أحيت المحنة القاسية الناتجة عن الزلزال المدمر الذي ضرب مساحة واسعة في فجر السادس من فبراير/ شباط، مشاعر التآخي والتكافل بين السوريين، وجعلت القلوب أوسع، وأكثر دفئاً من الخيام الضيقة الباردة.
عقب الزلزال، اتجهت إخلاص عمر الموسى، برفقة أبنائها، إلى مخيم "الراحمون" في ريف إدلب الشمالي، بعد أن شهدت تحت المطر المنهمر انهيار منزل كانت تعيش فيه، وتخبر الموسى "العربي الجديد": "أنا من مهجري سراقب، وكنت أقيم في أرمناز منذ 3 سنوات، ومصابة من جراء الحرب، إذ فقدت إحدى عيني، ولا أستطيع السير من دون استخدام مسندة رباعية. شعرنا بداية بهزّة أرضية، بعدها أصبح الزلزال قوياً. لدي ثلاثة أبناء، وابنتي أرملة، واثنان من أولادي من مصابي الحرب، وأحدهما مصاب في ساقه. فور وقوع الزلزال غادرنا البيت، فشاهدنا البيوت تنهار. قضينا الليل كاملاً على هذه الحال، بين الأشجار لتقينا من المطر. كانت الليلة صعبة على السوريين بشكل عام. أتينا إلى مخيم الراحمون، واستقبلنا رئيس المخيم "أبو عمر" وعائلته".
حرارة استقبال إخلاص وأبنائها خففت بعض الهم عنها. تقول: "في المخيم، كان استقبال الناس حميمياً، وأشعرنا بأن هناك خيراً باقياً في الدنيا، مع أن المخيم بسيط للغاية، ونشكر مدير المخيم على توفير مأوى لنا".
لم تجد العوائل التي دمّر الزلزال منازلها سوى خيام النازحين لتأوي إليها من المطر والبرد، بعد أن فقدت سقفاً كان يمنحها الأمان وبعض الدفء، وآثرت العوائل النازحة استقبالهم وإيواءهم رغم صعوبة الواقع القائم داخل المخيمات المحرومة من غالبية مقومات الحياة.
يوضح خالد العمر، مدير مخيم "الراحمون"، لـ"العربي الجديد"، أن "سكان المخيم فقراء، والخيام ضيقة، وفي كلّ خيمة عائلة مكونة من نحو عشرة أفراد، والزلزال فاجأ المنطقة، وهدم بيوت كثير من الأشخاص، وتركهم في الشارع تحت البرد والمطر، ولم يعد لديهم مأوى. اتجهنا إلى المناطق المنكوبة، ونقلنا عوائل كانت في الشوارع إلى المخيم، واستضافتهم العوائل الموجودة بترحاب. ليست لدينا خيام زائدة، ونرجو من المنظمات وفاعلي الخير المساعدة عبر تقديم خيام ومواد غذائية لسكان المخيم وهؤلاء المنكوبين الذين لم يساعدهم أحد، ونأمل في أن تصلنا مساعدات في أقرب وقت".
رحلة البحث عن مأوى
ترتسم مصاعب حياة النزوح على ملامح فاتن الغجر من بلدة الدير الشرقي بريف إدلب، وتقول لـ"العربي الجديد": "اعتدنا على النزوح من مكان إلى آخر كل بضعة أشهر، ونقيم في بلدة أرمناز منذ نحو 3 أشهر، حيث استأجرنا بيتاً قديماً جدرانه جيدة ليكون مأوى لنا. شعرنا عند حدوث الزلزال بالهزة، فغادرت البيت مع أطفالي. انهار البيت، ولم نعد نعرف ماذا نفعل، عند توقف الهزة والمطر، قمت بإخراج بعض الأغراض من داخل البيت، وأخذنا زوجي مع الأغراض على الدراجة النارية، في الطريق وقعنا في حفرة ماء ناتجة عن المطر، فنقلنا أحدهم بسيارته إلى المخيم، وحالياً لا يمكننا أن نعود لأنّ البيت مدمر. المخيم وضعه صعب، وليس فيه خيام تكفي العوائل، وأقيم في خيمة أبي، وهي في الأصل خيمة صغيرة، ومتضايقة من كوني أنا وأولادي عبئاً عليه، لكني لا أخطط للمستقبل كوننا لا نضمن أن نعيش حتى الغد".
واستقبل نازحو مخيم "قصر قريص"، القريب من بلدة كفر جالس شمالي إدلب، عوائل انهارت بيوتها بسبب الزلزال، ويوضح مدير المخيم، ساجر أبو مخدي، لـ"العربي الجديد"، أن "عدد العوائل في المخيم يتجاوز 175 عائلة، واستقبلنا 15 عائلة جديدة، والعوائل المتضررة جميعها تسكن في خيام مسكونة بالفعل، إذ استضافتهم العائلات. هذه الأزمة لم تمر علينا سابقاً، وكان الله بعون الجميع، وإذا لم نتكاتف في هذه المحنة فهذا يعني غياب الإنسانية. الكارثة وحّدت الأهالي".
