صار خطاب تبرير الأزمات المتفجرة في مصر سلوكاً يومياً، لا يقتصر على مؤسسات الدولة الرسمية بل يمتد إلى مسانديها من مجموعات المصالح ووسائل الإعلام المدافعة عن النظام. كأن تبرير إخفاق النظام ينهي مسببات الأزمات ومشكلات الواقع المتفاقمة.
والحال أن هذا الخطاب الذي يشوبه الخداع يتكرر في كل ما يمس جوانب الأزمات الاقتصادية
الحالية، ولا يدع بطبيعة الحال ملفاً إلا ويخلق له كتالوغاً جاهزاً ليعلنه للمتضررين من الأزمة.
يستطيع المرء قراءة هذا المشهد البائس مع أزمة انخفاض الاحتياط النقدي إلى أدنى حدوده، والذي تأثر بدفع الديون، ويتشابك في الوقت ذاته مع انخفاض سعر صرف الجنيه مقابل الدولار. الارتفاع المتتالي لسعر صرف الدولار أرجعه الخطاب الرسمي إلى ميل المصريين لتحويل مدخراتهم إلى الدولار، بدلاً من الجنيه.
كأن المصريين الذين يصنف نصفهم كفقراء قادرين على الادخار، وهم بالكاد يؤمنون متطلبات معيشتهم بشكل يومي، إذ يتناسى هذا الخطاب التبريري كيف انخفضت قيمة الجنيه مقابل الدولار، وكيف استُغلِّت هذه الظروف ليصبح ارتفاع الدولار مصدراً لثراء قلة من الأغنياء، ومصدراً لشقاء الأكثرية الساحقة من المصريين، الذين تكويهم فروق أسعار السلع المستوردة.
واقع الحال أن أسباب الأزمة لا تخضع للمناقشة الجدية، ويكتفي النظام برفع شعار أن الجميع يعاني من الأزمة، وأن الشعب الذي يعاني، هو سبب الأزمة! هكذا وببساطة تتوه الخطوط والدوائر وتنسج أحاديث وخطابات تبريرية، ويغيب تحديد وتشخيص المرض الذي يعتبر ارتفاع سعر صرف الدولار عارضاً له.
لا يمكن أن تتعامل هذه السلطة بواقعية أو تنتج خطاباً يرصد الأسباب والحقائق، ويشخّص المرض، لأن ذلك يعني ببساطة كشف إخفاقها وبؤس سياساتها وقلة حيلتها وكشف انحيازاتها، ويستتبع ذلك أيضاً تغيّر هذه السياسة.
اقــرأ أيضاً
وهذا التغيير يعني المساس بمصالح الفئات التي تساند السلطة وتستفيد في الوقت ذاته من وقع الأزمة الاقتصادية. على سبيل المثال، إذا اعتبرنا أن زيادة الاستيراد مقابل التصدير هي سبب للأزمة، فإن علاج ذلك يستدعي، بطبيعة الحال، السير في طريق الإنتاج وتشجيع دور الدولة في التصنيع وضخ مبالغ أكبر للاستثمارات المباشرة.
وهو الحل الذي يتناقض مع سياسة الدولة والمجموعة الحاكمة التي تحتكر الأسواق لمصلحتها، وتراكم من جرّاء ذلك الأرباح والثروات. ولو افترضنا أيضاً أن الدولة ستطبق سياسة تحد من استيراد السلع، فإن ذلك سيحد من رفاهية الطبقة المترفة التي تدعم النظام بلا أدنى شك، وسيخفض في الوقت ذاته من أرباح المصدّرين الذين يحتكرون العديد من السلع الضرورية.
لا يمكن أن يكون خطاب السلطة واقعياً وجاداً في نقاش الأزمة، لأن هذا يفترض التشخيص
الصحيح والعلاج وقبل ذلك الاعتراف بالإخفاق، والإقرار بأنه وارد أن تخفق السياسات المطبقة ويثبت خطؤها، وهذا يستدعي استبدالها بسياسات جديدة. غير أن طبيعة النظام السلطوي تمنعه من الاعتراف بالخطأ، أكان على مستوى القرارات السياسية أو على مستوى الأداء الاقتصادي.
كما أن النظام الذي يعتمد حكم الفرد على حساب المؤسسات لا يسمع بالنقاش المجتمعي ويراه غير مجدٍ وليس أفيد مما يراه الزعيم الذي يفهم في الاقتصاد والسياسة والفلسفة والدين أحياناً!
والنظام السلطوي لا يمكن أن يستبدل سياساته القائمة بسياسات بديلة، لأن ما هو قائم كافٍ لتحقيق مصالح النظام والفئات التي تؤيده، نظام حكم الفرد لا يؤمن بنهج المراجعة أو التغيير. فانخفاض العوائد الدولارية سببه المضاربة، أي سببه الشعب. وذلك دون تحليل لماذا تنشأ المضاربة على عملة أو سلعة ودون النظر في مسببات انخفاض المصادر التقليدية والمتذبذبة للنقد الأجنبي، كعوائد السياحة وقناة السويس، ودون البحث أيضا في جذور الأزمة بشكل أعمق عبر تتبّع أسباب تراجع الصادرات وزيادة معدلات الاستيراد.
