على بعد أمتار قليلة من مسجد الإيمان، حيث كانت مئات الجثث ملقاة على الأرض في حر أغسطس/آب وسط أكوام من الثلج لحفظها حتى الدفن، دار حديث هادئ تخلله كلام عابر لبعض القضايا والتوجهات السياسية، عن مذبحة رابعة العدوية التي وقعت في الرابع عشر من أغسطس/آب 2013.
مذبحتا رابعة العدوية والنهضة وقعتا أثناء فض اعتصام مؤيدي الرئيس المعزول، محمد مرسي، في ميداني رابعة العدوية بالقاهرة، والنهضة بالجيزة، على يد قوات الأمن المصرية بمشاركة الجيش، وأسفرت عملية الفض عن مقتل ما يقرب من الألفي قتيل بطلقات نارية مباشر. كما أوقعت من الإصابات ما يتجاوز الخمسة آلاف مصاب، وما يقارب 300 مفقود، و50 جثة متفحمة، واعتقال 790 شخصا، بحسب التقارير الحقوقية الدولية.
مراقب الميدان.. قصة أول رصاصة
كان محمد رفعت (وهو اسم مستعار بناءً على رغبة الراوي خشية الملاحقات الأمنية)، أحد عناصر تأمين منصة اعتصام مؤيدي الرئيس المعزول محمد مرسي، هو أول من رأى احتشاد آلاف الجنود المصريين من الجيش والشرطة من أجل اقتحام الميدان وفض الاعتصام.
يقول محمد "فجر الرابع عشر من أغسطس/آب 2013، كان لدينا شبه يقين بأن عملية الفض ستكون اليوم، كنا نتوقع سيناريوهات للفض أقل بشاعة ودما مما تم". ويستطرد "طلب مني أحد مسؤولي المنصة أن أصعد أعلى مئذنة مسجد رابعة العدوية، وأن أحمل منظار المراقبة، وأتفقد الوضع".
كانت الساعة حوالي 5 و45 دقيقة، عندما صعد رفعت ليتفقد الوضع، ويبلغ به المسؤولين عن المنصة من خلال جهاز "هوكي توكي" لاسلكي مع عناصر التأمين والمسؤولين عن المنصة. ولكنه قبل أن يهبط للأرض، كان قد سمع ثلاث طلقات متتالية، ورأى سحابات الغاز المسيل للدموع تنتشر على أطراف الميدان، فعلم أن ساعة الحسم قد آنت.
يتابع رفعت "حركتي كانت بين المنصة والمستشفى الميداني، وفيما كنت أحاول نقل أوان مليئة بالمياه للداخل لإسعاف المصابين، أُصبت في ذراعي الأيمن. في البداية لم أبالِ بالإصابة، ولكن بعد قليل بدأت أفقد إحساسي بها والتحكم فيها، فدخلت المستشفى الميداني لأطبب الجرح".
داخل المستشفى الميداني، يحكي رفعت "معظم الإصابات كانت بطلق ناري نافذ، وكانت حالة انفجار في الرأس تدخل بمعدل حالة كل 10 دقائق، وكانت القاعتان الأولى والثانية بالمستشفى ممتلئتان عن آخرهما، فأرشدني طبيب إلى القاعة الثالثة. دخلت فوجدت أمامي رجلا يلف حول بطنه مفرش سرير، سألني عن إصابتي، فقلت له: طلق في ذراعي، فرد علي: دي تعويرة صغيرة، أنا أحشائي خرجت من بطني"، كشف له عن الإصابة، فشعر رفعت بالخجل، بعدها ربط ذراعه لوقف النزيف وعاد مسرعا للميدان من جديد.
يُبرئ رفعت قيادات جماعة "الإخوان المسلمين" من اتهامات تخليهم عن المعتصمين وقت الفض، فيقول "حتى الحادية عشرة صباحا كانت معظم القيادات أعلى المنصة تحاول تشجيع الناس وحثهم على الصمود. كان من بينهم صفوت حجازي وجمال عبد الهادي وحسين عبد الظاهر ومحمد البلتاجي ومصطفى شلبي وغيرهم".
ويتابع رفعت الحديث قائلا "علمت باستشهاد ابنة محمد البلتاجي من حديثه الصحافي في قلب الميدان، وهو يقول: نحن لا نقبل العزاء.. ونزف بنتنا إلى الجنة عروسة السماء. كعادته كان صامدا ومتماسكا ومحافظا على هدوئه وابتسامته الودودة حتى في أصعب الظروف".
عمارة المنايفة.. حصن المعركة الأخير
من المنصة، إلى عمارة المنايفة التي تبعد عشرات الأمتار عنها، روى أحمد إبراهيم (تم تغيير اسمه بناءً على رغبته خشية الملاحقات الأمنية)، قصة ملاذ وصمود المعتصمين حتى غياب آخر شعاع للشمس.
