07 اغسطس 2024
أزمة الإعلام المصري
بعد كل ما حدث، ما زال بعضهم يتعامل مع أزمة الإعلام المصري وكأنها نتاج لسياسات مجموعة من الصحافيين، أو ملاك وسائل الإعلام، أو النخب الإعلامية والسياسية، وهو بالمناسبة منطقهم نفسه في التعامل مع أزمات مصر المختلفة، حيث يفضلون دوما لوم خصومهم السياسيين، متناسين السياق الأكبر للتغيير ودوره، فالتغيير في أي مجتمع يرتبط بعاملين، أولهما سياسة النخب وثانيهما بنية المجتمع نفسه وشبكة القوى داخله وموازينها. ويبدو أن في الدول الاستبدادية، مثل مصر، يهرب النقاد من مواجهة النظام ومتطلبات التغيير البنيوية الصعبة، بالتركيز على النخب وسياساتها، من دون التطرق إلى بنية المجتمع السلطوية، والناتجة عن عقود مستمرة من السياسات الاستبدادية والتمييزية.
بمعنى آخر، يفضل بعضهم، بما في ذلك بعض أنصار الثورة والتغيير، النظر إلى أزمة الإعلام المصري أو السياسة المصرية، وكأنها نتاج أخطاء بعض الصحافيين ونجوم الفضائيات والنخب المالكة للمؤسسات الإعلامية وانتهازيتهم، أو نتاج الأحزاب المعارضة والنخب المسيطرة عليها في حالة السياسة، وكأن المؤسسات الإعلامية والسياسية والنخب المسيطرة عليها وجدت من عدم، وتعمل في فراغ عن البيئة المحيطة بها.
باختصار، الإعلام والسياسة والاقتصاد والتعليم وغيرها من ظواهر المجتمع ومؤسساته ليست أكثر من بنى اجتماعية تدعم بعضها، وتعبر عن منظومة القوى الحاكمة للمجتمع، لذا لا يجب
أن تتوقع أن يستطيع مجتمعٌ، ينتشر فيه الاستبداد وعدم المساواة والأمية وغياب القانون، أن ينتج إعلاما موضوعيا محايدا ليبراليا، ولو مر ذلك الإعلام بتجربة تاريخية كبرى، مثل ثورة أو انتفاضة يناير 2011، فالإعلام كالسياسة ليس إلا نتاجا للظروف والمتغيرات نفسها التي تحكمت في سلوك المصريين، وقادت إلى إفشال الثورة والتغيير.
ولو حاولنا توصيف الإعلام المصري، بعد خمس سنوات على انقلاب يوليو 2013 وثماني سنوات ونصف السنة على ثورة يناير، لقلنا إنه يتكون من ثلاث مؤسسات أو قوى رئيسية. .. الأولى، الإعلام العام، أو الرسمي كما يسمى في مصر، والتي كانت من المفترض أن تقود المشهد الإعلامي المصري قبل الثورة وبعدها، بحكم أنها مؤسسات عامة، يمولها المواطن المصري من ضرائبه، ولا تخضع لحسابات المكسب والخسارة، وضغوط رجال الأعمال المالكين لها، كما الإعلام الخاص، لكنها للأسف تحولت، منذ نشأتها، إلى مؤسسات تابعة للنظام، وليس للدولة المصرية، حالها كما بقية مؤسسات الدولة. فبدلا من أن يتحول الإعلام الرسمي إلى إعلام عام، يدافع عن مصالح الشعب، ويمثل فئاته المختلفة، ويدافع عن الديمقراطية، كما الإعلام العام في دول ديمقراطية عريقة، كبريطانيا مثلا، تحول الإعلام الرسمي المصري، منذ نشأته، إلى بوق للنظام، ينتظر تعليماته وبياناته الرسمية، ولا يخرج عنها، ملتزما بدور أساسي، وهو تلميع النظام وصورته. وبمرور الوقت، فقد الإعلام الرسمي المصري مصداقيته، والقدرة على الإبداع، بل والكفاءة، خصوصا مع تراجع التمويل العام، وتكدس المؤسسات الإعلامية الرسمية بعشرات آلاف من الموظفين، ولذا سرعان ما تراجع دور الإعلام الرسمي المصري، مع صعود ظاهرة الإعلام الخاص في العقد الأخير من حكم حسني مبارك. وقد انعكس ذلك على أدائه بعد الثورة، حيث توارى كثيرا في الخلفية، ولم يلعب دورا أساسيا في التأثير على المشهد، وسرعان ما عاد إلى دوره بوقا للنظام بعد انقلاب 2013، وذلك بعد فترة تردّد قصيرة، مال في بدايتها إلى ثورة يناير، ثم تحول منبرا للصراع السياسي، الباحث دائما عما يرضي قوى النظام القديم، وفي مقدمتها القوات المسلحة.