كذلك، يستغرب خطاب النظام شكوى الناس من ارتفاع الأسعار، ويرى أنها تندرج ضمن سياسة إنكار الإنجازات، ويبرر الشكوى دوماً بدوافع ومسببات، منها المؤامرات الخارجية التي تستدعي هدم عزيمة المصريين.
بل ويعتبر أن كل تقدم يحدث في مصر سوف يتزامن معه ارتفاع في أسعار السلع والخدمات. فخطاب التبرير لا يتخذ خطوات للتغيير انطلاقاً من أنه لم يخفق بعد.
تغرق النظم السلطوية، إلى جانب التبرير، في استخدام الدعاية المكثفة لتثبت أن الواقع ليس كما نراه. وينطلق هذا الخطاب من الأماني دون أن يتجاوزها إلى واقع حقيقي، مكرراً دوماً الحجج نفسها عن مسؤولية النمط الاستهلاكي المسرف، كما لو أن كل المصريين يسكنون في فيلات ويجلبون وجبة العشاء من باريس. وينسحب هذا المنهج على أزمة الموازنة التي يرى النظام جذورها في الدعم والأجور، في تجاهل تام للنهب المنظم للثروات.
يفرض النظام كل شهر قوانين وإجراءات جديدة تزيد من أعباء المصريين مالياً. فكل شهر
يستقبل المصريون قراراً أو تشريعاً يعمق أزمات الاقتصاد ويضيف أعباءً جديدة عليهم. من زيادة أسعار السلع والخدمات، إلى فرض ضرائب جديدة تصاغ تحت عناوين برّاقة كتوسيع مظلة الضرائب وعدالة السياسة الضريبية، بينما الواقع يكشف عن زيادة معدلات الاستغلال واستمرار سياسة مد أيادي مسؤولي الحكومة إلى جيوب المواطنين الذين لا تكفيهم رواتبهم لنهاية الشهر.
ليست مصر بمفردها التي ينتشر فيها هذا الخطاب، فغالبية الحكومات العربية حين تناقش أزمة الاقتصاد تردها إلى تراخي الشعب وعزوفه عن العمل والإنتاج، محمّلة مواطنيها أزمة عجز الموازنة وضعف الأداء الاقتصادي، كأن المواطنين هم من يديرون العملية الاقتصادية.
ببساطة، إننا أمام خطاب تبريري ودعائي يعبّر عن فشل ذريع للسلطات العربية التي تدير اقتصاد بلدانها بطريقة تسمح بالنهب وتعظيم الثروات لمن يحكمون، وتنتج البؤس والشقاء للفئات المحكومة، المكبلة بقيود المعاناة الناتجة من الأزمات الاقتصادية، والمحاصرة ببنى الاستبداد وأدواته القمعية.
ومجمل هذا الخطاب البائس ينبئ بفشل هذه الأنظمة وإفلاسها وانتهاء صلاحيتها، ويؤشر مستقبلاً إلى أن نقد هذا الخطاب سوف يتجسد في أفعال تمرّد ستندلع بقوة، إذا وجدت من يؤطرها في فعل اجتماعي وسياسي منظم.
(باحث في الأنثربولوجيا الاجتماعية)
يستطيع المرء قراءة هذا المشهد البائس مع أزمة انخفاض الاحتياط النقدي إلى أدنى حدوده، والذي تأثر بدفع الديون، ويتشابك في الوقت ذاته مع انخفاض سعر صرف الجنيه مقابل الدولار. الارتفاع المتتالي لسعر صرف الدولار أرجعه الخطاب الرسمي إلى ميل المصريين لتحويل مدخراتهم إلى الدولار، بدلاً من الجنيه.
كأن المصريين الذين يصنف نصفهم كفقراء قادرين على الادخار، وهم بالكاد يؤمنون متطلبات معيشتهم بشكل يومي، إذ يتناسى هذا الخطاب التبريري كيف انخفضت قيمة الجنيه مقابل الدولار، وكيف استُغلِّت هذه الظروف ليصبح ارتفاع الدولار مصدراً لثراء قلة من الأغنياء، ومصدراً لشقاء الأكثرية الساحقة من المصريين، الذين تكويهم فروق أسعار السلع المستوردة.
واقع الحال أن أسباب الأزمة لا تخضع للمناقشة الجدية، ويكتفي النظام برفع شعار أن الجميع يعاني من الأزمة، وأن الشعب الذي يعاني، هو سبب الأزمة! هكذا وببساطة تتوه الخطوط والدوائر وتنسج أحاديث وخطابات تبريرية، ويغيب تحديد وتشخيص المرض الذي يعتبر ارتفاع سعر صرف الدولار عارضاً له.
