كانت الساعة السابعة صباحاً. تحاول الشمس تجاوز الظلام الذي يفرضه الدخان المنتشر في كل مكان، بينما يبدأ مئات من الغزيين رحلة النزوح من مناطقهم في مدينة غزة وشمالي القطاع المحاصر باتجاه مناطق الجنوب، من بين هؤلاء كانت عائلة أحمد الشنطي (37 سنة) تنتظر قدوم حافلة صغيرة كي تقلهم، بينما يترقب أفرادها أصوات القصف، آملين أن تأتي الحافلة قبل أن تفاجئهم قذائف الاحتلال.
صُدم الشنطي عندما وصلت الحافلة الصغيرة، إذ شاهد ثلاث عائلات مع أطفالها في داخلها، وكانوا الأطفال ينظرون إليه بريبة عندما فتح السائق الباب على عجل مطالباً إياه بالصعود. لم يكن في الحافلة مقاعد كافية فارغة، فصعد أحمد ووضع على حجره أبناءه الثلاثة، بينما حملت زوجته طفلته الصغرى التي يبلغ عمرها سنة واحدة. في الطريق كان يشاهد مئات النازحين الراجلين، وغالبيتهم يمشون في جماعات، وأياديهم متشابكة حتى لا يضيع أحد وسط الزحام.
يعمل سائق الحافلة على نقل النازحين، بعد أن نجح في إجلاء عائلته من منزله في مخيم جباليا إلى منطقة وسط قطاع غزة، وكان يكرر: "الحمد لله، وجدنا صفاً خالياً في مدرسة قريبة من وادي غزة".
تعود أصول أحمد الشنطي إلى قرية الجية المحتلة عام 1948، وهي من بين القرى التي دمرتها العصابات الصهيونية، وتبعد عن قطاع غزة نحو 20 كيلومتراً، وأثناء سير الحافلة تذكر الشنطي حكايات جده الذي توفي قبل 15 سنة، والتي أخبره فيها الكثير عن رحلة التهجير القسري من البلدة برفقة والديه خلال النكبة الفلسطينية، وهو الوضع نفسه الذي يعيشه في تلك اللحظة.
في الطريق، شاهد الشنطي ابنه الأكبر عبد الله (12 سنة) يبكي، فحاول تهدئته، ليسأله الفتى عن مدة بقائهم خارج المنزل، فلا يجد الأب رداً. تحركت العائلة من منزلها في حي الشيخ رضوان بمدينة غزة إلى خانيونس جنوبي القطاع، وقد قطعت الطريق في نحو ساعتين، نظراً للدمار الهائل الذي تعرّضت له الشوارع.
يقول الشنطي لـ"العربي الجديد": "عندما وصلنا إلى مدينة خانيونس، للبقاء في منزل لأحد أقارب زوجتي، شاهدنا أشلاء آدمية عند منطقة حي الزيتون، وإصابات كثيرة على طريق صلاح الدين، من بينهم أطفال، وتعرض أطفالي لصدمة كبيرة، فهذه المرة الأولى التي يرون فيها تلك المشاهد بعيداً عن التلفزيون. كان ابني عبد الله يعتقد أننا نهرب من القصف إلى مكان آمن، لكنه شعر بصدمة حين اكتشف أنه لا يوجد مكان آمن. إن بقينا أحياء سأحدثه عن جدي الذي هجّره الاحتلال في النكبة.
يحمل أحمد الشنطي صفة لاجئ في غزة، وهو الآن نازح أيضاً داخل القطاع، ومثله كثيرون ممن نزحوا خلال الأيام الأخيرة، والذين حرصوا على حمل أوراقهم الثبوتية معهم، ضمن حقائب صغيرة تضم صور العائلة، وبعض الذكريات التي تعني لهم الكثير. من بين هؤلاء جبر المدهون النازح من مخيم الشاطئ، والذي كان يمسك حقيبة جلدية تضم شهادة ميلاد والده، وشهادة ميلاد جده الصادرتين قبل احتلال فلسطين.
نزح المدهون برفقة مجموعة من عائلته، يبلغ عددهم قرابة الـ 40 فرداً، وجميعهم يحملون أوراقهم الثبوتية، كما أن بعضهم كان يحمل فراشاً وأغطية لأنهم لا يثقون بإمكانية تأمين مكان للمبيت، وغالبيتهم باتوا في الشارع ليلة الجمعة، لأن المنزل الذي تجمعوا فيه لم يتسع للجميع.
يقول المدهون لـ"العربي الجديد": "غادر كثير من الأشخاص مناطقهم في شمالي القطاع، وبعضهم كانوا حفاة، البعض نزحوا إلى مخيم الشاطئ حيث كنا نقيم، ثم نزحوا معنا مجدداً حين قررنا التوجه إلى منطقة وادي غزة، ومشهد النزوح جعلني أبكي لأننا شعب يستحق الحياة".
وتشير بيانات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة "أوتشا"، إلى أن عدد النازحين داخل القطاع المكتظ بـ2.3 مليون نسمة، يقترب من نصف مليون شخص، وصل معظمهم إلى مدارس وكالة أونروا الأممية، وأعداد قليلة إلى المدارس الحكومية، مع توقعات بأن ترتفع الأعداد وصولاً إلى مليون نازح.