بدوره، يوضح صفوان الفارس، المقيم في مخيم "قصر قرص"، لـ"العربي الجديد"، أن "النازحين المقيمين في المخيم، رغم كل الصعاب التي يعيشونها، بذلوا كل ما لديهم في سبيل إيواء بعض المتضررين من الزلزال، والكارثة أحيت المحبة والألفة بين الناس. لكن الجميع في المخيم حالياً بانتظار مدّ يد العون لهم، نظراً للظروف المأساوية التي يعيشونها، فالمخيم شبه محروم من أية مساعدات".
عائلات نزحت مجدداً
ويقول عبد السلام اليوسف، مدير مخيم "أهل التح"، لـ "العربي الجديد"، إن "أهالي المخيمات استقبلوا رغم ظروفهم الصعبة عوائل متضررة من الزلزال. في مخيمنا استقبلنا نحو 45 أسرة، وفي الخيمة الواحدة حالياً تسكن أكثر من أسرة، وأطلقنا حملة تبرعات في مسجد المخيم لجمع المساعدات، وهذا نوع من التكافل بين بعضنا البعض".
ويكشف علي عبد الباقي لـ"العربي الجديد": "نزحت من ريف حماة الشمالي، وأقيم في مخيم أطمة منذ 7 سنوات. المخيم في الأصل غير مستقر، وهناك ترقب شبه يومي لما قد تأتي به الأيام. خلال السنوات الماضية انقسمت العوائل وتشتت بعضها، فالبعض قتل في القصف، والبعض غادر البلاد، والبقية تسكن المدن أو القرى، ومن لم يستطع توفير مصدر دخل لم يكن أمامه سوى أن يقيم في المخيمات. بعد الزلزال حدثت الكثير من المآسي، والفاجعة كانت كبيرة لدرجة تفوق الوصف، ولم يجد أفراد بعض العائلات سنداً لهم إلا ذويهم من الدرجة الأولى، وفتح سكان المخيمات خيامهم للمحتاجين. اليوم، أتقاسم خيمتي مع ابن عمي وزوجته وابنه، والذي فقد طفلته الصغيرة تحت أنقاض المنزل الذي كان يعيش فيه، كما أن ابنه مصاب".
وأضاف الزلزال حملاً جديداً على كاهل سكان الشمال السوري الذين يعيشون مأساة إنسانية متواصلة منذ نحو 12 عاماً، يقول مدير عمليات اللجنة الدولية للصليب الأحمر لمنطقة الشرق الأدنى والأوسط، فابريزيو كاربوني، في بيان: "مشهد العائلات التي اضطرت إلى مغادرة منازلها في هذا البرد القارس للاحتماء بشوارع غير آمنة في منتصف الليل شديد القسوة. هذه العائلات نزحت في الأصل أكثر من مرة، وتنفطر القلوب لمشهد انهيار المباني في حلب، بعد أن أضعفتها سنوات الحرب الطويلة".
مراوغات الأمم المتحدة
ونزح نحو 144,783 سورياً من المناطق المتضررة، بسبب الزلزال، وفق ما رصده "فريق منسقو استجابة سورية" في تقرير، مشيراً إلى "استمرار رصد المباني المتضررة من الزلزال، وقد وصل عدد ما جرى توثيقه منها حتى الآن إلى 12,122 مسكناً، مع إحصاء نحو 8160 مسكناً أخرى ظهرت عليها تصدعات، ما يجعلها غير صالحة للسكن".
وأوضح التقرير زيادة عدد مراكز الإيواء الموجودة في المنطقة، وأنها غير كافية لاستيعاب النازحين، ولا توفر لهم الاحتياجات الأساسية. مضيفاً: "لم ترسل الأمم المتحدة سوى 62 شاحنة مساعدات إنسانية فقط، معظمها لا يصلح للتعامل مع الأزمة الحالية، وهناك مراوغات كبيرة من الأمم المتحدة لفسح المجال أمام النظام السوري لإدخال المساعدات الإنسانية عبر خطوط التماس، على الرغم من جهوزية ستة معابر حدودية مع تركيا لدخول المساعدات".
ولفت الفريق إلى محاولات يائسة لاحتواء الوضع الإنساني في المنطقة من قبل منظمات المجتمع المدني، بسبب العجز الهائل في عمليات الاستجابة الإنسانية الدولية للكارثة، محذراً الأمم المتحدة من أي محاولة لإدخال المساعدات الإنسانية عبر خطوط التماس، كونها مرفوضة بشكل قطعي من المجتمع المحلي ومن منظمات المجتمع المدني، موضحاً: "على الرغم من الوضع الكارثي الحالي، يدرك أهلنا المدنيون في المنطقة أن رفضنا هذه القوافل سببه معرفتنا المسبقة بضررها الأكبر بكثير من نفعها. تحدث بعض المسؤولين الأمميين وبعض مديري الوكالات الدولية عن نيتهم الدخول إلى شمال غربي سورية لتفقد الأوضاع الإنسانية في المنطقة، ونؤكد أنّ تلك الزيارات غير مرغوب بها، وأنّهم غير مرحب بهم في المنطقة التي ما زالوا يفكرون في زيارتها بعد ثمانية أيام على الكارثة التي حلت بها".