في عام 2017 حصل الشاعر التونسي أيمن حسن على جائزة "روجي كوفالسكي للشّعر" الفرنسية، وقد كان أوّل شاعر عربي وأجنبي ينال الجائزة التي نالتها أسماء مثل إيف بونفوا وفرانك فيناي، لكن تجربته الشعرية بقيت بعيدة عن متناول القارئ العربي. هنا قصائد مختارة من بعض مجموعات صاحب "تَوْنَسَة" ترجمها لـ"العربي الجديد".
لاعب الشطرنج
ستجد مكاناً في مصيرك
بين الآخرين معدومي الوجوه
أيها اللاعب ذو الأفكار القاتمة
يا من يهدِّد ملكاً شريداً
معهم تحفر قبرك
معهم تعدُّ الدقائق
التي ستجنّبك السقوط
أيها اللاعب المتهاوي
هل اخترت الموت أم الحياة؟
دع عنك بيادق السفسطائيين
وكن فيلسوفاً
كم أشفق عليك يا لاعب الشطرنج الملعون.
(من مجموعة "براعم وبواكير"، 1999)
■ ■ ■
أرخبيل
بيننا يمتدُّ البرزخُ
الكلام الذي كان بيننا صَمَتَ
أجماتٌ تحجب وجهكِ
بعض الأنسجة تغطي مَلْمَحَكِ
بيننا يمتدُّ الصّمت الصّاخب والكلام الذي كان بيننا يرتخي
الحجر القرمزيّ ينصهر منحوتاً بالريح والمطر والموج
ينبلج الفوحانُ بين الثمرة وجلدها
البرزخ يمتدّ حتّى الأسى
أرقبُ المعنى في الفجر
بين الضّفاف البعيدة اللازوردُ يستقبل الأحياءَ
الجوّ الغارق يمتلئ بكل الأصوات
عندها إذن تولد الكلمة
ليس للصّمت مكانٌ في برزخ أيامي
ببطء تكبُرُ ذاكرتي تنبني بكلمات وطلاسم ذات أصوات حادّة لعصافير ما وراء البحار
أرقبُ المعنى في الفجر
(من مجموعة "على راحة يدي"، 2003)
■ ■ ■
أبجدية الساعة الزّرقاء
أ
فَلتُسْقِطِ السماءُ قِناعها اليومي
فلينحدر على حافة الماء
هذا الفضاء المعتم
وليسكنِ الليلُ حيث الكلمات
ذرّات دموعٍ
تهوي في بياض العيون
أزرقُ الليل
نورُ
الساعة الزرقاء
ب
ظلّ داخل الظل
جرح مفتوح في النظرة الهزيلة
للنور
زخرفة من الحرير
صارت بُنّيةً من أثر الدم
يد تخيط شفتي الجرح ─
لا يهم
سيلان الأزرق هذا
سيتكلم باسمك
ت
ليلة بعد ليلة
يزرقُّ جسد السماء من فرط الكدمات
يهدِّدُ الآلهة بالسقوط ─
كلُّ ما يملكه الإنسان
يُضَحِّي به لإنقاذ
بصيرته
ليلة بعد ليلة
وكأنّها مراسٍ في الأزرق
الدموع تصعد في عيون السماء
عندما يتحدّث الآلهة في صمت
ث
في عين طائر الليل
الذي فرّخ للتو
هذا النور الضعيف
صوت خصيّ
يَزيدُ الغروبَ عتمةً:
يزداد القمر إشعاعاً
بفضل طيران البوم
ظلُّ الطريدة
يمرّ عبر الحدقة الزرقاء
في العين السوداء
لطائر الليل
يبقى الأبيض باسلاً ─
عشٌّ من قشٍّ يأخذ من الفجر زرقته
ج
تحت الجفون
فوق الأبيض الداكن
عيونٌ تحترق بالليل
الصمتُ يُخلِّفُ الصدأ
في زوايا
الليالي البيض
لكن ما الذي يبقى لنراه
سوى الليل ذاته
الليلِ ذي الوجه البشري؟
ح
ليلٌ ذو عيونٍ معنّفة
بيد أنّها برّاقة
كما بتوهّج
أبداً لم يقع الطعن فيه
إنها ميداليّة دون قفا
تحمل في ثناياها الوجه ذا الثلاثة آلاف عام
لا يكاد قد مسّها صدأ النحاس
خ
لمرّة واحدة الكتابة
أزرق على أبيض
صمت على كلام ─
العيون شديدة الانغلاق
عند منام الليل
تشهد انبلاج الساعة الزرقاء
مرة أخرى الكتابة
أزرق الليل
نور
الساعة الزرقاء
د
والدم الأزرق حبيس
عروق الرماد
والليل الذي يحترق