يقول إبراهيم، وهو طبيب مصري شارك في إنقاذ المصابين "منذ بداية عملية الفض، سلكت الكثير من الشوارع الجانبية للوصول للاعتصام، فقادتني الممرات والشوارع التي تمكنت من عبورها وسط الرصاص الحي وأعمدة دخان الغاز المسيل للدموع إلى عمارة المنايفة، فوجدت فيها مستشفى ميدانيا صغيرا في الجراش، وبه مسعفة ومسعفان يرتديان زي الصليب الأحمر الدولي، حضروا لإنقاذ المصابين".
يضيف إبراهيم "كانت السيدات والفتيات يكسرن الحجارة، وعدد من الشباب ينقلها لأعلى العمارة لمواجهة سيل الرصاص، وخلال هذه العملية، كان الرصاص قد هدأ بعض الشيء، فبدأ المعتصمون في صناعة زجاجات مولوتوف بأقل الإمكانيات المتاحة للدفاع عن أنفسهم، وحوالي الساعة الثالثة عصرا، عاد ضرب النار بكثافة كبيرة للغاية، لدرجة أنني رأيت جنديا على مدرعة، يلف بزاوية 360 درجة ويفتح النار من سلاحه بشكل عشوائي طوال مرور المدرعة في الشارع".
وفي هذه الأثناء، كان هناك رجل خمسيني يعبر الشارع محاولا الاحتماء بالعمارة الخرسانية التي تتصدى للفض، فأصيب بطلق ناري في فخذه من الخلف، فتوجه نحوه شاب محاولا سحبه خارج مرمى النيران، فأصيب هذا الشاب، فتوجه آخر لإسعافه وسحبه للداخل، فأصيب برصاصة أودت بحياته في الحال. حينها، توجه إبراهيم وشاب آخر لإنقاذ الرجل، فأصيب إبراهيم برصاصة اخترقت ذراعه الأيمن، وخرجت من الجانب الآخر.
يتذكر إبراهيم حينها، أنه رأى أحمد عبد المنعم أبو الفتوح، نجل رئيس حزب مصر القوية، عبد المنعم أبو الفتوح، فقال له غاضبا من موقف والده السياسي آنذاك "روح قول لوالدك اللي بيحصل في الناس.. احكيله عن الدم والقتل بالجملة".
وبعد غروب الشمس واختفاء آخر شعاع نور كان يضيء للمعتصمين مواجهتهم مع قوات الأمن، تمكن إبراهيم من مغادرة الميدان في سيارة نقلته لأقرب مستشفى خاص لعلاج يده.
يقول إبراهيم: "كان لدي خوف شديد من التوجه لمستشفى حكومي، ومخاوفي كانت في محلها، فقد تبيّن لنا بعد ذلك أن المستشفيات كانت تبلغ جهات الأمن عن مصابي رابعة للقبض عليهم"، كما حدث مع صديق له بمستشفى الدمرداش، حيث توجهت قوة أمنية وقبضت عليه وعلى من أوصله للمستشفى بمجرد تسجيل أسمائهم في كشوف الدخول.
يضيف إبراهيم "في أحد المستشفيات الخاصة، أجريت جراحة بسيطة لتضميد الجرح ووقف النزيف، أما العملية التي أجريتها، فكانت في إحدى محافظات الدلتا، حيث جاء والدي وشقيقي واصطحباني لمستشفى في أقاليم مصر، خشية الملاحقات الأمنية التي تتم مع مصابي الفض في القاهرة والجيزة".
المعارضون في الخارج.. وحلم العودة للوطن
من محيط مسجد النور، إلى تركيا شمالا، خرجت "ش.م" من مصر في يناير/كانون الثاني 2015، قبل ذكرى الثورة بأيام معدودة.
كان القلق على أشدّه نتيجة التضييقات الأمنية المحكمة على المعارضين في مصر بشكل عام، وبسبب الحكم عليها بالسجن ست سنوات في قضيتين "ملفقتين" لا تزالان منظورتين أمام القضاء المصري، وبالتالي فحلم العودة لا يزال بعيدا، على الأقل لحين انتهاء مراحل التقاضي كاملة.
كل شيء بالنسبة لـ"ش.م"، يحمل النقيضين "الحلو والمر"، على حد تعبيرها، "فالذكرى الحلوة التي تجوب خاطري وأشتاق لها ولأهلي وبلدي وأصدقائي، هي مجرد ذكرى أنا مجبرة على أن أبقي التعامل معها باعتبارها ذكرى".
على الجانب السياسي، تقول "ش.م"، إن الناس أصبحت في "ضنك" بالمعنى الحقيقي للكلمة، والوضع السيئ يزداد سوءاً، سواء بالنسبة للناس العاديين الذين يبحثون فقط عن لقمة عيشهم، أو بالنسبة لآلاف القابعين في السجون الذين أصبحت حياتهم وحياة أسرهم مدمرة، الأمر نفسه ينطبق على كل بيت فقد عزيزا عليه.