10 فبراير 2024
إضاءات نحوية: ومن ثم!
يتألف الكلام عند العرب من اسم وفعل وحرف، وفي نظم ابن آب للآجرومية (إن الكلام عندنا فلتستمع/ لفظٌ مركبٌ مفيدٌ قد وضع/ أقسامه التي عليها يُبنى اسمٌ وفعلٌ ثم حرفُ معنى)؛ فإن من شروط العربية الوضع، وهو ما اتفقت عليه العرب وأُخِذَ عنها، وعبر هذه السطور ندور في فلك هذا المعنى اللطيف.
عند تفكيك تركيب (ومن ثم)، نعلم أن الواو حرف عطف، ومن حرف جر، ويقع الإشكال في ثم؛ أتُنطَقُ بالضَّمِّ أم بالفتح؟ وما الفرق بينهما؟ وماذا عن دخول التاء في الحالتين؟
مضمومة الثاء
عند تفكيك تركيب (ومن ثم)، نعلم أن الواو حرف عطف، ومن حرف جر، ويقع الإشكال في ثم؛ أتُنطَقُ بالضَّمِّ أم بالفتح؟ وما الفرق بينهما؟ وماذا عن دخول التاء في الحالتين؟
مضمومة الثاء
ثم المضمومة حرف عطف يدل على الترتيب مع التراخي في الزَّمن، أو الترتيب بمُهْلة كما في قوله تعالى (ثُم السبيل يسره، ثم أماته فأقبره، ثم إذا شاء أنشره)، وردت في التنزيل العزيز 302 مرة، واختلف النُّحاة في نيابتها عن الواو والفاء، لكن المتفق عليه أن من علامات الاسم دخول حرف الجر عليه، في حين لا يدخل على قسيميه؛ الفعل والحرف.
وربما أدخلوا على ثُم العاطفة تاءً مفتوحة كما في قول الشاعر الجاهلي ابن عمرو الحنفي (ولقد أمر على اللئيم يسبُني/ فمضيتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يعنيني)، وأنشد الأصمعي (يُطرِقُ حِلمًا وأناةً معًا/ ثُمَّتَ ينباعُ انبياعَ الشُّجاع)، ومن جميل ما قال أبو تمام (هُمَا أَظْلَمَا حالَيَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا/ ظَلَامَيْهُما عنْ وَجْهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ)، يُريد أمرد السِّن وأشيب الرأي والحكمة، وابنُ ابنِ الحنفية يقول (ثُمَّتَ قُمْنَا والظلامُ مطرقٌ/ وَالطيرُ فِي أوكارِهَا لَا تنطِقُ).
وذكر الثعالبي في كتابه "ثمار القلوب في المضاف والمنسوب" أن عبد الملك بن مروان سأل الأدباء والنبهاء في مجلسه: أيُّ المناديل أفضل؟ فقال بعضهم: مناديلُ مصر فإنها غِرقئ البيض (القشرة الداخلية اللينة)، وقيل: مناديلُ اليمن كأنها أنوارُ الرَّبيع!
لكنما للخليفة رأيٌ مغاير، قال: ما صنعتم شيئًا! أفضل المناديل ما قال أخو تميم، عَبدة بن الطبيب (ثُمَّتَ قُمنا إلى جُرْدٍ مُسَوَّمَةٍ/ أَعْرَافُهُنَّ لأيْدِينَا مَنَادِيلُ). هذا البيت قيل إن ابن الطبيب أخذه من قول امرئ القيس (تَمَشُّ بأعرافِ الجيادِ أكُفُنا/ إذا نحن قمنا عن شواءٍ مُهضَّبِ)، لكنَّ عَبدة كشف المعنى وأبرزه، على ما ذكر ابن رشيق القيرواني في العمدة، وإن جاء بمعنى امرئ القيس في بيتين.
ولهذا البيت قصة أخرى جرت في بقعة وزمن بعيدين، إذ دال حظ الأمويين وبزغت شمس العباسيين، لكنَّ عبد الرحمن الداخل سطَّر مجدًا جديدًا لبني أمية في الأندلس، ونافست الدولة الوليدة نفوذ العباسيين في دار السلام، وفشلت جهود المؤسس الحقيقي لدولة العباسيين، أبي جعفر المنصور في استئصال شأفة الأمويين الجدد، بل وأعجِب بنجاحات الداخل وخلع عليه لقب "صقر قريش".
ونافست الأندلس بغداد في استمالة العلماء والنُّجباء، وأرسل الخليفة الناصر دعوةً لأبي علي القالي (288 - 356هـ)، ودخل القالي قرطبة في احتفال مهيب، وكان ممن خرج لاستقباله -على مضض وبتكليف من الخليفة- رجل يقال له ابن رفاعة الألبيري، وسأل أبا علي عن قصة المناديل في مجلس عبد الملك بن مروان.
