لن يكون ما قبل الكشف عن تقرير المدعي الخاص روبرت مولر، بشأن التدخّل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية في 2016، كما بعده، مع الإعلان عن عدم وجود عناصر تتيح إثبات حصول تعاون بين حملة الرئيس دونالد ترامب الانتخابية وموسكو، على الرغم من تأكيد تدخّل موسكو في الانتخابات، فيما لم يكن مولر حاسماً في تبرئة الرئيس من تهمة عرقلة سير العدالة، مع عدم وصوله إلى نتيجة حول هذه القضية.
22 شهراً استمر التحقيق الذي قاده مولر، وعوّل الديمقراطيون عليه لإدانة ترامب، ليخرج بلا اتهام فعلي يطاول الرئيس، ويفتح تساؤلات كبيرة عن "لغز تبرئة" ترامب، مقدّماً خدمة كبيرة له من المتوقع أن تعزز حظوظه في السباق الانتخابي إلى البيت الأبيض المقرر عام 2020، خصوصاً أن تجارب سابقة لرؤساء سابقين دلّت على انتعاش شعبيتهم بعد تبرئتهم من اتهامات وُجّهت إليهم. كما من شأن التبرئة أن تعيد لُحمة الجمهوريين خلف رئيسهم، بعد فترة من التفلّت والتصويت لصالح مشاريع بعكس إرادة ترامب، مثل إسقاط قراره إعلان حالة الطوارئ الوطنية لتمويل الجدار الحدودي مع المكسيك في الكونغرس.
"لغز التبرئة" قد لا يخرج عن حقيقة أن النظام الأميركي لا يحتمل إطاحة رئيس عبر تحقيق بتواطؤ مع دولة خارجية، خصوصاً روسيا، فهذه السابقة لو حصلت قد تفتح الباب أمام محاولات مماثلة يمكن أن يقودها الجمهوريون ضد أي رئيس ديمقراطي مقبل. وربما يُدرك الديمقراطيون هذا الواقع، فعلى الرغم من ملاحقتهم لترامب بهذه القضية منذ بداية ولايته، أو "حتى قبل انتخابي" بتعبير ترامب، إلا أنهم يدركون خطورة اهتزاز النظام بتطور كهذا، وربما هذا ما هدفت إليه رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بيلوسي، عندما قالت في مقابلة مع صحيفة "واشنطن بوست" أخيراً، إن البلاد يجب ألا تتابع مساعي مساءلة الرئيس، لأن ترامب "لا يستحق فحسب".
التطور الجديد الذي لم يتأخر ترامب لاستغلاله مقدّماً نفسه كضحية "حملة اضطهاد"، متحدثاً عن أن "محاولة تدميرية غير شرعية فشلت"، يضع في المقابل الديمقراطيين في مأزق. فعلى الرغم من أنهم قد يتجهون لفتح معركة سياسية جديدة لدفع وزير العدل بيل بار لنشر تقرير مولر كاملاً، عسى أن يجدوا فيه شيئاً يسمح لهم بمواصلة التشكيك بترامب، إلا أنهم يدركون فعلياً أن انتصار الرئيس في هذه القضية سيُسقط الورقة الأقوى التي لطالما استعملوها في وجهه منذ وصوله للسلطة، وبالتالي سيكون عليهم البحث عن ملفات أخرى لمواجهة الرئيس الجمهوري مع اقتراب الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، في ظل ازدحام الساحة بالمرشحين الديمقراطيين الذين يسعون لحرمان ترامب من الفوز بولاية ثانية.
هذا الأمر برز في تحوّل سياسيين ديمقراطيين بارزين عن مسار تكثيف التحقيقات بحق ترامب، إلى المطالبة بمناقشة القضايا الداخلية الأساسية. فقد دعا حكيم جيفريز، الذي يتزعم كتلة الديمقراطيين في مجلس النواب، "الرئيس لترك ملعب الغولف وأن ينهي إجازاته المتواصلة، فيما الديمقراطيون في مجلس النواب في واشنطن يكافحون لتقليل كلفة الرعاية الصحية وإصلاح بنيتنا التحتية المتداعية". كما تركزت تغريدات ديمقراطيين آخرين على الحاجة إلى الحد من أعمال العنف باستخدام الأسلحة النارية وفرض قيود أكثر صرامة على التنقيب عن النفط في البحر.
