احذروا "صليل الصوارم"
في زمن الأيديولوجيات الكثيرة، لم يكن الاختيار سهلاً. الحديث هنا عن فترتي السبعينيات والثمانينيات. كان الجيل الذي عاش تلك الفترة في مرحلة صراع أفكار. الاتحاد السوفييتي كان لا يزال في فترة عز، ومعه الأحزاب الشيوعية الكثيرة، ومنها الأحزاب العربية. الولايات المتحدة وأفكارها الرأسمالية كانت في ذروة هجمتها على المنطقة، لتعديل الموازين في إطار الحرب الباردة. وما بين المعسكرين، الشيوعي والرأسمالي، كانت المنطقة العربية تعج بأفكار وتيارات وأحزاب، خصوصاً في فترة عمل المقاومة الفلسطينية، من لبنان والأردن تحديداً. حركات وتيارات استقطبت جيلاً مراهقاً، ليس لأفكارها وأيديولوجياتها، بل لأعمالها، وبالدرجة الأولى أناشيدها.
كم من الشبان، في تلك الفترة، لم تجذبهم الأغاني التي أبدع فيها زياد الرحباني ومارسيل خليفة وأحمد قعبور، خصوصاً في لبنان والمحيط القريب، في فترة عمل المقاومة الفلسطينية ومواجهة الاجتياح الإسرائيلي. أغانٍ ساهمت في تحديد توجهات سياسية وعملية لجيل بأكمله، على الأقل في مرحلة من عمره. كم من الأناشيد الفتحاوية ساهمت بانضمام فلسطينيين وعرب كثيرين إلى حركة فتح، أو شكلت عامل حسم في خيارات كثيرين للتضحية بالنفس والالتحاق بالفدائيين. كانت أغاني الشيخ إمام وأشعار أحمد فؤاد نجم صوتاً لأيديولوجيا ممنوعة في مصر، ومنها انتقلت إلى سائر الأقطار العربية، حتى باتا موازيين لليسار والشيوعيين، وإن لم يكونا كذلك. أيضاً الأناشيد الإسلامية، بدءاً من الإخوان المسلمين أو الجماعات الإسلامية في العالم العربي، كانت رافداً مهماً في تأطير مجموعات شبابية حائرة بين تيارات فكرية، لعب اللحن والكلمة على وتر ما في عقلها الباطن، وساهم في اتخاذها الخيار السياسي والأيديولوجي. الأمر نفسه يمكن أن ينسحب على تيارات سياسية وفكرية كثيرة في العالمين، العربي والغربي.
مناسبة هذا التقديم، الطويل قليلاً، انتشار فيديوهات نشيد "داعش"، المسمى "صليل الصوارم"، بكثافة على شبكات التواصل الاجتماعي، في إطار السخرية من التنظيم أو تحطيم هالته. تم تركيب الفيديوهات على مجموعة كبيرة من المقاطع السينمائية والمسلسلات الكارتونية، وحتى بعض اللقطات الرياضية، وكان فيها الكثير مما يثير السخرية، خصوصاً مع خلطها بموسيقى شعبية.
لكن، ما بعد السخرية هناك مخاطر لا ينبغي تجاهلها في هذا المجال، خصوصاً أن هذه التسجيلات المصورة ساهمت في انتشار النشيد على نطاق واسع، وأسهمت في إدخاله إلى كل المنازل. قد تكون رسمت بسمة على الوجوه، وربما فرغت شحنات كره لداعش. لكن، في المقابل لا شك أنها تركت أثراً في بعض النفوس، خصوصاً أن هناك أرضية خصبة في مجتمعات عربية كثيرة. أرضية قد تدفع بعضهم إلى الانسجام مع النشيد وكلماته وما يعلنه من أهداف، حتى وإن كان على خلفية موسيقية شعبية، أو ضمن إطار كوميدي. بل قد تكون هذه الخلفية مساهمة في مزيد من الانتشار والتأثير، من حيث لا يدري الواقفون خلف التسجيلات.
السخرية هنا سيف ذو حدين، في حده الأول السعي إلى تحطيم هالة داعش ورمزيته، عبر إسقاط كل ما يسعى إليه التنظيم. وهي، لا شك، نجحت بشكل كبير، على الأقل بالنسبة إلى الراسخين في العداء لتنظيم الدولة الإسلامية، الذين وجدوا في التسجيلات المصورة تعويضاً عن العجز في مواجهة الإرهاب والهمجية التي يقوم بها التنظيم، ولو بالسخرية. لكن الحد الآخر لهذه السخرية يحمل ملامح خطورة غير ظاهرة حالياً، وقد تتضح مع الأيام. فمن أعجب بالكلمات أو النغمة التي لم يكن يعلم بها سابقاً، ووجدها أمامه عبر هذا الانتشار المفزع للنشيد، سيبحث عن المزيد لإرضاء رغباته، ما قد يؤدي، لاحقاً، إلى ما لا تحمد عقباه، خصوصاً في ظروف سياسية، وطائفية، مواتية.