لكل جبهة من جبهات القتال في اليمن خصوصيتها وظروفها المختلفة، لكن لجبهات محافظة البيضاء قصة متفردة، فالاقتراب منها محفوف بالعديد من المحاذير، كما أن زيارتها مصحوبة بتوسلات الأقارب والزملاء بعدم التوجه لتلك المحافظة المشتعلة منذ ما قبل سبتمبر/أيلول 2014، إذ يتعدد الغرماء والأطراف المشاركة في المواجهات من القوات الحكومية إلى الحوثيين ومسلحي تنظيم "القاعدة"، وصولاً إلى ضربات الطائرات الأميركية بدون طيار.
وحين يتعلق الأمر بزيارة جبهة قانية، إحدى جبهات البيضاء، فالأمر بالتأكيد أكثر خطورة، إذ تسيل الدماء "حمراء قانية"، في هذا الجزء الملتهب الذي يتوسط اليمن، كما يتوسط أغلب نقاط التماس بين مناطق سيطرة الحكومة الشرعية ومناطق سيطرة الحوثيين. وتحد محافظة البيضاء ثماني محافظات من جميع الجهات، فمن الشمال هناك مأرب وصنعاء، ومن الشرق شبوة، ومن الجنوب أبين ولحج، ومن الغرب والجنوب الغربي ذمار وإب والضالع. وبالتالي تغدو السيطرة على هذه المحافظة مفتاحاً للتحرك في جميع جهات اليمن، شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وهو على الأرجح، ما جعلها هدفاً استراتيجياً للسيطرة والتواجد من قبل كل الأطراف المتنازعة وسط اليمن، الشرعية والحوثيين و"القاعدة"، وأخيراً تنظيم "داعش".
البيضاء و"القاعدة"
تصدرت البيضاء أخبار المواجهات والتطورات المرتبطة بأنشطة تنظيم "القاعدة"، والضربات الجوية التي تستهدف العناصر المشتبه بأنها تنتمي إلى التنظيم منذ سنوات، خصوصاً بعد انتقال عناصر من محافظات مجاورة إثر حملة شنتها ألوية عسكرية ضد مجاميع "القاعدة" بأبين في العام 2012، وفي عزان بشبوة في 2014. ويوضح أحد وجهاء المحافظة، وهو الشيخ علي صالح بن صريمة، لـ"العربي الجديد"، قصة تواجد "القاعدة" في المنطقة، بأن مسلحي التنظيم تسللوا إلى البيضاء في العام 2011، بتسهيل من بعض وجهاء المنطقة، ثم بسطوا سيطرتهم، أول الأمر، على مدينة رداع وسيطروا على أهم مَعلمَيْن فيها، هما مسجد العامرية وقلعة رداع. لكن التنظيم اندحر بعد ذلك، لتنحصر أنشطته في القيام بمجموعة من الاغتيالات وعمليات الخطف، ما ضاعف نقمة الأهالي الذين حموا المنشآت الحكومية، وأغلقوا عليه جبهتي شبر وحرْية. وبعد رداع تحصن التنظيم في منطقة المناسح وجبل أسبيل، وتعرضت مجاميعه في تلك المناطق لقصف من طيران الحكومة وضربات الطائرات الأميركية من دون طيار، قبل أن يدخل الحوثيون على خط المواجهة أواخر 2014، ويستولوا على منطقتي المناسح وخبزة، لينسحب عناصر "القاعدة" إلى منطقة يكلا، التي لا يزالون فيها حتى اليوم. وقد كان دخول الحوثيين، الذي أثار حفيظة العديد من الوجهاء والسكان المحليين، على خط المعركة مع "القاعدة" أحد التحولات التي أثرت على مسار المواجهة مع التنظيم.