لا يمكن أن تتعامل هذه السلطة بواقعية أو تنتج خطاباً يرصد الأسباب والحقائق، ويشخّص المرض، لأن ذلك يعني ببساطة كشف إخفاقها وبؤس سياساتها وقلة حيلتها وكشف انحيازاتها، ويستتبع ذلك أيضاً تغيّر هذه السياسة.
وهو الحل الذي يتناقض مع سياسة الدولة والمجموعة الحاكمة التي تحتكر الأسواق لمصلحتها، وتراكم من جرّاء ذلك الأرباح والثروات. ولو افترضنا أيضاً أن الدولة ستطبق سياسة تحد من استيراد السلع، فإن ذلك سيحد من رفاهية الطبقة المترفة التي تدعم النظام بلا أدنى شك، وسيخفض في الوقت ذاته من أرباح المصدّرين الذين يحتكرون العديد من السلع الضرورية.
لا يمكن أن يكون خطاب السلطة واقعياً وجاداً في نقاش الأزمة، لأن هذا يفترض التشخيص
كما أن النظام الذي يعتمد حكم الفرد على حساب المؤسسات لا يسمع بالنقاش المجتمعي ويراه غير مجدٍ وليس أفيد مما يراه الزعيم الذي يفهم في الاقتصاد والسياسة والفلسفة والدين أحياناً!
والنظام السلطوي لا يمكن أن يستبدل سياساته القائمة بسياسات بديلة، لأن ما هو قائم كافٍ لتحقيق مصالح النظام والفئات التي تؤيده، نظام حكم الفرد لا يؤمن بنهج المراجعة أو التغيير. فانخفاض العوائد الدولارية سببه المضاربة، أي سببه الشعب. وذلك دون تحليل لماذا تنشأ المضاربة على عملة أو سلعة ودون النظر في مسببات انخفاض المصادر التقليدية والمتذبذبة للنقد الأجنبي، كعوائد السياحة وقناة السويس، ودون البحث أيضا في جذور الأزمة بشكل أعمق عبر تتبّع أسباب تراجع الصادرات وزيادة معدلات الاستيراد.
كذلك، يستغرب خطاب النظام شكوى الناس من ارتفاع الأسعار، ويرى أنها تندرج ضمن سياسة إنكار الإنجازات، ويبرر الشكوى دوماً بدوافع ومسببات، منها المؤامرات الخارجية التي تستدعي هدم عزيمة المصريين.
بل ويعتبر أن كل تقدم يحدث في مصر سوف يتزامن معه ارتفاع في أسعار السلع والخدمات. فخطاب التبرير لا يتخذ خطوات للتغيير انطلاقاً من أنه لم يخفق بعد.
تغرق النظم السلطوية، إلى جانب التبرير، في استخدام الدعاية المكثفة لتثبت أن الواقع ليس كما نراه. وينطلق هذا الخطاب من الأماني دون أن يتجاوزها إلى واقع حقيقي، مكرراً دوماً الحجج نفسها عن مسؤولية النمط الاستهلاكي المسرف، كما لو أن كل المصريين يسكنون في فيلات ويجلبون وجبة العشاء من باريس. وينسحب هذا المنهج على أزمة الموازنة التي يرى النظام جذورها في الدعم والأجور، في تجاهل تام للنهب المنظم للثروات.
يفرض النظام كل شهر قوانين وإجراءات جديدة تزيد من أعباء المصريين مالياً. فكل شهر
ليست مصر بمفردها التي ينتشر فيها هذا الخطاب، فغالبية الحكومات العربية حين تناقش أزمة الاقتصاد تردها إلى تراخي الشعب وعزوفه عن العمل والإنتاج، محمّلة مواطنيها أزمة عجز الموازنة وضعف الأداء الاقتصادي، كأن المواطنين هم من يديرون العملية الاقتصادية.
ببساطة، إننا أمام خطاب تبريري ودعائي يعبّر عن فشل ذريع للسلطات العربية التي تدير اقتصاد بلدانها بطريقة تسمح بالنهب وتعظيم الثروات لمن يحكمون، وتنتج البؤس والشقاء للفئات المحكومة، المكبلة بقيود المعاناة الناتجة من الأزمات الاقتصادية، والمحاصرة ببنى الاستبداد وأدواته القمعية.
ومجمل هذا الخطاب البائس ينبئ بفشل هذه الأنظمة وإفلاسها وانتهاء صلاحيتها، ويؤشر مستقبلاً إلى أن نقد هذا الخطاب سوف يتجسد في أفعال تمرّد ستندلع بقوة، إذا وجدت من يؤطرها في فعل اجتماعي وسياسي منظم.
(باحث في الأنثربولوجيا الاجتماعية)