منذ مطلع عام 2015، لم تكتف أطراف النزاع في اليمن بجر البلاد إلى صراع لا أفق معلوما لنهايته، بل ذهبت لاستثمار المعاناة الإنسانية التي تصنفها الأمم المتحدة بأنها الأسوأ في العالم، من خلال استحداث جمعيات وهيئات إغاثية تديرها بشكل مباشر أو غير مباشر عبر شركاء محليين.
كان الهدف الرئيسي للأطراف اليمنية الاستحواذ على أكبر الحصص من تمويل مجتمع المانحين السنوي عبر الأمم المتحدة، لتلبية خطة الاستجابة الإنسانية والتي تصل إلى ملياري دولار سنوياً، فضلاً عن استغلال تلك الجمعيات للحصول على أموال من أبواب أخرى سواء من جمعيات إغاثية إقليمية ودولية أو تجار محليين.
استثمار سياسي
شكلت الأزمة اليمنية بيئة خصبة لظهور مئات الجمعيات الخيرية الرئيسية التي تعمل على مستوى كافة المدن الخاضعة لأطراف النزاع، وأخرى ثانوية تنشط على مستوى المديريات والأرياف، كما هو الحال مع الهيئات التابعة لجماعة أنصار الله (الحوثيين).
ولدى الحوثيّين عدد من الجمعيات الرئيسية التي تستحوذ على نصيب الأسد من التمويل والتبرّعات وعلى رأسها "مؤسسة الشهداء" وهيئة الزكاة، واللتان تركزان على أنشطة دعائية ومشاريع موجّهة. وخلافاً لأنشطتها المتمثلة في تسيير قوافل إغاثية للمرابطين في جبهات القتال أو رعاية أسر المقاتلين الذين سقطوا في الحرب، تنشط موسمياً، وتحديداً خلال شهر رمضان، من خلال توزيع مواد إغاثية، بالإضافة إلى الأعياد الدينية.
يقول مصدر محلّي في محافظة عمران طلب عدم الكشف عن اسمه لاعتبارات أمنية، إن جميع المنظمات الخيرية التي تنشط في مناطق الحوثيين، تعمل وفق أجندة سياسية وفكرية خالصة بعيدة عن العمل الإنساني والإغاثي. ويوضح أن "حضور المنظمات الحوثية يتركز في القرى التي تمدّهم بعشرات المقاتلين أو تعلن الولاء لهم بشكل مطلق. أما القرى التي تبدو صامتة أو محسوبة على حزب المؤتمر مثل بني قيس وخارف، فالمشاريع الحوثية فيها مجرد فتات".
وتُتهم الجمعيات الحوثية المحلية بحرف مسار المساعدات الأممية أو احتكار المواد الإغاثية وبيعها في السوق السوداء. وخلال الفترة الماضية، أقرّ برنامج الأغذية العالمي بوجود مواد إغاثية في جبهات القتال غربي مأرب، ووعد بالتحقيق في الواقعة.
في هذا السياق، يؤكد مشتاق عبد القادر، وهو من سكان مديرية معين في صنعاء، لـ "العربي الجديد"، أن "الأنشطة التي تنفذها الجمعيات الحوثية مريبة ولا علاقة لها بالعمل الخيري"، لافتاً إلى أنها تعمل على "جمع قاعدة بيانات للسكان والمهن التي يعملون بها ثم توعدهم بسلال غذائية لا تأتي". يضيف: "بدلاً من تقديم إغاثة، تقوم جماعة الحوثيين بجمع تبرعات من المواطنين في صنعاء لدعم جبهات القتال، وتمرير ظروف صغيرة من أجل وضع مبالغ مالية بداخلها بشكل إجباري".
ولا يشكل حجم المبلغ المُتبرع به أمراً مهماً بالنسبة للسلطات الحوثية التي تقوم بجمع الأموال. وبحسب بعض الأهالي، فإن الهدف الرئيسي للجماعة هو المشاركة فقط ولو بمبلغ 100 ريال، إذ تعني أنك "معهم وتشاركهم الهدف نفسه ولست ضد تمويل عملياتهم الحربية".