ويرى العديد ممن تحدثت إليهم "العربي الجديد" في البيضاء، أن الحوثيين كان بمقدورهم مواصلة المواجهة مع "القاعدة" نحو منطقة يكلا، لكنهم أحجموا عن هذا الأمر حتى لا تنتهي شماعة "القاعدة" في البيضاء، إذ يقدم الحوثي نفسه لأنصاره بالداخل ولبعض الأطراف في الخارج على أنه يقاتل "القاعدة" و"داعش" وأن الذين يواجهونه، في عموم البلاد وخصوصاً في البيضاء، هم مجرد "دواعش". ولذلك أصر الحوثيون على ذكر "القاعدة" برداع كأحد بنود اتفاق السلم والشراكة الذي تم توقيعه يوم سيطرتهم على العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر/أيلول 2014. وقد تكرست الصورة أكثر، بعد ذلك عندما صنّفت وزارة الخزانة الأميركية اثنين من رموز الشرعية بالمحافظة كداعمين لتنظيم "القاعدة"، وهما المحافظ الأسبق، نايف القيسي، وأمين عام حزب الرشاد السلفي، عبد الوهاب الحميقاني. كما أن منطقة يكلا شهدت أول عملية إنزال لقوات أميركية في عهد الرئيس دونالد ترامب في يناير/كانون الثاني 2017، وهي العملية الأضخم للجيش الأميركي في اليمن، منذ دخوله على خط العمليات ضد "القاعدة".
تمدُّد الحوثيين
وبالتزامن مع انطلاق عمليات التحالف في مارس/آذار2015، تمدد الحوثيون في البيضاء باتجاه منطقة السوداية ومنها إلى منطقة بيحان في محافظة شبوة شرقاً، وإلى مدينة البيضاء مركز محافظة التي تحمل الاسم نفسه جنوباً. علماً أن منطقة السوداية، التي ينتمي إليها محافظ البيضاء الحالي، اللواء ناصر الخضر السوادي، تقسم البيضاء نصفين: شمالاً بيضاء رداع، وجنوباً بيضاء حسين. وقد لاقى الحوثيون أثناء توغلهم مقاومة شرسة من أبناء المحافظة، وكان في طليعة من وقف في وجههم قبائل قيفة التي تحيط بمدينة رداع، وقبائل آل حميقان، وكذلك قبيلة آل عمر التي حلت منذ أسابيع، الذكرى الثانية، لمجزرة اتُهم الحوثيون بارتكابها بحق وجهاء من القبيلة. وكانت البيضاء، بدأت مقاومة الحوثيين منذ وقت مبكر أواخر العام 2014، في وقت تمكنوا فيه من السيطرة على محافظات مجاورة من دون مقاومة تُذكر، كما هو الحال في صنعاء وذمار وإب، فيما واجهتهم مجاميع قبلية في البيضاء وخاضت ضدهم مواجهات شرسة، ذهب على إثرها الآلاف من أبناء المحافظة بين قتيل وجريح. وتذكر مصادر تابعة للشرعية إحصائيات حول قتلى الطرفين بصورة شبه يومية، وفي المقابل، يتكتم الحوثيون عن حجم قتلاهم في هذه المحافظة التي توصف بأنها "ثقب أسود" للمقاتلين من الطرفين.
وضع ملتبس ودخول "داعش"
وأسهم الوضع الملتبس لمحافظة البيضاء في تقاعس الشرعية والتحالف عن دعم "المقاومة" ضد الحوثيين، خوفاً من سقوط المحافظة بيد "القاعدة"، وبالتالي تُركت المحافظة وحيدة لفترة ليست قليلة في مواجهة الحوثيين و"القاعدة". وزاد الطين بلة دخول تنظيم "داعش" على الخط عبر ظهور مفاجئ في بدايات العام 2017، حيث أقام معسكرين له يحملان اسمي اثنين من رموزه قُتلا في سورية، وهما أبو محمد العدناني وأبو محمد الفرقان. وقد شهد الشهران الأخيران معارك متقطعة بين مقاتلي "القاعدة" و"داعش"، في مواجهة مباغتة أضرت بسير العمليات العسكرية التي تشنها ألوية تابعة للشرعية ضد الحوثيين وقطعت على الشرعية أحد خطوط التوغل.
