفحوص المطلوبة على أكياس أو أمصال الدم قبل إعطائها للمرضى، وتطلب من الصليب الأحمر اللبناني مساعدتها في فعل ذلك. كما لم تعد تستطيع إجراء فحوص مخبرية عدة يحتاجها المرضى، فيما تقنّن تنفيذ تدخلات طبية مثل تمييل القلب الذي أصبح شبه محصور بالحالات الطارئة".
ضربة قاضية
من جهته، ينبّه المدير التنفيذي للمركز الطبي للجامعة اللبنانية – الأميركية في مستشفى سان جون بمدينة جونية (شمال بيروت) الدكتور سليم هاني في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أن "أزمة المازوت بالغة الخطورة، ووجهت ضربة قاضية للمستشفيات التي تعاني من الأزمات الاقتصادية والنقدية وانقطاع الأدوية والمستلزمات الطبية، وصعوبات كثيرة أخرى".
ويتحدث عن مواجهة المستشفيات مشكلات كثيرة على صعيد تأمين الأدوية والأمصال وصولاً إلى الأوكسجين، "ما يزيد صعوبة المرحلة وخطورتها التي تشهد أيضاً نقصاً حادّاً في الكفاءات بسبب هجرة أكثر من 55 في المائة من الأطباء وأفراد أطقم التمريض، وتخبط المستشفيات في صعوبات مادية تهدد استمراريتها وتقيّد إمكاناتها في تقديم الخدمات ودفع رواتب ومعاشات الموظفين".
ويشير إلى أن إلى وضع المركز الطبي للجامعة اللبنانية – الأميركية في جونية "يبقى أفضل قليلاً من مستشفيات أخرى، باعتباره تأسس حديثاً، ولا تحتاج أجهزته إلى الصيانة حالياً. وقد أمّن كميات محدودة من المازوت لا تكفي لفترة طويلة، مع اتخاذ تدابير تقنين مشددة من أجل الحفاظ على المخزون قدر الإمكان، وبينها تقليص تشغيل مكيفات التبريد في أقسام معينة لا تعرض صحّة المرضى لخطر أو تؤثر عليهم، ووقف تسخين المياه ليلاً".
ويوضح هاني أن "الاضطرار إلى إطفاء المكيفات في غرف المرضى في حال عدم إيجاد حلول لأزمة المازوت في الأيام المقبلة قد يؤدي إلى نتائج خطرة جداً، لأن درجات حرارة معينة مطلوبة للغرف التزاماً بمعايير الوقاية، خصوصاً في غرف العناية الفائقة والعمليات التي يشتكي المريض عادة من برودتها القاسية، من دون أن يدرك أهمية هذا الأمر في تجنب مضاعفات لانتشار أوبئة وفيروسات وبكتيريا، خصوصاً في ظل أجواء الصيف الحارة جداً".
ويعطي مثالاً بأن "تعرّق المريض في ظل الطقس الحار الذي قد تتخطى درجاته الـ30 مئوية يعرّض الجروح لمضاعفات خطرة. من هنا يمكن القول إن المشكلات تخطت البعد المادي، إذ باتت المستشفيات أمام ظروف إنسانية صعبة في ظل اضطراها إلى الموازنة بين قدرات الاستيعاب المحدودة، والمسؤوليات الصعبة المرتبطة باستقبال مرضى لا تستطيع توفير علاجات مناسبة لهم، مع تأمين مقومات الظروف الصحية المطلوبة، ما قد يدفع بعضها إلى عدم استقبالهم".
سلسلة من المعاناة
يشرح هاني أيضاً أن "انقطاع المازوت يؤثر على تشغيل مباني المستشفيات والمعدات والأجهزة والغرف وماكينات التعقيم والتنفس الاصطناعي، وإنتاجية مصانع الأمصال وشركات توزيع الطعام، وتوفير مستلزمات ومواد أولية أخرى. من هنا ليس تأمين المازوت حاجة ملحة للمستشفيات فقط، فهناك سلسلة مترابطة، علماً أن انقطاع التيار الكهربائي يهدد سلامة الغذاء وجودته، خصوصاً اللحوم والدجاج الحساسة جداً، والتي قد تسبب فيروسات وأمراض تحتم إلغاءها من وجبات الطعام، خصوصاً لدى أشخاص يعانون من أوضاع صحية دقيقة. ولا ننسى أيضاً أن ارتفاع أسعار المحروقات بتأثير رفع الدعم سيجعل سعر صفيحة البنزين يزداد أضعافاً قد تتجاوز حتى رواتب الموظفين الذين قد يفضلون في هذه الحال عدم التوجه إلى العمل، سواء أطباء أو إداريين أو طاقما تمريضيا. وهذه مصيبة جديدة تجعل المستشفيات مشلولة بالكامل، وفي وضعٍ لا تُحسَد عليه".
على الدرب
وعلم "العربي الجديد" أن عدداً كبيراً من المستشفيات سيسير على درب مستشفى "المقاصد" مع نفاد مادة المازوت والانقطاع التام للتيار الكهربائي، إذا لم تحلّ المشكلة بسرعة، وأن بعضها بدأت فعلاً في إطفاء مكيفات التبريد عن غرف المرضى، وليس فقط الأقسام الإدارية وفتح الشبابيك التي يجب أن تبقى مقفلة بحسب المعايير المطلوبة على صعيد درجات الحرارة، كون فتحها يعرّض حياة المرضى للخطر".
وأبلغ مصدر في مستشفى رفيق الحريري الجامعي في بيروت "العربي الجديد" أنه "قد يضطر إلى إقفال بعض الأقسام، علماً أننا نعقد اجتماعات كثيفة لاتخاذ قرارات طارئة وموجعة جداً، بعدما باتت الخطة الأولى التي لحظت تدابير طاولت الأقسام الإدارية وحدها غير صالحة في ظل استمرار الأزمة وتزايد حدتها".
وكان مستشفى رفيق الحريري الجامعي في بيروت لعب الدور الأكبر والأهم في مكافحة انتشار فيروس كورونا. ويؤوي اللقاحات الخاصة بمكافحة الوباء الذي يشهد اليوم ارتفاعاً في عدد الإصابات، ما قد يدخل البلاد في كارثة صحية خطيرة جداً.
كذلك، يواجه الأشخاص الذين يعانون من أمراض مزمنة مثل السرطان صعوبة في دخول المستشفيات لتلقي العلاجات اللازمة، أو إيجاد أدوية. وسبق أن دقّ المعنيون بالقطاعين الطبي والاستشفائي ناقوس الخطر على هذا الصعيد، لكن المسؤولين في غيبوبة كاملة، في حين تطلب مستشفيات من أقرباء المرضى الذين يرافقونهم إيجاد أدوية لهم".
وكانت عدة مستشفيات أطلقت نداءات طارئة للتدخل وحل الأزمة، وبينها مستشفى طرابلس الحكومي (شمال لبنان) الذي أعلن أنه يتحمل أعباءً تتجاوز ضعفي إمكاناته، ومن عدم القدرة على احتمال مزيدٍ من النزف في أقسامه، خصوصاً قسمي الأطفال والطوارئ اللذين زادت الضغوط عليهما بسبب نقص الأدوية التي أصبح شراؤها أمراً صعب المنال حتى إذا وجدت وبأسعار مرتفعة جداً. ودفع ذلك إدارة المستشفى إلى توجيه نداء إلى المسؤولين وكل الشركات والموردين من أجل تزويدها بالمستلزمات الضرورية للاستمرار في العمل.