المؤسسة الثانية هي الإعلام الخاص، والتي صعد نفوذها في السنوات الأخيرة من عهد مبارك، مع افتتاح فضائيات وصحف خاصة. وبعد ثورة يناير، زاد عدد تلك المؤسسات بدخول التيار الديني ساحة المنافسة، بتأسيسه وسائل إعلام معبرة عن صوته. ويلاحظ هنا أن الإعلام الخاص في الدول الديمقراطية، كالولايات المتحدة، يلتزم بقدر كبير من الموضوعية والأخلاق المهنية من ناحية، ومحاولة البعد عن التحزب السياسي من ناحية أخرى، أو وضع مسافة بين ميول الوسيلة الإعلامية السياسية والإيدلوجية، والقدرة على التعامل بموضوعية مع سياسات النظام الحاكم.
وللأسف، فشل الإعلام الخاص المصري في لعب ذلك الدور بعد ثورة يناير، لسببين رئيسيين: مصالح النخب الاقتصادية والسياسية المسيطرة على تلك الوسائل، والانقسام السياسي وفشل القوى السياسية في إدارة المشهد بعد الثورة من ناحية أخرى، فالإعلام الخاص في مصر مملوك لعدد قليل للغاية من رجال الأعمال القريبين من النظام، بحكم تركز الثورة في مصر، وتحكم النظام السياسي فيها، ولذلك لم تستطع وسائل الإعلام الخاصة الحفاظ على الأصوات القليلة، الداعمة للثورة بين أشهر مذيعيها وإعلامييها، فسرعان ما استقال هؤلاء بعد انقلاب يوليو 2013، على الرغم من أن بعضهم لعب دورا أساسيا في حشد الجماهير ضد حكم جماعة الإخوان المسلمين.
أما بقية نجوم الفضائيات المصرية الخاصة، فيمثل غالبيتهم ما هو أشبه بنخبة مغلقة أو حاشية خاصة، تتبع الملك مهما كان، وتسبّح بحمده، فبعد أن سبّح هؤلاء بحمد مبارك سنوات، وبعد أن انتقدوا محمد مرسي القادم من خارج مؤسسات الدولة العميقة، المسيطرة على النظام المصري، رافعين شعارات الثورة وحرية التعبير، تحوّلوا، بشكل مرن وسريع للغاية، مساندين لقائد انقلاب يوليو 2013 والرئيس المصري الحالي، عبد الفتاح السيسي.
أما الإعلام الخاص الذي أسسه التيار الديني، فوقع أيضا في فخّ التحزب السياسي، ومحاولة تمثيل مصالح تياره، والنخب المسيطرة عليه، ناهيك عن قلة خبرته. ويلاحظ هنا أن إعلام التيار الديني فشل في التحول إلى إعلام خاص موضوعي، بعيد عن التحزب، كنماذج الإعلام الخاص الغربي، فبدلا من أن يجمع طوائف الشعب حوله، ويقدم إعلاما يمثل فئات سياسية مختلفة، تحول إلى إعلام حزبي وإيدولوجي، لعب دورا أساسيا في تعميق الانقسام.
المؤسسة أو القوة الإعلامية الثالثة، وهي الحديثة والأضعف نسبيا، هي من يعرفون بنشطاء
الإنترنت. ويلاحظ على هؤلاء قلة خبرتهم وتحزبهم كذلك، حيث لعب بعضهم دورا مهما في الثورة على نظام مبارك، ومزجوا بين نشاطهم لنشر أخبار عن جرائم الاستبداد من ناحية، ونشاطهم في تقدم صفوف المعارضة من ناحية أخرى. وبعد الثورة، فشل كثيرون منهم في التحلي بالموضوعية المطلوبة، لبناء إعلام مستقل، واستمروا في دورهم السياسي والإيدلوجي، ما قاد إلى مزيد من التفتت داخل القوى السياسية، وتشتت الرأي العام المصري، والذي أصبح أمام عدد هائل من القوى والانقسامات السياسية.