على طرف ألسنة النار
والليل الذي ليس فيه شروخ بعد
وليس فيه تماما منطقة ظل
ولا ساعة رملية حيث تسقط فيه
الريح زخات زخات
والليل دون شروخ
والبرزخ الذي يجمع بين الفضاء والزمن
والليل الذي يحترق
في الزمن ـ الفضاء
والليل البتول
والساعة الزرقاء
ذ
ليس لديك عيون أبيك الزرق
ولا النور المائي لجفونه المنغلقة
ولا الأحلام التي يلمح عبر التشقق
في وعيه النائم
ليس لديك عيون أبيك الزرق ─
تنتصبُ واقفاً
الليل
لا يُفقدك توازنك
خيط من العطر
يغمر صمتك
قشعريرة طائر "أبي زريق"
الذي يشتمُّ زهوك
تُعلنُ عن عصر ذهبي جديد:
الزعتر بين قدميك يناجي
الزياتين المزهرة ─
ر
العين الآن منطفئة
العين الزرقاء الآن منطفئة:
"مقاطع لفظيّة ─ أحرف ميّتة"
تقول في سريرتك لا شيء يُشفي أبدا
رغبتك في الليل
العين الزرقاء الآن منطفئة:
لم تعد أنت نفسك
لم تعد كلماتك نفسها
أنتم نور الظلّ ─
النورُ الأكثرُ ليلا في الوجود
ي
الآن كل السماء أبجديتك أبجدية العميان
رموز محسوسة دموع حبلى بالنور
لا عماء بإمكانه حجب الإشراق
الآن وحيدا بإمكانك أن تتلو أدعيتك
الليل يرقد في عينيك: تُبصرُ دون أن ترى
─ ومن الليل الساعةُ الزرقاء تُتوّجُ السهر
(من "أبجدية الساعة الزّرقاء"، صدر في تونس عام 2005 وفي فرنسا 2007، مع مقدمة للشاعر إيف لوكلير وتتمة لـ بيار غاريغ)
* وُلد أيمن حسن عام 1981 بحمّام سوسة في تونس، وهو شاعر يكتب باللغة الفرنسية وناقد أدبي ومترجم وأستاذ جامعي. امتاز إنتاجه، في العقدين الماضيين، بغزارة لافتة مقارنة بمجايليه.
من بين مجموعاته الشعرية وكتبه السردية والفكرية: "على راحة يدي" 2003، "شظايا النّجوم - اكتشاف الرّجل الأعوج" (2006)، "أبجديّة السّاعة الزرقاء" مع مقدمة لإيف لوكلير وتتمّة لبيار ڨاريڨ (2007)، "اليأس الجذل لدى سيوران" (2007)، "إيريبونغ" ("سموّ" بالألمانية) مع صور فوتوغرافيّة ليان توماشفسكي، (2008)، "الصّمت العمى" مع مقدّمة للشّاعر برنار نُوال (2009)، "طفولات تونسيّة" (2010)، "حضوريًّا. شذرات الدّيجا فو" (2010)، "الكذبة العظيمة" 2011.
ترجم نصوصًا من العربيّة إلى الفرنسيّة والعكس بالعكس. من بين الأعمال التي نقلها إلى العربية "لحظة موتي" لموريس بلانشو، وهو بصدد تحضير ترجمة عربية لـ"أسطورة الإنسان" لأرمال فارن و"غائب عن بغداد" لجون كلود بِيروت.
أما ترجماته إلى الفرنسية: فمن آخرها: "قارب إلى لسبوس" للشاعر السوري نوري الجرّاح (2016)، و"كونشيرتو القدس" للشاعر السوري أدونيس (2016)، و"شحرور المدينة المعتقَلة" مختارات من قصائد الشّاعر المنصف المزغنّي (2014)، و"ما أكثر ما أعطى، ما أقلّ ما أخذت" مختارات من الشاعر التونسي محمد الغُزّي (2009).
آخر إصدارات أيمن حسن كان رواية تحت عنوان "المأزق أو فنّ الحب التونسي" وهي بمثابة لقاء جديد بين معلّم وتلميذه، كانت فرّقتهما الثورة. لقاء يبدو ضارباً في التعقيد لأنّ السيد يبدو متورطاً في قضية اختفاء امرأة. وسط الفوضى السياسية، قصة حب تختم مصير رجل ومصير جيل عدة صفحات من تاريخ بلد بأسره ‒ كلّها مدفوعة إلى "مأزق".