ثورة السيسي المُستمرّة
مرّ عقد على حكم الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ولو تابعت خطاباته لربّما وجدت نفسك باستمرار أمام رئيسٍ يخرج فيها عن النصوص المكتوبة، ويتحدّث كثيراً من دون خطاباتٍ مُعدّة مُسبقاً، وفي كلّ مرّة يظهر ثائراً، غاضباً، مُحاجِجاً، غير راضٍ عن أوضاع مصر أو المصريين. يقول السيسي إنّه لمّا تولّى الحكم لم يجد "دولة"، وإنّ المصريين كادوا يُضيّعون أنفسهم في 2011، حين تظاهروا ضدّ حكم الرئيس المصري السابق حسني مبارك، الذي يلومه السيسي أيضاً لأنّه حكم البلاد طويلاً ولم يُجرِ الإصلاحات اللازمة. يلوم السيسي حُكّام مصر السابقين جميعاً تقريباً، ويقول ضمناً إنّهم لم يمتلكوا الشجاعة لإجراء الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة خوفاً من ردّات فعل المصريين، وإنّه قرّر مواجهة الجميع لإنقاذ الدولة، التي لا يعرف المصريون معناها، ولا يتعاملون مع متطلّبات بنائها بالجدّية الكافية.
يلوم السيسي المصريين لأسباب كثيرة إضافية، ككثرة الإنجاب والسُّمنة وعدم ممارسة الرياضة، وعدم الإقبال على العمل والإنتاج. ويلومهم أيضاً على عدم الوعي السياسي، وعلى عدم تقديره رئيساً، ولعدم تقدير مدى شرفه ونزاهته وأمانته وقدراته القيادية وإنجازاته في الحكم، ولأنهم عرضةٌ دوماً لأهل الشرّ، ولحروب الجيل الرابع، وللدعاية المُغرضة. ولعلّ تلك النبرة الناقدة أوضاع مصر ووعي المصريين بمثابة تعبير جيّد عن سياسات السيسي نفسها، التي يمكن وصفها بالثوريّة أو بالتغييرات الراديكالية الرافضة للأوضاع القائمة، والساعية إلى تغييرها، ولو سارت على غير رضا قطاع واسع من الشعب المصري، فالسيسي، كما يرى ماجد مندور في كتابه بالإنجليزية "مصر في عهد السيسي: أمّة على الحافَة" (2023)، ليس مُجرّد امتداد لنظام 1952، إذ تميّز عهد السيسي بتغييرات راديكالية مقارنة بعهد مبارك، خصوصاً في الصعيدين السياسي والاقتصادي. فصعد السيسي إلى الحكم مُعبّراً عن مصالح النُّخَب الأمنية الحاكمة لمصر منذ 1952 (الجيش والمؤسّسات الأمنية الرئيسية)، والنُّخَب السياسية والاقتصادية المتحالفة معها، وتحالف الدول العربية المتحالفة مع أميركا وإسرائيل. وجميعهم رأوا في انتفاضة 25 يناير (2011) تهديداً لمصالحهم.