لا يهدف التصنيف السابق إلى تحميل الإعلام المصري وروافده المختلفة المسؤولية عن فشل قوى يناير، أو حتى عن أخطائها، وإن كان شريكا أصيلا في الفشل وفي تلك الأخطاء، لكنه تذكير بقضية أساسية، وهي أن الإعلام المصري جزء من المجتمع، ونتاج صادق لبنية القوى المسيطرة عليه، حيث عانى الإعلام دوما من قيود عدة، كتحكم النظام فيه، في غياب القوانين، والمؤسسات الحامية والثقافة العامة الداعمة لحرية الرأي والتعبير، بالإضافة إلى قلة التدريب وتراجع الكفاءة والإمكانات في الإعلام الرسمي، وسيطرة رأس المال ومصالحه على الإعلام الخاص، وتحزب وإيدولوجيا الإعلام المعارض، وتفتت نشطاء الإنترنت وتحزبهم، أضف إلى ذلك طبيعة فترة التحوّل الديمقراطي نفسها، باعتبارها فترة ضبابية انتقالية، لم تُحسن القوى السياسية المناصرة للثورة والتغيير استغلالها، وكان المفترض أن يرتفع الإعلام المصري عن تلك الأزمات، ويقدّم نموذجا في الموضوعية، وحماية الديمقراطية، والوقوف على مسافة واحدة من مختلف القوى السياسية، لكنه للأسف فشل في ذلك، كما فشل كثيرون في القيام بالأدوار المنتظرة منهم، لدعم الثورة والانتقال الديمقراطي.
بمعنى آخر، يفضل بعضهم، بما في ذلك بعض أنصار الثورة والتغيير، النظر إلى أزمة الإعلام المصري أو السياسة المصرية، وكأنها نتاج أخطاء بعض الصحافيين ونجوم الفضائيات والنخب المالكة للمؤسسات الإعلامية وانتهازيتهم، أو نتاج الأحزاب المعارضة والنخب المسيطرة عليها في حالة السياسة، وكأن المؤسسات الإعلامية والسياسية والنخب المسيطرة عليها وجدت من عدم، وتعمل في فراغ عن البيئة المحيطة بها.
باختصار، الإعلام والسياسة والاقتصاد والتعليم وغيرها من ظواهر المجتمع ومؤسساته ليست أكثر من بنى اجتماعية تدعم بعضها، وتعبر عن منظومة القوى الحاكمة للمجتمع، لذا لا يجب
ولو حاولنا توصيف الإعلام المصري، بعد خمس سنوات على انقلاب يوليو 2013 وثماني سنوات ونصف السنة على ثورة يناير، لقلنا إنه يتكون من ثلاث مؤسسات أو قوى رئيسية. .. الأولى، الإعلام العام، أو الرسمي كما يسمى في مصر، والتي كانت من المفترض أن تقود المشهد الإعلامي المصري قبل الثورة وبعدها، بحكم أنها مؤسسات عامة، يمولها المواطن المصري من ضرائبه، ولا تخضع لحسابات المكسب والخسارة، وضغوط رجال الأعمال المالكين لها، كما الإعلام الخاص، لكنها للأسف تحولت، منذ نشأتها، إلى مؤسسات تابعة للنظام، وليس للدولة المصرية، حالها كما بقية مؤسسات الدولة. فبدلا من أن يتحول الإعلام الرسمي إلى إعلام عام، يدافع عن مصالح الشعب، ويمثل فئاته المختلفة، ويدافع عن الديمقراطية، كما الإعلام العام في دول ديمقراطية عريقة، كبريطانيا مثلا، تحول الإعلام الرسمي المصري، منذ نشأته، إلى بوق للنظام، ينتظر تعليماته وبياناته الرسمية، ولا يخرج عنها، ملتزما بدور أساسي، وهو تلميع النظام وصورته. وبمرور الوقت، فقد الإعلام الرسمي المصري مصداقيته، والقدرة على الإبداع، بل والكفاءة، خصوصا مع تراجع التمويل العام، وتكدس المؤسسات الإعلامية الرسمية بعشرات آلاف من الموظفين، ولذا سرعان ما تراجع دور الإعلام الرسمي المصري، مع صعود ظاهرة الإعلام الخاص في العقد الأخير من حكم حسني مبارك. وقد انعكس ذلك على أدائه بعد الثورة، حيث توارى كثيرا في الخلفية، ولم يلعب دورا أساسيا في التأثير على المشهد، وسرعان ما عاد إلى دوره بوقا للنظام بعد انقلاب 2013، وذلك بعد فترة تردّد قصيرة، مال في بدايتها إلى ثورة يناير، ثم تحول منبرا للصراع السياسي، الباحث دائما عما يرضي قوى النظام القديم، وفي مقدمتها القوات المسلحة.