تسويق الوهم
لدى الجمعيّات الخيريّة عشرات الأهداف التي تتستّر وراءها لجلب الأموال والتبرّعات، بدءاً من نشر ثقافة التسامح ومساعدة العائلات الفقيرة وإعانة المرضى وعلاج المصابين بأمراض مستعصية وكفالة اليتامى، وصولاً إلى تأهيل الشباب مهنياً وعلمياً، وتقديم إعانات مالية وعينية للراغبين بالزواج أو افتتاح مشاريع خاصة.
وشهدت سنوات الحرب تدشين أنشطة خيرية وهمية، مثل بنك الطعام والمخبز الخيري والمطعم الخيري وبنك الفقراء، وتتمحور أهدافها في توزيع الطعام المجاني أو مساعدة المحتاجين من خلال منحهم القروض الميسّرة لحلّ بعض المشاكل الاجتماعية وتعزيز روح التكافل، بالإضافة إلى تمويل المشاريع الصغيرة.
ويبدو المشهد في الواقع مغايراً لما هو حاصل في أدبيات تلك الجمعيات، بحسب سكان استطلعت آراؤهم في مدينتي تعز وإب. ويقول هؤلاء إن المساعدات تكاد تكون شبه معدومة منذ العام الماضي، وهي الفترة التي تفاقمت فيها المعاناة الإنسانية من جراء تدهور سعر صرف الريال إلى أكثر من ألف ريال أمام الدولار الواحد في مناطق نفوذ الحكومة الشرعية.
ويؤكد عبد الرقيب السامعي، وهو ناشط إغاثي في مدينة تعز، لـ "العربي الجديد"، أن غالبية الجمعيات الخيرية كانت تقدم مياه الشرب فقط لسكان الأحياء السكنية، وتصور المستفيدين وتنشر الصور على صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وكأنّهم حصلوا على أموال باهظة وليس مجرد مياه. يضيف: "العمل الخيري مشوّه لعدم وجود ضوابط حكومية تمنع التشهير أو استغلال الظروف المعيشية وتسويق الوهم. يجب أن يكون هناك دراسة لاحتياجات المناطق المتضررة. وفي منطقة يموت أطفالها من الجوع، يجب أن يشمل أي نشاط توزيع المواد والمكملات الغذائية وليس ناموسيات أو تمور بعضها قد نخرها السوس".
ولا تقتصر الأنشطة الوهميّة على المنظمات المحلية؛ فالهيئات الدولية أثارت سخرية الأوساط اليمنية من خلال أنشطتها التي أعلنت عنها مؤخراً، عندما تحدثت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) عن تزويد 2900 أسرة يمنية بـ 29 ألف دجاجة بياضة و203 أطنان من علف الدواجن و2900 من مواد ومستلزمات بناء حظائر الدواجن، مشيرة إلى أن هذا المشروع سيساهم في استعادة كسب سبل العيش.
ومن الواضح أن العمل الإغاثي والخيري في اليمن يمر في أسوأ مراحله على الإطلاق، وفقاً للناشط الحقوقي رياض الدبعي. ويقول إن غالبية المنظمات، إن لم يكن جميعها، اتخذت من الحرب ذريعة لكسب الرزق والتجارة. يضيف في حديثه لـ"العربي الجديد": "لا يوجد مشروع إغاثي واحد ربّما يقال إنه مشروع متكامل أو ناجح. وليس ببعيد عنا قضايا الفساد الكثيرة المرتبطة بالمنظمات الإغاثية، ومنها توزيع المواد الغذائية الفاسدة أو إتلاف المواد الغذائية كما حصل في العديد من المدن والمحافظات، أو توزيع المواشي المصابة بالأمراض التي ضاعفت من معاناة سكان الأرياف بدلاً من التخفيف منها".
ويرى الدبعي أنّ المشاريع الوهمية أو تلك التي لا تعني المواطن من قريب أو بعيد، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه المنظمات بفسادها أصبحت شريكاً في الحرب، وإن كان يتوجب عليها أن تعمل بشفافية وتنشر تقارير مالية مفصلة عن أنشطتها ومشاريعها.