يعدّ "شارع صلاح الدين" أطول شوارع قطاع غزة، ويستمد اسمه من اسم محرر القدس القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي، وهو واحد من أقدم طرق العالم، كما أنه مسجل لدى وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، كونه الشارع الذي مرّت عليه جيوش مصر القديمة، والإسكندر الأكبر، والصليبيون، ونابليون بونابارت خلال محاولاتهم الاستيلاء على بلاد الشام، لكنه اليوم شاهد على مأساة كبيرة، إذ اتخذه غالبية الغزيين مساراً للنزوح.
لا يختلف المشهد كثيراً في غزة عن الصور العالقة في أذهان الفلسطينيين عن تهجير أجدادهم خلال الاحتلال الصهيوني في عام النكبة 1948، لكن هذه المرة، يذوق الجيلان الثالث والرابع للنكبة مرارة تجربة النزوح القسري لحماية أطفالهم.
تقول زينة الفراني (52 سنة) وهي جدة لأربعة أطفال: "التهجير هذه المرة مختلف عن ما جرى لأجدادنا في النكبة، فالاحتلال لا يجبرنا على النزوح فقط، بل يراقبنا بطائراته وتقنياته في كل خطوات النزوح. نزحنا سيراً على الأقدام، وكنت أحمل حفيدتي ألين، وعمرها سنتان، لبعض الوقت خلال السير. واصلنا المشي لمدة ثلاث ساعات من حي الزيتون شرقي مدينة غزة إلى منطقة قريبة من قرية المغراقة، بالقرب من وادي غزة.
وقررت الكثير من العائلات الغزية السير على الأقدام، بعد أن فشلت في العثور على وسيلة مواصلات، وسار بعضهم ساعات طويلة للوصول إلى مناطق الجنوب، إذ إن النسبة الأكبر من السائقين عجزت عن تأمين المحروقات، في ظل إغلاق غالبية محطات الوقود، بينما البقية القليلة كانوا يواصلون العمل بصعوبة في ظل تدمير الاحتلال الكثير من الطرق المؤدية إلى المناطق التي يريد الغزيون الوصول إليها.
تقول زينة الفراني لـ"العربي الجديد": "لا نعرف إلى أين نذهب، كنا فقط نسير وراء الناس، وكنت جائعة وعطشة ومتعبة، فتوقنا قليلاً للراحة، وكنت قد خصصت الماء الذي أحمله في زجاجة معي للأطفال، فمنحتني سيدة تسير بالجوار بعض الماء لأشرب، ثم تابعنا السير وسط جو من الرعب. الناس خائفة على نفسها، وعلى الأطفال، والبعض يشعرون باليأس من تكرار المآسي، لكنني لست من هؤلاء".
في الأيام الأولى للعدوان، قررت العديد من عائلات قطاع غزة عدم النزوح، والبقاء في منازلها إيماناً منها بعدم وجود منطقة آمنة من القصف، والبعض يرفض تصديق شائعات الاحتلال حول المناطق التي يجب التوجه إليها. لكن مع مرور الأيام، اقتنع بعضهم بضرورة النزوح، خصوصاً أنه لن يكون الطعام متوفراً في المنطقة، فضلاً عن حالة الرعب التي يعيشها أطفالهم.
تعرّض منزل علي يونس في حي النصر بمدينة غزة لأضرار متوسطة بسبب قصف الاحتلال، فقرر النزوح بعد أن كان يرفض ترك المنزل، لكنه لم يعثر على سيارة تنقل عائلته، فقرر السير، وحين وصل مع أسرته إلى مفترق "شارع دولة"، شاهد مئات من الأشخاص على الطريق، وسيارات ممتلئة، والبعض يتمسّكون بخلفية السيارات، وآخرون يتشبّثون بنوافذها، بينما هو يتابع كل هذا مع طفليه بصمت وصدمة.
يقول يونس لـ"العربي الجديد": "كانت الرحلة مرهقة، ومشينا فوق الأنقاض والزجاج في بعض الشوارع، كنت أشعر بأنني أشاهد أحداث مسلسل (التغريبة الفلسطينية) في الشارع، فالأطفال يمسكون بأيدي ذويهم وهم مرتعبون، ويشعرون أن كائناً قاتلاً يلاحقهم، والكثير منهم في حالة صدمة، بينما البعض لا يدركون الفاجعة، ويسيرون كما لو أنهم ذاهبون إلى نزهة، بينما الكبار يشعرون بقليل من الأمان بسبب كثرة الناس من حولهم".
يتابع: "أعتقد أن المشاهد التي رأيتها بعيني خلال رحلة النزوح هي نفسها التي عاشها أجدادنا حين أجبرهم الاحتلال على التهجير القسري. أردت البقاء في المنزل رغم أنف الاحتلال، لكنني لم أتحمل نظرات الرعب في أعين أطفالي، وأقنعت نفسي بضرورة النزوح لإنقاذهم، لعلهم يكبرون ويبنون مستقبل بلادنا. نحن فلسطينيون، ولدينا رسالة، وحماية أنفسنا وأطفالنا أمر واجب، عمري 37 سنة، وأعمل مهندس برمجيات، ولدي طفلان، وكل يوم أحكي لهما حكايات عن فلسطين، وعن عدالة قضيتنا، وأريد أن أستمر في فعل ذلك حتى أزرع بداخلهم القوة، وأمنحهم الأمل في مستقبل أفضل".