الإفقار المُنظَّم للمواطن المصري
خلال السنوات العشر الماضية، عانى المواطن المصري من إفقار مستمرّ، ومُنظّم. وهذا يعود إلى أنّ الإفقار أساساً نتيجةٌ طبيعةٌ لسياسات الحكومة المصرية نفسها، التي يمكن وصفها بالسياسات التقشّفية. تلجأ دول كثيرة حول العالم في فترات مختلفة إلى تقليل الإنفاق على الخدمات التي تقدّمها إلى المواطنين، كالتعليم والصحّة والمساعدات الاجتماعية، من أجل الإنفاق على نواحٍ اقتصاديةٍ أخرى مثل تسديد الديون، أو التركيز في الاستثمار في مشاريع جديدة، وهو ما يُعرف بسياسات التقشّف التي تُلقي أعباءً ثقيلةً للغاية على المواطنين، وفي رأسها تقليل الدعم والخدمات. وهذا ما فعلته إلى حدّ ما الحكومة المصرية خلال آخر عشر سنوات.
مع صعود الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي إلى الحكم في عام 2014، قدّمت بعض الدول الخليجية مساعدات فورية ضخمة إلى مصر تُقدّر بعشرات مليارات الدولارات، واستمرّت في تقديم مساعدات إضافية، حتّى وصل إجمالي ما قدّمته تلك الدول من مساعدات مختلفة إلى مصر حتّى عام 2023 إلى أكثر من مائة مليار دولار، وفقاً لتقديرات وكالة أسوشييتد برس. ولكنّ هذه المساعدات لم تكن كافيةً وحدها لعلاج مشكلات الاقتصاد المصري المُزمِنة، وفي مقدمتها ضعف الإنتاجية، والقدرة على التصدير، وغياب قاعدة صناعية وإنتاجية قوية، وضعف التنافسية الاقتصادية.
أراد السيسي، والقوى الموالية له، تركيز الثروة والسلطة في يد مجموعة صغيرة مُقرَّبة يُضمَن ولاؤها
ومع استقرار السيسي في الحكم، كان عليه تقديم حلولٍ للمشاكل السابقة. وكان أمام الرئيس المصري ثلاثة بدائل في الأقلّ. كان يمكن للسيسي بناء بنية اقتصادية جديدة تسمح لمصر بالانتقال إلى عصر السوق الحرّة، والرأسمالية التنافسية، بعيداً من رأسمالية المحاسيب، التي سادت خلال عهدَي أنور السادات وحسني مبارك. كان يمكن للرئيس المصري أن يعيد بناء البنية التشريعية في مصر مُعزّزاً دور المؤسّسات الرقابية، ومُشجّعاً التنافسية ودور القطاع الخاص، وربّما فتح الباب لمشاركة بعض مؤسّسات الدولة نفسها في التنافس الاقتصادي الشفّاف، لتحقيق أفضل نتائج اقتصادية لمصر وللمصريين. ويعيب هذا التوجّه، من وجهة نظر النظام المصري، أنّه يفرض على الحكومة المصرية قدراً كبيراً من الشفافية وبناء المؤسّسات الرقابية المُستقلّة، ويُعزّز دورَ القطاع الخاص، ويقوم نسبياً بإعادة توزيع الثروة، ومن ثمّ السلطة، بشكل حرّ وتدريجي. ويبدو أنّ هذا التوجّه كان مُستبعَداً من الرئيس المصري، ومن القوى الداعمة لنظامه، التي أرادت، كعادة النظم التي حكمت مصر منذ 1952، تركيز الثروة والسلطة في يد مجموعة صغيرة مُقرَّبة من الحاكم يضمن ولاءها.
البديل الثاني كان الاستمرار في سياسةِ رأسماليةِ المحاسيب، التي ورثها حسني مبارك عن أنور السادات، واستمرّ فيها. ويُقصد برأسمالية المحاسيب هنا الاعتماد المتزايد على مجموعة من رجال الأعمال المُقرَّبين من السلطة، الذين يُمنحون مزايا اقتصادية كبيرة في مقابل الولاء للنظام ودعمه. وتتمثّل تلك المزايا في الحصول على الأراضي والمشاريع الحكومية بأثمانٍ زهيدةٍ تُمكّنهم من تحقيق ثروات ضخمة. في المقابل، يتنافس رجال الأعمال فيما بينهم لتحقيق أكبر قدر من الثروة ورفع معدّلات نمو الاقتصاد المصري، في عملية يديرها ويتحكّم بها النظام المصري. ويبدو أنّ السيسي استبعد هذا الخيار أيضاً، لأنّه شعر بحالة التنافس أو التصارع التي ساعدت في إنهاء عهد مبارك، بين مراكز قوى متضاربة المصالح كالجيش من ناحية، ورجال أعمال مبارك من ناحية أخرى، وبين رجال أعمال مبارك والحزب الوطني أحياناً، وبين رجال الأعمال أنفسهم. وربّما شعر الجيش والمؤسّسات الأمنية بعد يناير/ كانون الثاني 2011 أنّهم الطرف الأقوى في الدولة المصرية، وأنّهم أحقّ الناس في الفوز بالثروة، وليس بالسلطة فقط. وهنا اختار السيسي خياراً ثالثاً عزّز صعود الرأسمالية العسكرية في مصر. وتقول أحدث إحصاءات البنك المركزي المصري أنّ نصيب القطاع الخاص من الاستثمارات السنوية المنفّذة في مصر تراجع إلى نحو 25% فقط، في عام 2022، وهو أقلّ مستوى على الإطلاق، ونصف ما كان عليه في عام 2002، وأقلّ بكثير من أعلى مستوى وصل إليه في عهد مبارك؛ إذ وصل حتّى 67% في عام 2007.