وبعد يومين فقط من تسلّمه تقرير مولر الذي استغرق إعداده 22 شهراً، قدّم وزير العدل بيل بار، ملخصاً من أربع صفحات إلى الكونغرس، أوجز فيها خلاصة التحقيقات، والتي بيّنت بحسب رسالة الوزير، عدم وجود عناصر تتيح إثبات قيام تعاون بين فريق حملة ترامب الانتخابية وموسكو خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2016. وقال وزير العدل في رسالته الموجزة إن "التحقيقات التي قام بها النائب العام الخاص لم تجد ما يثبت أنّ فريق حملة ترامب أو أيّ شخص له علاقة بهذه الحملة قد تعاون أو توافق مع روسيا في جهودها للتأثير على الانتخابات الرئاسية". وبحسب الرسالة، فإنّ مولر لم يحسم بشكل نهائي احتمال وجود أو عدم وجود "عرقلة لعمل القضاء" من قبل ترامب. وجاء في الرسالة أنّ "التقرير لم يخلص إلى أنّ الرئيس مذنب بجرم عرقلة سير العدالة، كما أنّه لم يبرئه من هذه التهمة". إلا أن وزير العدل اعتبر، من جهته، أن التقرير لا يشير إلى أي جرم يتيح برأيه القيام بملاحقات على أساس عرقلة عمل القضاء.
وتحدثت الوثائق عن جهود مستمرة بذلتها موسكو للتأثير على انتخابات 2016 وتعطيل النظام الديمقراطي في البلاد. وتحدث مولر عن قراصنة تحركهم الحكومة الروسية ويتحركون عبر مواقع التواصل الاجتماعي عملوا لتعزيز فرص ترامب على حساب منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، وقرصنة رسائل بريد إلكتروني تعود إلى الفريق الانتخابي لكلينتون. وفي رسالته إلى الكونغرس، قال بار إن مولر اكتشف أنه كانت هناك "عروض عديدة من شخصيات مرتبطة بروسيا لمساعدة حملة ترامب". وأضاف بار مقتبساً مباشرة من تقرير مولر أن التحقيق "لم يتوصّل إلى أنّ أعضاء في حملة ترامب تآمروا أو نسّقوا مع الحكومة الروسية في نشاطاتها للتدخّل في الانتخابات".
ومولر ملزم قانوناً بتسليم تقريره إلى وزير العدل حصراً، كما أنّه ليس مخولاً بتوجيه اتهام إلى رئيس البلاد، ويعود لوزير العدل أن ينشر ما يريده من هذا التقرير. وأكدت وزارة العدل أنّ مولر لا يوصي في تقريره بتوجيه اتهامات جديدة. وقد انعكس ذلك ارتياحاً في البيت الأبيض، لأن عدم التوصية بتوجيه مزيد من الاتهامات يعني أن شخصيات قريبة من الرئيس، بمن فيهم ابنه دونالد ترامب جونيور، وصهره جاريد كوشنر، غير متهمة.
اقــرأ أيضاً
ولم يتأخر ترامب لاستغلال هذا التطور، وقال في تغريدة على "تويتر" عقب نشر الموجز عن تقرير مولر: "لا تواطؤ، لا عرقلة، تبرئة كاملة وشاملة. فلنبق أميركا عظيمة!". وعقب التغريدة، أدلى ترامب بتصريح للصحافيين قبيل مغادرته فلوريدا على متن الطائرة الرئاسية، اعتبر فيه أنّه من المعيب أن يكون رئيس الولايات المتحدة قد اضطر للخضوع لتحقيق بشأن احتمال حصول تواطؤ بين فريق حملته الانتخابية وروسيا، أو احتمال سعيه لعرقة عمل العدالة. وأضاف "بصراحة، من المعيب أن يكون رئيسكم قد اضطر للخضوع لهذا الأمر الذي بدأ حتى قبل انتخابي". وأضاف أن التحقيق "محاولة تدميرية غير شرعية فشلت".
من جهته، قال السيناتور الجمهوري النافذ ليندسي غراهام، الذي لعب الغولف مع ترامب، الأحد، عبر "تويتر"، إنّ هذا كان "يوماً عظيماً للرئيس ترامب وفريقه، ويوماً سيئاً بالنسبة لأولئك الذين كانوا يأملون في أن يؤدي تحقيق مولر إلى إسقاط الرئيس". وفي السياق، قال رودي جولياني، محامي ترامب، إن تقرير مولر "أفضل مما توقعت". كما شدد الفريق القانوني لترامب في بيان على أن التقرير فيه "تبرئة تامة وكاملة للرئيس".