خلال حكم السيسي تراجع حكم القانون والمؤسّسات في مصر، وتحتلّ مصر المرتبة 136 من 142 بحسب مقياس مشروع العدالة الدولية
كانت انتفاضة يناير تعبيراً عن صراع بين المُؤسّسات الأمنية ونُخَب مبارك الاقتصادية والسياسية. كانت أيضاً نتاجاً لرغبة مبارك في توريث نجله جمال، وانفتاحه السياسي المُقيّد وتسامحه النسبي مع المعارضة إرضاءً للغرب لتمرير سيناريو التوريث، أو استجابة للضغوط الأميركية بعد غزو العراق. ثبت فشل توليفة مبارك في "25 يناير"، وكان على السيسي، قائد ما تسمى ثورة 30 يونيو (2013) بناء تحالف حكم جديد في أسرع وقت ممكن لحماية نفسه، وثورته، أو "انقلابه" على حكم الرئيس المُنتخَب محمد مرسي، وعلى "25 يناير". وهنا يمكن وصف الإجراءات التي طبّقها السيسي بالثوريّة (التغيير السريع والكبير لبنية النظام الاقتصاد والسياسي الحاكم)، وفي مقدمتها أولاً، القضاء العنيف على قوى المُعارَضة التي تصدّرت المشهد في "25 يناير"، وفي مقدّمتها جماعة الإخوان المسلمين وبعض القيادات الشبابية. وقد أدى ذلك إلى مقتل مئات المصريين وسجن عشرات آلاف منهم. ثانياً، قاد السيسي عملية كتابة دستور جديد في 2014 وتعديله في 2019، مُرسّخاً سلطاتٍ كثيرة في يديه على غرار نظام مبارك، وفاتحاً الباب لنفسه للبقاء في الحكم لولاية ثالثة، وربّما أكثر، كما قاد أيضاً عملية انتخاب مجالس نيابية تابعة لنظامه، ومن دون صلاحيات تُذكَر. وخلال حكم السيسي، تراجع حكم القانون والمؤسّسات في مصر تراجعاً ربّما يكون غير مسبوق، إذ تحتلّ مصر حالياً المرتبة 136 من 142 دولة يتضمّنها مقياس خاصّ بحكم القانون يصدره مشروع العدالة الدولية. أُضعِف البرلمان المصري، وكذا المُؤسّسات الرقابية والإعلامية، وخضعت جميعاً لسيطرة الرئيس المصري والمُؤسّسات الأمنية خضوعاً لافتاً للنظر.
ثالثاً، وفي الصعيد الاقتصادي، أجرى السيسي تغييرات راديكالية، في مقدّمتها التوسّع في الاستدانة بصورة غير مسبوقة، فتبنّى سياسة التوسّع في الإنفاق على مشاريع البنية التحتية، وتضاعفت في عهده الطرق المرصوفة في مصر، وبُنيت مدن جديدة، في مقدّمتها العاصمة الإدارية، وأُنفِق على البنية التحتية في الكهرباء والطاقة. ولكي توفّر الحكومة الموارد اللازمة للإنفاق على تلك المشاريع، سمح السيسي بتخفيض قيمة العملة المصرية أمام الدولار مرّات عدّة، فتضاعف سعر الدولار أمام الجنيه سبعة أضعاف تقريباً، كما توسّع في الاستدانة الخارجية والداخلية بصورة غير مسبوقة، فوصل ديْن مصر الخارجي حالياً إلى نحو 160 مليار دولار، أو أربعة أضعاف ما كان عليه في 2014 حين صعد السيسي إلى الحكم، كما وصل الدَّين الداخلي إلى نحو ثمانية ترليونات جنيه مصري تقريباً، وربّما أكثر. كما توسّع السيسي أيضاً في تخفيض الدعم برفع سعر الطاقة مرّات عدّة، ورفع سعر رغيف العيش أخيراً أربع مرات دفعة واحدة. وتميّز حكم السيسي أيضاً، بارتفاع التضخّم إلى مُعدّلات غير مسبوقة، وتراجع الإنفاق على مجالات الصحّة والتعليم.
وقد أدّى هذا كلّه إلى تحميل المواطن المصري تكاليف باهظة وقاسية، وغير مسبوقة لفاتورة السياسات الاقتصادية الحكومية، وإلى تراجع الدعم وصعود مُعدّلات الفقر، وارتفاع الفجوة بين الأثرياء والفقراء في مصر بصورة غير مسبوقة، وإلى صعود رأسمالية جديدة في مصر، تترأّسها الرأسمالية العسكرية، إذ لعبت المُؤسّسات الأمنية دوراً مهمّاً في النشاط الاقتصادي، وصعود ما يمكن تسميتها الرأسمالية الخليجية في مصر، أو تحالف الرأسمالية العسكرية والخليجية وبعض رأسمالية مبارك التي تشارك في بيع عدد من أكثر الشركات العامّة المصرية ربحية إلى الإمارات والسعودية، وصعود الدور الاقتصادي البارز للإمارات في مصر بحكم أنّها أكبر مشترٍ للشركات المصرية ضمن برنامج بيع الأصول، الذي بدأته مصر منذ إبريل/نيسان 2022، وبحكم إعلانها أخيراً استثمارها في مشروع رأس الحكمة العملاق، وهو استثمار ضخم وغير مسبوق في تاريخ مصر الحديث.