تراجُعُ نصيب القطاع الخاص من الاستثمارات المُنفّذة في مصر بشكل مستمرّ وكبير منذ 2014 يُعَدُّ من أبرز المُؤشّرات على سياسات الرئيس المصري وتفضيله إعادة توزيع الثورة، والاعتماد بشكل متزايد على نخبة اقتصادية جديدة تأتي من المؤسّسات الأمنية، التي توسّعت في إنشاء الإمبراطوريات الاقتصادية. فضّل السيسي سياسات اقتصادية جديدة تقوم على التوسّع في دور المؤسّسات الأمنية الاقتصادي، والتوسّع كذلك في الاقتراض بشكل غير مسبوق للإنفاق على مشاريع جديدة ضخمة ترفع مُعدّلات النمو الاقتصادي. خلال عهد السيسي تضاعف الدين الخارجي أربع مرّات كاملة، ليصل إلى نحو 168 مليار دولار نهاية عام 2023، مقارنةً بحوالى 44 مليار دولار في 2014 فقط، قبل أن يتراجع بفضل صفقة رأس الحكمة إلى 154 مليار دولار أميركي. كذلك تضاعف الدين الداخلي بمُعدّلات مشابهة تقريباً ليصل إلى ثمانية ترليونات جنيه مصري. وتضاعفت أيضاً مساحة الطرق المرصوفة في مصر، وانطلقت عمليه بناء عدد كبير من المدن الجديدة، وفي مقدّمتها العاصمة الإدارية الجديدة، وعددٍ من مشاريع الطاقة باهظة التكاليف.
وبناءً عليه، حقّقت الدولة المصرية مُعدّلات نمو مرتفعة نسبياً حتّى أزمة كورونا، ولكنّه نمو كان قائماً على الاقتراض من الخارج في صور مختلفة، ومن بينها الأموال الساخنة (استثمار الأجانب في أذون الخزانة المصرية بفوائد عالية تُعَدُّ من الأعلى عالمياً)، والإنفاق على مشاريع غير إنتاجية وغير تصديرية كمشاريع البني التحتية والعقارات. فرغم الإنفاق الضخم لبناء المدن الجديدة في مصر، لم يتخطَّ حجمُ مبيعات المنازل لغير المقيمين في مصر أكثر من مليار دولار سنوياً، وربّما يعود ذلك إلى ضعف البنية التشريعية والقانونية في مصر، التي لا يُشجّع الأجانب على الاستقرار في مصر أو شراء المنازل فيها لو لم يكونوا مُضطرين، كحال بعض اللاجئين والهاربين من الحروب الذين استقرّوا في مصر أخيراً. الإنفاق الكبير على تلك المشاريع، والانفتاح على الديون، وضعف القدرة على التصدير، حمّلت الدولة المصرية أعباءً هائلةً، فكان لزاماً عليها توفير أموال إضافية لسداد الديون والإنفاق على المشاريع الضخمة. شملت عملية التقشّف صوراً عديدةً، في مقدّمتها التخلّي عن بعض التزامات الدولة تجاه مواطنيها، من خلال تعويم أو تخفيض سعر الجنيه المصري مرّات عدّة أمام الدولار منذ عام 2016، وتقليل فاتورة الدعم في حدودٍ غير مسبوقة، ورفع أسعار جميع السلع والخدمات الأساسية، كالطاقة والمواصلات، وتقليل إنفاق الدولة على التعليم والصحّة وغيرها من الخدمات التي تصل إلى المواطنين.