لكنّ رأي الديمقراطيين أتى مخالفاً، إذ سارع زعيما الحزب في الكونغرس إلى المطالبة بنشر التحقيق "كاملاً"، معتبرين أنّ وزير العدل ليس "مراقباً محايداً" كي يتم الركون إلى الخلاصة التي أعدّها. وقالت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، وزعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، في بيان مشترك، إنّ "رسالة وزير العدل تطرح أسئلة بقدر ما تقدّم أجوبة". وأضاف البيان أنه "من الملحّ أن ينشر التقرير كاملاً وكل الوثائق المتعلقة به"، مشيرين إلى أنّ مولر لم يبرّئ ترامب من تهمة عرقلة سير العدالة.
وأتى البيان المشترك بعيد إعلان مسؤول ديمقراطي آخر، هو رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب آدم شيف، لشبكة "إيه بي سي" تعليقاً على ما نشره وزير العدل، أنه "بالكاد يبدو لي ذلك تبرئة". وقال شيف إنّ الكونغرس سيطلب أولاً ببساطة نشر التقرير كاملاً، لكنه مستعد لاستخدام سلطته في الاستدعاء أو "الملاحقة أمام القضاء إذا اقتضى الأمر من أجل الحصول على المعلومات". من جهته، قال رئيس اللجنة القضائية في مجلس النواب جيري نادلر، لشبكة "سي إن إن" الإخبارية: "نعلم أنّ هناك تواطؤاً"، مضيفاً "لا نعلم لمَ لا توجد (توصية بتوجيه) اتهامات".
ولم تغب روسيا، المعنية الأبرز، عن الساحة، إذ سارع الكرملين للنفي مجدداً تدخّل موسكو في الانتخابات الأميركية. كما كتب السيناتور الروسي أليكسي بوشكوف في تغريدة أن "نتائج تحقيق مولر مخزية للولايات المتحدة ونخبتها السياسية". وأضاف أن هذه النتائج "تؤكد أن كل الاتهامات تم تلفيقها". فيما اعتبر السيناتور الروسي كوستانتين كوساتشيف، حسب وكالة "ريا نوفوتسي" للأنباء، أن هذه الخلاصات تتيح لموسكو وواشنطن "الانطلاق من الصفر في مجالات عدة". كما رأى النائب الروسي ليونيد سلوتسكي أن هذه الخلاصات هي "نوع من إعادة اعتبار سياسية للرئيس الأميركي". ونقلت وكلة "ريا نوفوتسي" عنه أيضاً أن "من غير المرجّح أن تتمكن (هذه الخلاصات) من تغيير أي شيء في لحظة في الحوار بين روسيا والولايات المتحدة".
اقــرأ أيضاً
وخلال التحقيق الذي أجراه، وجّه مولر اتهامات لـ34 فرداً، بينهم ستة مقرّبين من الرئيس، فمن هم أبرز المتورطين في القضية؟
بول مانافورت
هو مستشار سياسي ومحام أميركي. انضم إلى فريق حملة دونالد ترامب الرئاسية في مارس/آذار 2016. وكان رئيس الحملة من يونيو/حزيران إلى أغسطس/آب 2016. في 21 أغسطس 2016، دين بتهم تزوير ضريبي ومصرفي. حُكم عليه بالسجن بمجموع سبع سنوات بتهم تستره على حقيقة عمله وكيلاً أجنبياً لصالح جهات في أوكرانيا وإخفائه ملايين الدولارات في حسابات أجنبية، وبتهم الاحتيال الضريبي والمصرفي. وأقر مانافورت بتهمتي التآمر المالي والتأثير على الشهود.
مايكل فلين
جنرال أميركي متقاعد، طُرح اسمه ضمن الأسماء المرشحة للفوز بمنصب نائب الرئيس في حملة دونالد ترامب، ولكن الأخير اختار مايك بنس بدلاً منه. وبعد فوز ترامب في الانتخابات، عينه في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 مستشاراً للأمن القومي. أقر فلين في 1 ديسمبر/كانون الأول 2017 بأنه مذنب بالإدلاء بشهادات وبيانات كاذبة عن عمد، لمكتب التحقيقات الفيدرالي، فيما يتعلق باتصالاته مع السفير الروسي في واشنطن سيرغي كيسلياك.