ويعبّر العديد من أبناء البيضاء عن توجّسهم من وجود "داعش" أكثر من توجسهم من "القاعدة"، لأسباب متعددة، يذكرون منها أن "داعش" يضم في صفوفه العديد من المقاتلين الأجانب، ويبدون استغراباً من الظهور المفاجئ للتنظيم وعن كيفية حصوله على الدعم والمؤن، وكيف أن معاركه مع الحوثيين أقل حدة، على الرغم من وقوع معسكراته في مرمى منطقة الجماجم التي يسيطر عليها مسلحو الجماعة. وفي هذا السياق، يقول الناشط السياسي، أحمد الحميقاني، إن خطر مجاميع "القاعدة" في البيضاء أقل من خطر "داعش"، ذلك أن عناصر "القاعدة"، حسب تصنيفه لـ"العربي الجديد"، هم في العادة ثلاثة أنواع: عقائديون، ومرتزقة حسب المصلحة، ولصوص أصحاب سوابق. والنوع الأول برأيه، هو الأخطر وتواجده بالبيضاء يكاد يكون صفراً. ويضرب مثالاً منطقة الزاهر التي كان يتواجد بها عناصر من تنظيم "القاعدة" وأصبحت الآن خالية من أية رايات سوداء.
من جهته، يرى وكيل المحافظة، الشيخ أحمد بن أحمد الحُطام، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن مشكلة "القاعدة" مقدور عليها في حال قامت الشرعية بإنشاء لواء عسكري لأبناء قيفة يتم عبره استرداد المقاتلين من أبناء القبيلة الذين التحقوا بالأطراف الأخرى. الجدير بالذكر أن البيضاء كانت الوجهة الأهم لمسلحين من تنظيم "القاعدة" انسحبوا من المناطق الجنوبية والشرقية، وعلى نحو خاص مدينة المكلا، مركز محافظة حضرموت، والتي سيطر التنظيم عليها لعام كامل، انتهى في إبريل/نيسان 2016، بعد تكبد "القاعدة" خسائر كبيرة جراء ضربات الطائرات الأميركية من دون طيار، والتي تصطاد قيادات التنظيم والعناصر المشتبهة بالانتماء إليه من حين لآخر، على أن بعض الغارات لا تخلو من سقوط ضحايا من المدنيين.
تقدم الشرعية
وفي ديسمبر/كانون الأول 2017، تمكنت قوات الشرعية، من إحراز تقدم بالسيطرة على آخر معاقل الحوثيين في منطقة بيحان بمحافظة شبوة. وبالسيطرة عليها، انتقلت المعارك، إلى المديريات المحاذية من محافظة البيضاء، وأبرزها ناطع ونعمان، كما حققت قوات الشرعية تقدماً في جبهة قانية القريبة من مأرب، والتي تعد من أكثر المناطق سخونة بالمواجهات في الشهور الأخيرة، وفيها قضى صحافيون زاروا المنطقة بقذائف الحوثيين، كان آخرهم، مدير مكتب وكالة الأنباء اليمنية (سبأ) بالبيضاء، أحمد صالح الحمزي. والوصول من مدينة مأرب إلى جبهة قانية يمر عبر طريق اسفلتي يعبره المسافرون المغتربون القادمون من السعودية، وكذلك القادمون من المحافظات الشرقية من البلاد إلى محافظات الغرب والشمال والجنوب الغربي كطريق بديل عن طريق صنعاء ــ مأرب المقطوعة منذ ثلاثة أعوام بسبب المواجهات في جبهة نِهم شرق صنعاء. وتمر طريق مأرب ــ قانية بالمرتفعات التي تقطنها قبيلة مراد التابعة لمأرب، والتي يشارك العديد من أبنائها القتال بصفوف الشرعية في جبهة قانية إلى جانب قبيلة العبدين وآل عواض. وأخيراً أحرزت قوات الشرعية تقدماً نوعياً في هذه الجبهة، لم يتم إلا بعد سقوط أعداد كبيرة من المقاتلين. وفي سوق قانية تبدو الحياة طبيعية بعد سيطرة الشرعية عليها، ومن الصعوبة هناك تمييز الأهالي من المقاتلين، إذ إن الجميع يحملون أسلحتهم وعلى درجة واحدة من التأهب والحذر. ويسرد العديد، ممن التقينا بهم في ذلك السوق، روايات متناغمة عن أطوار المعارك التي شهدتها المنطقة وحجم الخسائر.