وحكى أبو على القصة وأورد بيت عبدة بن الطبيب، وطلب منه الألبيري إعادة البيت نفسه ثلاثًا، وفي كل مرةٍ يقول أبو علي (ثُمَّتَ قُمنا إلى جُرْدٍ مُسَوَّمَةٍ/ [أَعْرَافُهَا] لأيْدِينَا مَنَادِيلُ)؛ فنهض الألبيري من المكان مُغضبًا رافعًا عقيرته بقوله: "مع هذا يوفد على أمير المؤمنين وتتجشم الرحلة لتعظيمه، وهو لا يقيم وزن بيت مشهور بين الناس لا تغلط الصبيان فيه والله لا تبعته خطوة، وانصرف عن الجماعة".
والمِنديل (بكسر الأول) -على وزن القِنديل- والعامة تفتح أولههما فتقول (المَنديل، القَنديل)، والمنديل عربيٌ معروف، وهو ما يُتمسَّح به من الماء بعد الغُسل وبعد الوضوء، والجمع مناديل على وزن قناديل.
مفتوحة الثاء
أطلنا النَّفَسَ في مضمومة الثاء لأنها مبعث الخطأ الشائع، والآن نعرِّج على مفتوحة الثاء، وهي اسم إشارة يتضمَّن معنى الظرفية المكانيَّة، مبني على الفتح لا يتصرّف، وقيل إنما مُنعت من الإعراب لإبهامها، وثَمَّ للبعيد بمنزلة هنا للقريب، وفي الفرق بينها وبين وأختها قول بعضهم: من ثَم (بالفتح: من هناك) إلى ثُم (بالضم: إلى بعيد).
وقال الرَّحَّالة أبو بكر بن العربي: كان بمدينة السلام (بغداد) إمامٌ من الصوفية يُعرف بابن عطاء؛ فتكلَّم يومًا على يوسف وأخباره حتى تبرئته مما نُسب إليه من مكروه؛ فقام رجلٌ من آخر مجلسه فقال: يا شيخ! يا سيّدنا! فإذن يوسف همَّ وما تمَّ! قال الصوفي: (نعم؛ لأن العناية من ثَمَّ). وفي قوله العنايةَ من ثَمَّ أي هناك، إذ يحكي قصةً بعيدة عن المحكي له، وثَمَّ وفق تعبير الزجَّاجي في المكان إشارةٌ إلى مكانٍ مُنزاحٍ عنك.
وردت كلمة ثَمَّ في القرآن الكريم أربع مرات، في قوله سبحانه (فأينما تولوا فثَمَّ وجهُ الله)، وقوله تعالى (وأزلفنا ثَمَّ الآخرين)، وقوله جلَّ شأنه (وإذا رأيتَ ثَمَّ رأيت نعيمًا ومُلْكًا كبيرًا)، وكذلك قوله عزّ من قائل (مُطَاعٍ ثَمَّ أمين)، وتُعرب ثَمَّ/ ثمة: ظرف متعلقٌ بخبرٍ مقدَّم، وما بعدها مبتدأ مؤخر.
وربما أدخلوا على ثُم العاطفة تاءً مفتوحة كما في قول الشاعر الجاهلي ابن عمرو الحنفي (ولقد أمر على اللئيم يسبُني/ فمضيتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يعنيني)، وأنشد الأصمعي (يُطرِقُ حِلمًا وأناةً معًا/ ثُمَّتَ ينباعُ انبياعَ الشُّجاع)، ومن جميل ما قال أبو تمام (هُمَا أَظْلَمَا حالَيَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا/ ظَلَامَيْهُما عنْ وَجْهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ)، يُريد أمرد السِّن وأشيب الرأي والحكمة، وابنُ ابنِ الحنفية يقول (ثُمَّتَ قُمْنَا والظلامُ مطرقٌ/ وَالطيرُ فِي أوكارِهَا لَا تنطِقُ).
وذكر الثعالبي في كتابه "ثمار القلوب في المضاف والمنسوب" أن عبد الملك بن مروان سأل الأدباء والنبهاء في مجلسه: أيُّ المناديل أفضل؟ فقال بعضهم: مناديلُ مصر فإنها غِرقئ البيض (القشرة الداخلية اللينة)، وقيل: مناديلُ اليمن كأنها أنوارُ الرَّبيع!