مايكل كوهين
محام أميركي عمل لمصلحة دونالد ترامب منذ عام 2006 وحتى مايو/أيار 2018. أقر كوهين في تحقيق روبرت مولر بأنه كذب على الكونغرس بشأن مدة ومدى عمله على خطط لبناء برج ترامب في موسكو. في 12 ديسمبر/كانون الأول 2018. حُكم على كوهين بالسجن ثلاث سنوات بتهم تتعلق بانتهاكات تمويل الحملات الانتخابية والتهرب الضريبي والكذب على الكونغرس. وقال كوهين إن ترامب هو الذي وجهه عام 2016 لدفع أموال لإسكات امرأتين زعمتا بوجود علاقة جنسية مع ترامب.
جورج بابادوبولوس
مستشار سابق للرئيس الأميركي، انضم في مطلع مارس/آذار 2016 إلى فريق حملة ترامب الانتخابية، وكان من بين المستشارين الخمسة للسياسة الخارجية للرئيس. كان من أول مستشاري ترامب السابقين الذين اعتقلتهم السلطات في إطار تحقيق روبرت مولر. أقر بالكذب على مكتب التحقيقات الفيدرالي بشأن توقيت اجتماعات مع وسطاء يعملون لصالح موسكو. حُكم عليه بالسجن مدة أسبوعين وإخضاعه للمراقبة 12 شهراً بعد إطلاق سراحه، ودفع غرامة مالية.
ريك غيتس
مستشار سياسي سابق، عمل نائباً لبول مانافورت عندما كان الأخير مديراً لحملة دونالد ترامب الرئاسية عام 2016. اتُهم مع مانافورت في أكتوبر/تشرين الأول 2017 بتهم تتعلق بعملهما الاستشاري مع شخصيات سياسية مؤيدة لروسيا في أوكرانيا. أقر بأنه مذنب بالتآمر والإدلاء بتصريحات كاذبة للمحققين الفدراليين في فبراير/شباط 2018 وبدأ التعاون مع فريق مولر وشهد ضد مانافورت في محاكمته، وأدى تعاونه مع المدعين العامين إلى إيقاف الحكم ضده.
روجر ستون
خبير في السياسات الاستراتيجية، وعمل لصالح الحزب الجمهوري منذ السبعينيات، ولصالح حملة ترامب عام 2015 قبل أن يفترقا بسبب خلافات. ألقي القبض عليه في 25 يناير/كانون الأول 2019، بعد صدور مذكرة اتهام بحقه ضمن تحقيق روبرت مولر، ويواجه سبع تهم من قبل مولر، من بينها إعاقة سير العدالة والإدلاء بتصريحات كاذبة تحت القسم. والتهم الموجهة إليه لها علاقة بقرصنة روسيا رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بمسؤولي الحزب الديمقراطي عام 2016.
كارتر بيج
مستشار دونالد ترامب للسياسة الخارجية خلال الحملة الانتخابية عام 2016، حامت حوله شكوك بالتواطؤ مع روسيا، ولكن لم توجّه له اتهامات رسمية. نفى الاتهامات التي وُجهت له على الرغم من اعترافه باتصالاته بمسؤولين رفيعي المستوى في حملة ترامب لبحث رحلته إلى روسيا في يوليو/تموز عام 2016 حيث التقى خلالها بمسؤول روسي كبير. قال بيج إنه لم يلتق ترامب أبداً، "لكنني درسته من خلال مشاهدته والاستماع إليه في شرائط الفيديو".
ماريا بوتينا
أول روسية جرت محاكمتها مباشرة لمحاولتها التأثير على المشهد السياسي الأميركي في عهد دونالد ترامب. اتُهمت بالتآمر للعمل كجاسوسة لصالح الحكومة الروسية عبر التسلل إلى مجموعات سياسية. وذكرت وسائل إعلام أميركية أن بوتينا طوّرت علاقات مع الحزب الجمهوري وأصبحت محامية مدافعة عن حق امتلاك السلاح. وأقرت بوتينا بأنها مذنبة بتهمة التآمر ضد الولايات المتحدة ولا تزال مسجونة في أميركا، ولا تتعلق التهم ضدها بتحقيق روبرت مولر.