عراقيل ومفاتيح
ويسرد العديد من المهتمين بجبهات البيضاء عوامل عدة لتفسير سير المعارك في هذه المحافظة المهمة. فبالإضافة إلى الوضع الملتبس الذي مثله تواجد تنظيمات، مثل "القاعدة" و"داعش"، ثمة من يتحدث عن أن ثمة قصوراً من جهة الحكومة الشرعية في التواصل مع أعيان تلك المحافظة، كما يرى آخرون بأن المكايدات المجتمعية بين بعض القبائل تلعب دورها في الوضع الملتبس، حيث يتقاعس بعض المشايخ عن دعم الشرعية نكاية بأطراف محسوبة عليها، وكذلك لإثبات أن التقدم لن يتم من دون الاستعانة بهم والرجوع إليهم.
من جانبه، يرى محافظ الجوف السابق، اللواء حسين العجي العواضي، أن أهم جبهات الحوثيين للدفاع عن مواقعهم في محافظة البيضاء هي تلك الممتدة من منطقة فضحة وحتى قانية، وهذا ما أثبتته المعارك الدائرة في هذا القوس الذي يستميت فيه الحوثيون. ويوضح العواضي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه بعد معركة إجلاء الحوثيين عن بيحان، بقيادة اللواء مفرّح بحيبح، وعدد من الوحدات الأخرى وإسهام فاعل من قبل أبناء المنطقة، وفي مقدمتهم الشيخ صالح عبدربه المنصوري وقبائل آل العريف، أعلنت الشرعية والتحالف بدء معركة البيضاء، إلا أن طبيعة عقبة القنذع الصعبة، التي يتمركز الحوثيون فيها، جعلت الجيش الوطني يتوقف عن مواصلة التقدم، وهنا تم فتح جبهة ناطع بقيادة الشيخ صالح المنصوري، ومهاجمة الحوثيين في أعالي جبال فضحة، وتم تحقيق عدد من الانتصارات، إلا أن التوازن كان مختلاً لصالح الحوثيين في العدد والعدة والتضاريس.
ويقول العواضي إنه في صيف العام الحالي، وبعد التنسيق مع قائد محور بيحان، اللواء مفرّح بحيبح، "انتفضت قبائل آل عواض ومعهم قبائل آل شن ضد قوات الحوثي المتمركزة في عقبة القنذع والمواقع الممتدة في بلاد آل عواض حتى جبهة فضحة، ما اضطر الحوثيين للانسحاب حتى جبهة فضحة". وكان برأيه "نصراً عظيماً وقليل الكلفة أغرى قوات الشرعية بمواصلة التقدم من دون استعداد كافٍ، لكن الكمائن كانت بالمرصاد، وذهب ضحيتها المئات من أفراد الجيش وأبناء المنطقة". ويشير العواضي إلى أن العارفين بجغرافية المنطقة وطبيعة المعركة يؤكدون أنه "إذا تزامن تحريك جبهة قانية والعبدية مع تحريك جبهة فضحة ودعم جبهة المنصوري الميسرة وجبهة آل عواض الميمنة، فإنه بالإمكان كسر دفاعات الحوثيين والوصول إلى منطقة الملاجم، وبذلك تصبح قوات الشرعية على مشارف السوادية، وساعتها لن يكون أمام الحوثيين إلا الانسحاب من جميع مديريات ما يطلق عليه بيضاء حسين، أو محاصرة قواتهم وقطع إمداداتها. وبذلك ستنتقل المعارك إلى رداع، في أراض واسعة ومفتوحة لن تكون المعارك فيها لصالح الحوثيين، خصوصاً وأن السيطرة الجوية كاملة للشرعية والتحالف".
نقطة أبو هاشم
وفي سياق الحديث عن البيضاء، فإنه لا يغيب عن أذهان الكثير من اليمنيين، أشهر حاجز تفتيش يضعه الحوثيون في الطريق الفاصل بين مناطق سيطرتهم ومناطق الشرعية في مأرب وما إليها. وفي هذا الحاجز - المنفذ - الذي يُعرف بـ"نقطة أبو هاشم" (قيادي حوثي)، يتوقف المسافرون لفترة قد تزيد عن ساعة خلال التفتيش، وبذلك تحولت النقطة إلى "منفذ"، يشكو منه المسافرون، ويتعرض آخرون للاعتقال من قبل الحوثيين، لمجرد الاشتباه بأنهم من مؤيدي الشرعية.