ورابعاً، وفي صعيد السياسة الخارجية، قلّل السيسي من التركيز على العلاقة مع الولايات المتّحدة، متوجّهاً أكثر نحو قوى عسكرية وسياسية واقتصادية أخرى، مثل العضوية في "بريكس"، والتقارب مع الصين، وروسيا من خلال بناء مفاعل الضبعة النووي، وتوثيق العلاقات العسكرية والاقتصادية بأوروبا من خلال توقيع اتفاقيات تسليح ومشاريع اقتصادية ضخمة مع شركات فرنسية وألمانية وإيطالية، والحصول أخيراً على صفقة قروض ضخمة من الاتحاد الأوروبي تبلغ قيمتها سبعة مليارات يورو، بالإضافة إلى وعود استثمارات تتراوح بين 40 - 70 مليار دولار. أضف إلى ذلك توجّه السيسي القوي نحو دول الخليج، خاصّة الإمارات، التي باتت تُعدّ الشريك الاقتصادي، وربّما السياسي، الأهم لمصر في عهد السيسي.
وخلال الحرب الإسرائيلية الجارية على غزّة تميزت سياسات السيسي بدرجة عالية من البراغماتية السياسية حازت إشادة الإدارة الأميركية والحكومات الأوربية، فسارعت بحزم الإنقاذ الاقتصادي لمصر خلال النصف الأول من عام 2024، كما حافظ السيسي خلال الحرب على علاقات اقتصادية غير مسبوقة مع إسرائيل من خلال اعتماد مصر المتزايد وغير المسبوق على استيراد الغاز من إسرائيل.
حازت براغماتية السيسي خلال الحرب المستمرّة على غزّة إشادة واشنطن والحكومات الأوربية، فسارعت بحُزَم إلى الإنقاذ الاقتصادي لمصر
غيّرت التغييرات السابقة وجه مصر كثيراً، فقضت تقريباً على قوى المُعارضة الأكثر تنظيماً والأعلى صوتاً، وقوّضت دور المُؤسّسات المُنتخَبة والرقابية، وأُجريت تغييرات اقتصادية ضخمة وباهظة التكاليف أثّرت في حياة عشرات الملايين، وغيّرت شكل الطبقات الاقتصادية في مصر، وغيرت، إلى حدّ ما، وجهة مصر وتحالفاتها الخارجية. ولهذا، يمكن وصف ما قام به السيسي حتّى الآن بـ"الثورة"، باعتبارها تغييرات راديكالية تغيّر بنية المجتمع ونظامه السياسي خلال فترة وجيزة. وتبقى أسئلة عدّة بشأن مدى استمرار تلك التغييرات بالسرعة والراديكالية نفسها، وعن تبعاتها المختلفة على مصر على الأصعدة المختلفة. فلم يعد في مصر نُخَب مُعارَضة تُذكَر، والمُؤسّسات الحاكمة والرقابية أُضعِفت، وترسّخ الحكم الفردي المُطلق في مصر بصورة غير مسبوقة، وأصبحت مصر على شفا الإفلاس الاقتصادي (العجز عن سداد الديون) مرَّتَين خلال آخر عامَين، وما زالت تعاني اقتصادياً، وستظلّ تعاني فترة كما ذكر الرئيس المصري نفسه في خطاب له في 6 إبريل/ نيسان الماضي (2024).
يقول الرئيس المصري إنّ سياساته كانت ضرورية، ففي يناير/ كانون الثاني (2011) كادت مصر تضيع، والأنظمة السابقة أهملت البلد عقوداً، وبعض قوى المعارضة أو ربّما جزء كبير منها تنتمي إلى أهل الشرّ، وإنّه أجرى إصلاحات لم يحلم بها المصريون، وإنّ القادم سيكون أفضل، وإنّ على المصريين الصبر والصمت وعدم الإنصات إلى سواه، فهو الأدرى بمصالحهم، وهو وحده من يرى المطلوب لإصلاح أحوال مصر والمصريين، وإعادة بناء الدولة، وهي أمور لا يفهمها الكتّاب والمثقّفون، ومن يسمون أنفسهم بالنشطاء، ويستعصي فهمها بكلّ تأكيد على المواطن العادي. ويبقى مصريون كثيرون في حيرة من أمرهم، يُمنّون أنفسهم بأنّ صبرهم الإجباري على ثورة السيسي سوف يأتي بثمار مُختلفة قريباً.