جيف سيشنز
وزير العدل في عهد دونالد ترامب منذ فبراير/شباط 2017، وحتى 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2018. كان قبلها عضواً في مجلس الشيوخ لفترة طويلة، وتُعرف عنه معارضته الشديدة للهجرة السرية. قدّم استقالته من منصبه بناءً على طلب من ترامب الذي وجّه له الكثير من الانتقادات، خصوصاً أنه سحب يده من تحقيق روبرت مولر، بصورة طوعية، بعد أن اتهمه الديمقراطيون بعدم الكشف عن اتصالاته مع السفير الروسي خلال جلسة الاستماع في مجلس الشيوخ.
دونالد جونيور
نجل الرئيس الأميركي، كان عضواً رئيسياً في حملة والده الانتخابية. حامت شكوك كثيرة حوله في ملف التواطؤ مع روسيا لكن روبرت مولر أنهى تحقيقه من دون توجيه أي اتهام له. وكان اجتماع سري عقده الابن الأكبر للرئيس في برج ترامب في مانهاتن عام 2016 مع محامية روسية مرتبطة بالكرملين، من أبرز الأمور التي حقق فيها مولر، فيما استمعت لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ لترامب جونيور في إطار تحقيق حول التدخل الروسي.
22 شهراً استمر التحقيق الذي قاده مولر، وعوّل الديمقراطيون عليه لإدانة ترامب، ليخرج بلا اتهام فعلي يطاول الرئيس، ويفتح تساؤلات كبيرة عن "لغز تبرئة" ترامب، مقدّماً خدمة كبيرة له من المتوقع أن تعزز حظوظه في السباق الانتخابي إلى البيت الأبيض المقرر عام 2020، خصوصاً أن تجارب سابقة لرؤساء سابقين دلّت على انتعاش شعبيتهم بعد تبرئتهم من اتهامات وُجّهت إليهم. كما من شأن التبرئة أن تعيد لُحمة الجمهوريين خلف رئيسهم، بعد فترة من التفلّت والتصويت لصالح مشاريع بعكس إرادة ترامب، مثل إسقاط قراره إعلان حالة الطوارئ الوطنية لتمويل الجدار الحدودي مع المكسيك في الكونغرس.
"لغز التبرئة" قد لا يخرج عن حقيقة أن النظام الأميركي لا يحتمل إطاحة رئيس عبر تحقيق بتواطؤ مع دولة خارجية، خصوصاً روسيا، فهذه السابقة لو حصلت قد تفتح الباب أمام محاولات مماثلة يمكن أن يقودها الجمهوريون ضد أي رئيس ديمقراطي مقبل. وربما يُدرك الديمقراطيون هذا الواقع، فعلى الرغم من ملاحقتهم لترامب بهذه القضية منذ بداية ولايته، أو "حتى قبل انتخابي" بتعبير ترامب، إلا أنهم يدركون خطورة اهتزاز النظام بتطور كهذا، وربما هذا ما هدفت إليه رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بيلوسي، عندما قالت في مقابلة مع صحيفة "واشنطن بوست" أخيراً، إن البلاد يجب ألا تتابع مساعي مساءلة الرئيس، لأن ترامب "لا يستحق فحسب".
هذا الأمر برز في تحوّل سياسيين ديمقراطيين بارزين عن مسار تكثيف التحقيقات بحق ترامب، إلى المطالبة بمناقشة القضايا الداخلية الأساسية. فقد دعا حكيم جيفريز، الذي يتزعم كتلة الديمقراطيين في مجلس النواب، "الرئيس لترك ملعب الغولف وأن ينهي إجازاته المتواصلة، فيما الديمقراطيون في مجلس النواب في واشنطن يكافحون لتقليل كلفة الرعاية الصحية وإصلاح بنيتنا التحتية المتداعية". كما تركزت تغريدات ديمقراطيين آخرين على الحاجة إلى الحد من أعمال العنف باستخدام الأسلحة النارية وفرض قيود أكثر صرامة على التنقيب عن النفط في البحر.