لكنما للخليفة رأيٌ مغاير، قال: ما صنعتم شيئًا! أفضل المناديل ما قال أخو تميم، عَبدة بن الطبيب (ثُمَّتَ قُمنا إلى جُرْدٍ مُسَوَّمَةٍ/ أَعْرَافُهُنَّ لأيْدِينَا مَنَادِيلُ). هذا البيت قيل إن ابن الطبيب أخذه من قول امرئ القيس (تَمَشُّ بأعرافِ الجيادِ أكُفُنا/ إذا نحن قمنا عن شواءٍ مُهضَّبِ)، لكنَّ عَبدة كشف المعنى وأبرزه، على ما ذكر ابن رشيق القيرواني في العمدة، وإن جاء بمعنى امرئ القيس في بيتين.
ولهذا البيت قصة أخرى جرت في بقعة وزمن بعيدين، إذ دال حظ الأمويين وبزغت شمس العباسيين، لكنَّ عبد الرحمن الداخل سطَّر مجدًا جديدًا لبني أمية في الأندلس، ونافست الدولة الوليدة نفوذ العباسيين في دار السلام، وفشلت جهود المؤسس الحقيقي لدولة العباسيين، أبي جعفر المنصور في استئصال شأفة الأمويين الجدد، بل وأعجِب بنجاحات الداخل وخلع عليه لقب "صقر قريش".
ونافست الأندلس بغداد في استمالة العلماء والنُّجباء، وأرسل الخليفة الناصر دعوةً لأبي علي القالي (288 - 356هـ)، ودخل القالي قرطبة في احتفال مهيب، وكان ممن خرج لاستقباله -على مضض وبتكليف من الخليفة- رجل يقال له ابن رفاعة الألبيري، وسأل أبا علي عن قصة المناديل في مجلس عبد الملك بن مروان.
وحكى أبو على القصة وأورد بيت عبدة بن الطبيب، وطلب منه الألبيري إعادة البيت نفسه ثلاثًا، وفي كل مرةٍ يقول أبو علي (ثُمَّتَ قُمنا إلى جُرْدٍ مُسَوَّمَةٍ/ [أَعْرَافُهَا] لأيْدِينَا مَنَادِيلُ)؛ فنهض الألبيري من المكان مُغضبًا رافعًا عقيرته بقوله: "مع هذا يوفد على أمير المؤمنين وتتجشم الرحلة لتعظيمه، وهو لا يقيم وزن بيت مشهور بين الناس لا تغلط الصبيان فيه والله لا تبعته خطوة، وانصرف عن الجماعة".
والمِنديل (بكسر الأول) -على وزن القِنديل- والعامة تفتح أولههما فتقول (المَنديل، القَنديل)، والمنديل عربيٌ معروف، وهو ما يُتمسَّح به من الماء بعد الغُسل وبعد الوضوء، والجمع مناديل على وزن قناديل.
مفتوحة الثاء
أطلنا النَّفَسَ في مضمومة الثاء لأنها مبعث الخطأ الشائع، والآن نعرِّج على مفتوحة الثاء، وهي اسم إشارة يتضمَّن معنى الظرفية المكانيَّة، مبني على الفتح لا يتصرّف، وقيل إنما مُنعت من الإعراب لإبهامها، وثَمَّ للبعيد بمنزلة هنا للقريب، وفي الفرق بينها وبين وأختها قول بعضهم: من ثَم (بالفتح: من هناك) إلى ثُم (بالضم: إلى بعيد).
وقال الرَّحَّالة أبو بكر بن العربي: كان بمدينة السلام (بغداد) إمامٌ من الصوفية يُعرف بابن عطاء؛ فتكلَّم يومًا على يوسف وأخباره حتى تبرئته مما نُسب إليه من مكروه؛ فقام رجلٌ من آخر مجلسه فقال: يا شيخ! يا سيّدنا! فإذن يوسف همَّ وما تمَّ! قال الصوفي: (نعم؛ لأن العناية من ثَمَّ). وفي قوله العنايةَ من ثَمَّ أي هناك، إذ يحكي قصةً بعيدة عن المحكي له، وثَمَّ وفق تعبير الزجَّاجي في المكان إشارةٌ إلى مكانٍ مُنزاحٍ عنك.
وردت كلمة ثَمَّ في القرآن الكريم أربع مرات، في قوله سبحانه (فأينما تولوا فثَمَّ وجهُ الله)، وقوله تعالى (وأزلفنا ثَمَّ الآخرين)، وقوله جلَّ شأنه (وإذا رأيتَ ثَمَّ رأيت نعيمًا ومُلْكًا كبيرًا)، وكذلك قوله عزّ من قائل (مُطَاعٍ ثَمَّ أمين)، وتُعرب ثَمَّ/ ثمة: ظرف متعلقٌ بخبرٍ مقدَّم، وما بعدها مبتدأ مؤخر.