وإذا كانت الترشيحات تتّسم بحالة من الفرديّة المطلقة، والنرجسية السياسيّة المبالغة في آمال النصر الانتخابية، مع بروز ما يسمّى بالانتفاخ السياسي، فإنّ بدء الأحزاب الكبرى تنافسها المباشر، بشكل مبكر جداً، إنّما ينطلق من قناعتها بأن أمر السلطة المقبلة سيحسم أساساً في ما بينها، وسيتحدّد على قاعدة الأصوات القليلة الفاصلة بينها. وترجّح تقديرات أن يبلغ التنافس ذروته بين حزبي "النهضة" و"نداء تونس"، علماً بأنّ القانون الانتخابي يكفل التنوّع الأكيد في البرلمان المقبل، بما يمنع تفرّد حزب معين بغالبية المقاعد، وسيطرته بالتالي على السلطة التشريعيّة والحكومة التي ستنبثق عن البرلمان.
حزبا "النهضة" و"نداء تونس"، اللذان ترشّحهما استطلاعات الرأي للفوز بغالبيّة المقاعد، أعلنا مسبقاً أنّهما مع فكرة الحكم التشاركي وحكومة الوحدة الوطنيّة، نبذاً للتفرّد بالحكم، غير أن كلاً منهما يرغب في أن تتشكل الحكومة المقبلة حوله أساساً وأن يكون حكماً رئيساً في تحديد ملامح السلطة المقبلة.
ورغم أنّ عدداً من المتابعين لم يستبعد إمكانيّة تحالفهما معاً، بعد الانتخابات، لكنّ التصريحات الأخيرة، في الأيّام الماضية، بدأت تكذّب هذه التوقّعات شيئاً فشيئاً، وتؤكّد أنّ الاستقطاب الثنائي كان في حالة "نوم مؤقت"، فرضتها رغبة الطرفين في الخروج من الأزمة السياسية، التي شهدتها مرحلة ما بعد اغتيال النائب عن حركة الشعب والمعارض التونسي، محمد البراهمي، وأيقظته الانتخابات والرغبة المشروعة لكل منهما في الفوز في الاستحقاق المقبل.
وشكّلت تصريحات أبرز قياديّي الحركتين صفّارة انطلاق السباق الانتخابي بينهما، مع بدء حوار ثنائي غير مباشر، عبر رسائل واضحة في الاتجاهين، حافظت حتّى الآن، على هدوء سياسي، ويتمنّى الجميع استمراره، رغم الألغام التي تحملها هذه الرسائل، وثقل المسؤوليّة التي يحمّلها كل طرف للآخر.
وفي سياق متصل، قال زعيم حركة "النهضة"، راشد الغنوشي، في افتتاح مجلس شورى الحركة، إنّ النهضة كانت ضحيّة الإرهاب، لافتاً إلى أنّ "حكومة ما قبل الترويكا، هي التي أطلقت سراح المتشددين، وحكومة (زعيم نداء تونس)، الباجي قائد السبسي، سمحت لتيّار أنصار الشريعة بعقد مؤتمرهم الأول، في حين منعته الترويكا وصنّفته على أنّه منظمة ارهابيّة". وردّ السبسي قائلاً إنّ "حكومته تشكّلت في فترة صعبة"، وأكّد براءتها من "الإرهاب"، مشيرا إلى أنها قادت البلاد نحو أول انتخابات نزيهة وشفّافة.
وعكس السبسي الهجوم، مشيراً إلى أنّ تأسيس (نداء تونس) جاء بعد ما وصفه بـ"تنكّر الترويكا" لتعهّداتها، وخصوصاً خلال فترة الحكم، التي كان من المفترض ألا تتجاوز السنة". وقال إنّه على التونسيين الاختيار بين مشروع حزبه ومشروع الاسلام السياسي، في إشارة إلى مشروع النهضة، "الذي جُرّب ففشل"، على حدّ تعبيره.
وتمثّلت الرسالة الأهمّ للسبسي، في إشارته إلى أنّ حركته لن تحكم وحدها، حتى لو فازت بالأغلبية المطلقة، وهي تعارض الإقصاء وتؤمن بالتعايش بين مختلف مكوّنات المجتمع التونسي، من دون أن يعني ذلك تحالفها مع الأطراف، التي تختلف معها في مشروعها.
كلام رد عليه الغنوشي بإيجابية، عندما وجه للسبسي، في برنامج تلفزيوني ليلة الاربعاء الماضية، رسالة مباشرة يدعوه فيها إلى "الالتقاء من جديد حول مشروع توافقي للمرحلة المقبلة، يجمع أبرز القوى السياسية في تونس" وفق تعبير الغنوشي نفسه.
لكن في المقابل، قال وزير الصحة السابق، والقيادي البارز في حركة النهضة، عبد اللطيف المكي، في تصريح إذاعي، إنّ ترشّح السبسي للانتخابات الرئاسيّة يمثّل خطراً على تونس، لناحية إعادة النظام القديم بوجه جديد. ووصف حركة "نداء تونس" بأنّها "خدعة ما بعد الثورة" وهي "غلاف جديد للنظام القديم"، مؤكداً أنّ برنامجها هو إعادة "رسملة" النظام القديم. وقال إنّ "خطاب قياديي نداء تونس هو نفسه خطاب (الرئيس المخلوع) زين العابدين بن علي وهو ما لا تقبله النهضة".
يبدو واضحاً أن مضمون خطاب الطرفين، يؤشّر إلى قرارهما بعدم التحالف بعد الانتخابات، لكنّه، في الوقت ذاته، يشير إلى الاستراتيجيّة الانتخابيّة التي سيعتمدها كل طرف، على مستوى التنافس بينهما، وتحجيم نقاط قوة كلّ طرف واستغلال نقاط الضعف.
وفي حين تركّز "النهضة" على ارتباط "النداء" بالمنظومة القديمة وإعادة رسملتها، يركّز غريمها السياسي على تجربة الترويكا في الحكم، مذكراً ببعض اخفاقاتها ومستغلا حالة الضبابيّة والخوف من التيّارات الاسلاميّة، خصوصا على إيقاع ما يحدث على الحدود التونسية وعلى المستوى الإقليمي.