وبعد يومين فقط من تسلّمه تقرير مولر الذي استغرق إعداده 22 شهراً، قدّم وزير العدل بيل بار، ملخصاً من أربع صفحات إلى الكونغرس، أوجز فيها خلاصة التحقيقات، والتي بيّنت بحسب رسالة الوزير، عدم وجود عناصر تتيح إثبات قيام تعاون بين فريق حملة ترامب الانتخابية وموسكو خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2016. وقال وزير العدل في رسالته الموجزة إن "التحقيقات التي قام بها النائب العام الخاص لم تجد ما يثبت أنّ فريق حملة ترامب أو أيّ شخص له علاقة بهذه الحملة قد تعاون أو توافق مع روسيا في جهودها للتأثير على الانتخابات الرئاسية". وبحسب الرسالة، فإنّ مولر لم يحسم بشكل نهائي احتمال وجود أو عدم وجود "عرقلة لعمل القضاء" من قبل ترامب. وجاء في الرسالة أنّ "التقرير لم يخلص إلى أنّ الرئيس مذنب بجرم عرقلة سير العدالة، كما أنّه لم يبرئه من هذه التهمة". إلا أن وزير العدل اعتبر، من جهته، أن التقرير لا يشير إلى أي جرم يتيح برأيه القيام بملاحقات على أساس عرقلة عمل القضاء.
وتحدثت الوثائق عن جهود مستمرة بذلتها موسكو للتأثير على انتخابات 2016 وتعطيل النظام الديمقراطي في البلاد. وتحدث مولر عن قراصنة تحركهم الحكومة الروسية ويتحركون عبر مواقع التواصل الاجتماعي عملوا لتعزيز فرص ترامب على حساب منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، وقرصنة رسائل بريد إلكتروني تعود إلى الفريق الانتخابي لكلينتون. وفي رسالته إلى الكونغرس، قال بار إن مولر اكتشف أنه كانت هناك "عروض عديدة من شخصيات مرتبطة بروسيا لمساعدة حملة ترامب". وأضاف بار مقتبساً مباشرة من تقرير مولر أن التحقيق "لم يتوصّل إلى أنّ أعضاء في حملة ترامب تآمروا أو نسّقوا مع الحكومة الروسية في نشاطاتها للتدخّل في الانتخابات".
ومولر ملزم قانوناً بتسليم تقريره إلى وزير العدل حصراً، كما أنّه ليس مخولاً بتوجيه اتهام إلى رئيس البلاد، ويعود لوزير العدل أن ينشر ما يريده من هذا التقرير. وأكدت وزارة العدل أنّ مولر لا يوصي في تقريره بتوجيه اتهامات جديدة. وقد انعكس ذلك ارتياحاً في البيت الأبيض، لأن عدم التوصية بتوجيه مزيد من الاتهامات يعني أن شخصيات قريبة من الرئيس، بمن فيهم ابنه دونالد ترامب جونيور، وصهره جاريد كوشنر، غير متهمة.
ولم يتأخر ترامب لاستغلال هذا التطور، وقال في تغريدة على "تويتر" عقب نشر الموجز عن تقرير مولر: "لا تواطؤ، لا عرقلة، تبرئة كاملة وشاملة. فلنبق أميركا عظيمة!". وعقب التغريدة، أدلى ترامب بتصريح للصحافيين قبيل مغادرته فلوريدا على متن الطائرة الرئاسية، اعتبر فيه أنّه من المعيب أن يكون رئيس الولايات المتحدة قد اضطر للخضوع لتحقيق بشأن احتمال حصول تواطؤ بين فريق حملته الانتخابية وروسيا، أو احتمال سعيه لعرقة عمل العدالة. وأضاف "بصراحة، من المعيب أن يكون رئيسكم قد اضطر للخضوع لهذا الأمر الذي بدأ حتى قبل انتخابي". وأضاف أن التحقيق "محاولة تدميرية غير شرعية فشلت".
من جهته، قال السيناتور الجمهوري النافذ ليندسي غراهام، الذي لعب الغولف مع ترامب، الأحد، عبر "تويتر"، إنّ هذا كان "يوماً عظيماً للرئيس ترامب وفريقه، ويوماً سيئاً بالنسبة لأولئك الذين كانوا يأملون في أن يؤدي تحقيق مولر إلى إسقاط الرئيس". وفي السياق، قال رودي جولياني، محامي ترامب، إن تقرير مولر "أفضل مما توقعت". كما شدد الفريق القانوني لترامب في بيان على أن التقرير فيه "تبرئة تامة وكاملة للرئيس".