دخلت الدولة المصرية مرحلةً جديدةً وقاسيةً للغاية من رأسمالية الدولة، تضاعف بسببها عدد المصريين تحت خطّ الفقر أو القريبين منه، الذين يبلغ عددهم حالياً نحو 70 مليون مواطن مصري، وربّما أكثر، وتراجع حجم الطبقة الوسطى المصرية، وزاد تركّز الثروة في مصر بشكل مستمرّ وغير مسبوق. فالنتيجة المنطقية لتلك الزيادات، أنّ الفقير بات بلا ثمنٍ، والعمالة الرخيصة باتت بلا ثمنٍ، والأغنياء باتوا أكثر قدرة على شراء أيّ شيء وبأقلّ الأثمان. ضعفت قدرة الفقير في التفاوض على أجر أفضل، وتراجع المُقابلُ الذي يحصل عليه نظير عمله. وضاعف من مشاكل المصريين أنّ سياسات التقشّف لم تنجح في زيادة مُعدَّلات النمو بشكل مستمرّ، وأدّت في النهاية إلى أزمات اقتصادية مُضاعَفة، لأنّ إنفاق الدولة المصرية ذهب إلى مشاريع غير إنتاجية وغير تصديرية في الأساس.
ضعف البنية التشريعية والقانونية في مصر لا يُشجّع الأجانب على الاستقرار أو شراء المنازل فيها
وبسبب أزمة كورونا، وحرب أوكرانيا أيضاً، ضعفت تدفّقات الأموال الأجنبية، وهربت بعض الديون (الأموال الساخنة)، حتّى دول الخليج ملّت من إرسال المساعدات، وبدأت تطلب مُقابلاً لأموالها (بيع أصول الدولة المصرية)، وهو ما قاد منذ مارس/آذار 2022 إلى أزمةِ عُملةٍ طاحنةٍ أدّت إلى تراجع القدرة على الاستيراد، وإلى تخفيضٍ إضافي في قيمة العُملة المصرية، وإلى ارتفاعٍ غير مسبوق في الأسعار ومُعدَّلات التضخّم، حتّى وصلت مُعدَّلات تضخّم أسعار الغذاء في مصر إلى أكثر من 70% في أواخر عام 2023، ولم تتمكّن مصر من حلّ أزمتها الاقتصادية من دون تدخّلٍ خارجي (صفقة رأس الحكمة، واتفاقية قرض جديد مع صندوق النقد الدولي، وعودة الأموال الساخنة).
أما المواطن المصري، فقد وجد نفسه على موعد جديد من رفع الأسعار وتقليل التضخّم، طاولا هذه المرّة رغيف العيش نفسه، الذي تضاعف سعره أربع مرّات دفعة واحدة، وطاولا أخيراً سعر البنزين والمواصلات، بعد زيادات سابقة هذا العام في أسعار المواصلات والإنترنت والحديد وموادَّ أخرى. وبهذا، يجد المواطن المصري نفسه أمام دائرة كاملة من السياسات الاقتصادية التي تقودها الحكومة المصرية نفسها، أدّت إلى إفقاره بشكل سريع وكبير، وغير معهود خلال آخر عشر سنوات، من دون نهاية في الأفق لحالة الإفقار المستمرّة والمُتعمَّدة. وتعد الحكومة المواطن بعودة مُعدّلات التضخمّ لمستويات مقبولة نسبياً (10%) في نهاية عام 2025، وبأنّ مشكلة الدولار ستُحَلُّ عام 2030، وأنّ ثمار التنمية والمشاريع الاقتصادية ستصل إليه، وإن تأخّرت، وأنّ الأوضاع الاقتصادية ما زالت صعبة، كما ذكر الرئيس المصري، في حديث له في 6 إبريل/نيسان الماضي، مُذكّراً المصريين بأنّ سياساته هي محاولةٌ لبناء دولةٍ بعدما لم يجد دولةً في مصر حين وصوله إلى الحكم، وأنّه لم يَعِد المصريين بشيء، وأنّ المصريين هم من طالبوه بحكمهم. أما الاقتصاد المصري، فيعتمد حتّى هذه اللحظة على تدفّقات ضخمة من رؤوس الأموال تأتيه من الخارج، في صورة تحويلات العاملين في الخارج (22-32 مليار دولار سنوياً)، وعوائد السياحة وقناة السويس والاستثمارات الأجنبية والأموال الساخنة، وكلّها عوامل عُرْضَةً للتقلّبات الدولية في منطقة مُضطربة. في حين أنّ الزيادة في الصادرات غير البترولية لا ترتفع إلّا بمُعدَّلات بسيطة، وإن كانت إيجابية، ولكنّها لا تسعف في علاج أزمة الديون ونقص العُملة.
يعيش الاقتصاد المصري رهينةً للخارج، ويعيش المواطن المصري رهينةً لأزمة الديون، وما ارتبط بها من نقصٍ في العُملة الأجنبية، وفي حالة إفقار غير مسبوقة لن تُحلَّ سريعاً، داعياً الله ألّا تتدهور أكثر.