في مذكرات الإمام محمد عبده (1849- 1905)، والتي أعيد نشرها في مارس/آذار 1993، مقال نشره في مجلة "المنار" عام 1902، رداً على إعلان الخديوي عباس الاحتفال بمرور مائة عام على حكم الأسرة العلوية لمصر، وهو الاحتفال الذي وجده الإمام يعبر عن تقديس الاستبداد، وجعله يضمن مقاله بعضاً مما فعله محمد علي بالبلاد.
ينطبق المقال كثيراً على الأوضاع الراهنة في مصر، وربما لو أنك قرأته دون أن تعرف كاتبه والسياق الذي كتب فيه والوقائع التي كتب عنها، لظننتها تدور حول ما يجري في مصر حالياً.
الواقع أن لكل مستبد حاشية تخدم رغباته، ومنافقون يزينون له نزواته، وكتاب يروجون لدى الشعب مهاتراته، وبمرور الوقت يخيل إلى المستبد أنه المتفرد بالحكمة والرؤية الثاقبة، وأن معارضيه مجموعة من المعتوهين أو الخونة والعملاء.
كتب الإمام في مقاله: "كانت البلاد تنتظر أن يشرق نور مدنية يضيء لرؤساء الأحزاب طرقهم في سيرهم لبلوغ آمالهم، أو كانت تنتظر أن يأتي أمير عالم بصير فيضم العناصر الحية بعضها إلى بعض ويؤلف منها أمة تحكمها حكومة منها. فما الذي صنعه؟ لم يستطع أن يحيي ولكن استطاع أن يميت، استعان بالجيش وبمن يستميله من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه، ثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر على من كان معه أولاً وأعانه على الخصم الزائل فيمحقه، وهكذا حتى إذا سحقت الأحزاب القوية وجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة فلم يدع منها رأساً يستتر فيه ضمير، وأجهز على ما بقي في البلاد من حياة أنفس بعض أفرادها، فلم يبق في البلاد رأساً يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه، أو نفاه".
ويضيف: "أخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى. حتى انحط الكرام وساد اللئام ولم يبق في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة وعلى أي وجه، فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأي وعزيمة واستقلال نفسي ليصيّر البلاد المصرية جميعها إقطاعاً واحداً له ولأولاده، على أثر إقطاعات كثيرة كانت لأمراء عدة".
وتابع: "هل فكر في بناء التربية على قاعدة من الدين أو الأدب؟ هل خطر في باله أن يجعل للأهالي رأياً في الحكومة؟ هل توجهت نفسه لوضع حكومة قانونية منظمة يقام بها الشرع ويستقر العدل؟".
وتناول الإمام محمد عبده في مقاله دور رجال الدين في تمادي الحكام في الظلم والفساد، فكتب عن علاقة المستبد بشيوخ السلطان: "قصارى أمره في الدين أنه كان يستميل بعض العلماء بالخُلَعْ أو إجلاسهم على الموائد؛ لينفي من يريد منهم إذا اقتضت الحال ذلك، وأفاضل العلماء كانوا عليه في سخط ماتوا عليه".
اقرأ أيضاً: صناعة الدواعش