وأتى البيان المشترك بعيد إعلان مسؤول ديمقراطي آخر، هو رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب آدم شيف، لشبكة "إيه بي سي" تعليقاً على ما نشره وزير العدل، أنه "بالكاد يبدو لي ذلك تبرئة". وقال شيف إنّ الكونغرس سيطلب أولاً ببساطة نشر التقرير كاملاً، لكنه مستعد لاستخدام سلطته في الاستدعاء أو "الملاحقة أمام القضاء إذا اقتضى الأمر من أجل الحصول على المعلومات". من جهته، قال رئيس اللجنة القضائية في مجلس النواب جيري نادلر، لشبكة "سي إن إن" الإخبارية: "نعلم أنّ هناك تواطؤاً"، مضيفاً "لا نعلم لمَ لا توجد (توصية بتوجيه) اتهامات".
ولم تغب روسيا، المعنية الأبرز، عن الساحة، إذ سارع الكرملين للنفي مجدداً تدخّل موسكو في الانتخابات الأميركية. كما كتب السيناتور الروسي أليكسي بوشكوف في تغريدة أن "نتائج تحقيق مولر مخزية للولايات المتحدة ونخبتها السياسية". وأضاف أن هذه النتائج "تؤكد أن كل الاتهامات تم تلفيقها". فيما اعتبر السيناتور الروسي كوستانتين كوساتشيف، حسب وكالة "ريا نوفوتسي" للأنباء، أن هذه الخلاصات تتيح لموسكو وواشنطن "الانطلاق من الصفر في مجالات عدة". كما رأى النائب الروسي ليونيد سلوتسكي أن هذه الخلاصات هي "نوع من إعادة اعتبار سياسية للرئيس الأميركي". ونقلت وكلة "ريا نوفوتسي" عنه أيضاً أن "من غير المرجّح أن تتمكن (هذه الخلاصات) من تغيير أي شيء في لحظة في الحوار بين روسيا والولايات المتحدة".
وخلال التحقيق الذي أجراه، وجّه مولر اتهامات لـ34 فرداً، بينهم ستة مقرّبين من الرئيس، فمن هم أبرز المتورطين في القضية؟
بول مانافورت
هو مستشار سياسي ومحام أميركي. انضم إلى فريق حملة دونالد ترامب الرئاسية في مارس/آذار 2016. وكان رئيس الحملة من يونيو/حزيران إلى أغسطس/آب 2016. في 21 أغسطس 2016، دين بتهم تزوير ضريبي ومصرفي. حُكم عليه بالسجن بمجموع سبع سنوات بتهم تستره على حقيقة عمله وكيلاً أجنبياً لصالح جهات في أوكرانيا وإخفائه ملايين الدولارات في حسابات أجنبية، وبتهم الاحتيال الضريبي والمصرفي. وأقر مانافورت بتهمتي التآمر المالي والتأثير على الشهود.
مايكل فلين
جنرال أميركي متقاعد، طُرح اسمه ضمن الأسماء المرشحة للفوز بمنصب نائب الرئيس في حملة دونالد ترامب، ولكن الأخير اختار مايك بنس بدلاً منه. وبعد فوز ترامب في الانتخابات، عينه في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 مستشاراً للأمن القومي. أقر فلين في 1 ديسمبر/كانون الأول 2017 بأنه مذنب بالإدلاء بشهادات وبيانات كاذبة عن عمد، لمكتب التحقيقات الفيدرالي، فيما يتعلق باتصالاته مع السفير الروسي في واشنطن سيرغي كيسلياك.
مايكل كوهين
محام أميركي عمل لمصلحة دونالد ترامب منذ عام 2006 وحتى مايو/أيار 2018. أقر كوهين في تحقيق روبرت مولر بأنه كذب على الكونغرس بشأن مدة ومدى عمله على خطط لبناء برج ترامب في موسكو. في 12 ديسمبر/كانون الأول 2018. حُكم على كوهين بالسجن ثلاث سنوات بتهم تتعلق بانتهاكات تمويل الحملات الانتخابية والتهرب الضريبي والكذب على الكونغرس. وقال كوهين إن ترامب هو الذي وجهه عام 2016 لدفع أموال لإسكات امرأتين زعمتا بوجود علاقة جنسية مع ترامب.