المؤسسة الثانية هي الإعلام الخاص، والتي صعد نفوذها في السنوات الأخيرة من عهد مبارك، مع افتتاح فضائيات وصحف خاصة. وبعد ثورة يناير، زاد عدد تلك المؤسسات بدخول التيار الديني ساحة المنافسة، بتأسيسه وسائل إعلام معبرة عن صوته. ويلاحظ هنا أن الإعلام الخاص في الدول الديمقراطية، كالولايات المتحدة، يلتزم بقدر كبير من الموضوعية والأخلاق المهنية من ناحية، ومحاولة البعد عن التحزب السياسي من ناحية أخرى، أو وضع مسافة بين ميول الوسيلة الإعلامية السياسية والإيدلوجية، والقدرة على التعامل بموضوعية مع سياسات النظام الحاكم.
وللأسف، فشل الإعلام الخاص المصري في لعب ذلك الدور بعد ثورة يناير، لسببين رئيسيين: مصالح النخب الاقتصادية والسياسية المسيطرة على تلك الوسائل، والانقسام السياسي وفشل القوى السياسية في إدارة المشهد بعد الثورة من ناحية أخرى، فالإعلام الخاص في مصر مملوك لعدد قليل للغاية من رجال الأعمال القريبين من النظام، بحكم تركز الثورة في مصر، وتحكم النظام السياسي فيها، ولذلك لم تستطع وسائل الإعلام الخاصة الحفاظ على الأصوات القليلة، الداعمة للثورة بين أشهر مذيعيها وإعلامييها، فسرعان ما استقال هؤلاء بعد انقلاب يوليو 2013، على الرغم من أن بعضهم لعب دورا أساسيا في حشد الجماهير ضد حكم جماعة الإخوان المسلمين.
أما بقية نجوم الفضائيات المصرية الخاصة، فيمثل غالبيتهم ما هو أشبه بنخبة مغلقة أو حاشية خاصة، تتبع الملك مهما كان، وتسبّح بحمده، فبعد أن سبّح هؤلاء بحمد مبارك سنوات، وبعد أن انتقدوا محمد مرسي القادم من خارج مؤسسات الدولة العميقة، المسيطرة على النظام المصري، رافعين شعارات الثورة وحرية التعبير، تحوّلوا، بشكل مرن وسريع للغاية، مساندين لقائد انقلاب يوليو 2013 والرئيس المصري الحالي، عبد الفتاح السيسي.
أما الإعلام الخاص الذي أسسه التيار الديني، فوقع أيضا في فخّ التحزب السياسي، ومحاولة تمثيل مصالح تياره، والنخب المسيطرة عليه، ناهيك عن قلة خبرته. ويلاحظ هنا أن إعلام التيار الديني فشل في التحول إلى إعلام خاص موضوعي، بعيد عن التحزب، كنماذج الإعلام الخاص الغربي، فبدلا من أن يجمع طوائف الشعب حوله، ويقدم إعلاما يمثل فئات سياسية مختلفة، تحول إلى إعلام حزبي وإيدولوجي، لعب دورا أساسيا في تعميق الانقسام.
المؤسسة أو القوة الإعلامية الثالثة، وهي الحديثة والأضعف نسبيا، هي من يعرفون بنشطاء
لا يهدف التصنيف السابق إلى تحميل الإعلام المصري وروافده المختلفة المسؤولية عن فشل قوى يناير، أو حتى عن أخطائها، وإن كان شريكا أصيلا في الفشل وفي تلك الأخطاء، لكنه تذكير بقضية أساسية، وهي أن الإعلام المصري جزء من المجتمع، ونتاج صادق لبنية القوى المسيطرة عليه، حيث عانى الإعلام دوما من قيود عدة، كتحكم النظام فيه، في غياب القوانين، والمؤسسات الحامية والثقافة العامة الداعمة لحرية الرأي والتعبير، بالإضافة إلى قلة التدريب وتراجع الكفاءة والإمكانات في الإعلام الرسمي، وسيطرة رأس المال ومصالحه على الإعلام الخاص، وتحزب وإيدولوجيا الإعلام المعارض، وتفتت نشطاء الإنترنت وتحزبهم، أضف إلى ذلك طبيعة فترة التحوّل الديمقراطي نفسها، باعتبارها فترة ضبابية انتقالية، لم تُحسن القوى السياسية المناصرة للثورة والتغيير استغلالها، وكان المفترض أن يرتفع الإعلام المصري عن تلك الأزمات، ويقدّم نموذجا في الموضوعية، وحماية الديمقراطية، والوقوف على مسافة واحدة من مختلف القوى السياسية، لكنه للأسف فشل في ذلك، كما فشل كثيرون في القيام بالأدوار المنتظرة منهم، لدعم الثورة والانتقال الديمقراطي.