جورج بابادوبولوس
مستشار سابق للرئيس الأميركي، انضم في مطلع مارس/آذار 2016 إلى فريق حملة ترامب الانتخابية، وكان من بين المستشارين الخمسة للسياسة الخارجية للرئيس. كان من أول مستشاري ترامب السابقين الذين اعتقلتهم السلطات في إطار تحقيق روبرت مولر. أقر بالكذب على مكتب التحقيقات الفيدرالي بشأن توقيت اجتماعات مع وسطاء يعملون لصالح موسكو. حُكم عليه بالسجن مدة أسبوعين وإخضاعه للمراقبة 12 شهراً بعد إطلاق سراحه، ودفع غرامة مالية.
ريك غيتس
مستشار سياسي سابق، عمل نائباً لبول مانافورت عندما كان الأخير مديراً لحملة دونالد ترامب الرئاسية عام 2016. اتُهم مع مانافورت في أكتوبر/تشرين الأول 2017 بتهم تتعلق بعملهما الاستشاري مع شخصيات سياسية مؤيدة لروسيا في أوكرانيا. أقر بأنه مذنب بالتآمر والإدلاء بتصريحات كاذبة للمحققين الفدراليين في فبراير/شباط 2018 وبدأ التعاون مع فريق مولر وشهد ضد مانافورت في محاكمته، وأدى تعاونه مع المدعين العامين إلى إيقاف الحكم ضده.
روجر ستون
خبير في السياسات الاستراتيجية، وعمل لصالح الحزب الجمهوري منذ السبعينيات، ولصالح حملة ترامب عام 2015 قبل أن يفترقا بسبب خلافات. ألقي القبض عليه في 25 يناير/كانون الأول 2019، بعد صدور مذكرة اتهام بحقه ضمن تحقيق روبرت مولر، ويواجه سبع تهم من قبل مولر، من بينها إعاقة سير العدالة والإدلاء بتصريحات كاذبة تحت القسم. والتهم الموجهة إليه لها علاقة بقرصنة روسيا رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بمسؤولي الحزب الديمقراطي عام 2016.
كارتر بيج
مستشار دونالد ترامب للسياسة الخارجية خلال الحملة الانتخابية عام 2016، حامت حوله شكوك بالتواطؤ مع روسيا، ولكن لم توجّه له اتهامات رسمية. نفى الاتهامات التي وُجهت له على الرغم من اعترافه باتصالاته بمسؤولين رفيعي المستوى في حملة ترامب لبحث رحلته إلى روسيا في يوليو/تموز عام 2016 حيث التقى خلالها بمسؤول روسي كبير. قال بيج إنه لم يلتق ترامب أبداً، "لكنني درسته من خلال مشاهدته والاستماع إليه في شرائط الفيديو".
ماريا بوتينا
أول روسية جرت محاكمتها مباشرة لمحاولتها التأثير على المشهد السياسي الأميركي في عهد دونالد ترامب. اتُهمت بالتآمر للعمل كجاسوسة لصالح الحكومة الروسية عبر التسلل إلى مجموعات سياسية. وذكرت وسائل إعلام أميركية أن بوتينا طوّرت علاقات مع الحزب الجمهوري وأصبحت محامية مدافعة عن حق امتلاك السلاح. وأقرت بوتينا بأنها مذنبة بتهمة التآمر ضد الولايات المتحدة ولا تزال مسجونة في أميركا، ولا تتعلق التهم ضدها بتحقيق روبرت مولر.
جيف سيشنز
وزير العدل في عهد دونالد ترامب منذ فبراير/شباط 2017، وحتى 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2018. كان قبلها عضواً في مجلس الشيوخ لفترة طويلة، وتُعرف عنه معارضته الشديدة للهجرة السرية. قدّم استقالته من منصبه بناءً على طلب من ترامب الذي وجّه له الكثير من الانتقادات، خصوصاً أنه سحب يده من تحقيق روبرت مولر، بصورة طوعية، بعد أن اتهمه الديمقراطيون بعدم الكشف عن اتصالاته مع السفير الروسي خلال جلسة الاستماع في مجلس الشيوخ.
دونالد جونيور
نجل الرئيس الأميركي، كان عضواً رئيسياً في حملة والده الانتخابية. حامت شكوك كثيرة حوله في ملف التواطؤ مع روسيا لكن روبرت مولر أنهى تحقيقه من دون توجيه أي اتهام له. وكان اجتماع سري عقده الابن الأكبر للرئيس في برج ترامب في مانهاتن عام 2016 مع محامية روسية مرتبطة بالكرملين، من أبرز الأمور التي حقق فيها مولر، فيما استمعت لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ لترامب جونيور في إطار تحقيق حول التدخل الروسي.