01 نوفمبر 2024
الأحقاد اللبنانية الدفينة
كان يمكن أن تمر زلة اللسان التي وقع فيها الرئيس اللبناني، ميشال عون، في احتفالات عيد الجيش، بشكل عابر، ويتم التعاطي مع السخرية منها كأمر طبيعي يحصل في كل الدول، حتى غير المتقدّمة منها، من دون استدعاء كل الأحقاد اللبنانية الدفينة، واستحضار ذكريات الحرب الأهلية والخلافات الطائفية، غير أن الأمور في لبنان تثبت يوماً بعد يوم أنها تسير باتجاه الأسوأ، وأن منسوب الحرية الذي كان يتغنّى فيه هذا البلد بدأ ينضب، فالسخرية من السياسيين في لبنان لم تكن يوماً جريمة، بل كانت ميزةً تشدّ إليها أنظار الدول العربية، ويُحسد أهل البلاد على قدرتهم على التعبير والانتقاد السياسي، بشتى أشكاله، من دون التعرّض للملاحقة، فالسخرية والانتقاد كانا فرصة للتنفيس عن الأوضاع المزرية التي كان البلد يعيش فيها، ولا يزال.
لكن يبدو أن هذا الوضع بات من التاريخ، وبدأ لبنان يتراجع في سلم الحريات الفردية، قياساً مع غيره من الدول العربية. ويمكن أخذ مصر نموذجا، فعلى الرغم من القمع والاعتقالات التي يمارسهما نظام عبد الفتاح السيسي، إلا أن هذا لا يمنع الناشطين الموجودين داخل مصر من المضي في السخرية من السيسي، المشهور بزلاته وسقطاته في الخطابات الكثيرة التي يلقيها.
وعلى الرغم من أن التعامل مع السخرية في مصر يتم بالطريقة نفسها التي يتم فيها التعاطي مع هذا الأمر في لبنان، عبر اعتقالات أو ملاحقات أو هجمات إلكترونية، إلا أن هناك فارقاً جوهرياً في الحالة اللبنانية، حيث يتم استحضار ذكريات الحرب الأهلية والخلافات الطائفية والمذهبية، ما يجعل السخرية تتحول إلى فتيل تفجير يزيد هوة الانقسام في البلد المنقسم على نفسه. هذا ما حدث أخيراً في الحالة الخاصة بزلة عون، والذي أطلق وصف "فجر القرود" بدل "فجر الجرود" على دورة تخريج الضباط. الأمر استدعى تعليقات من مستويات متعدّدة، وصلت إلى النائب السابق وليد جنبلاط، والذي أيضا اعتاد السخرية من أوضاع البلد على حسابه على "تويتر"، غير أن هذا الأمر لم يعجب أنصار التيار الوطني الحر، والذي أسسه الرئيس اللبناني، ليكون الرد عبر التذكير بمعارك الجبل بين الدروز والمسيحيين، وإعادة نبش ذكريات القتل الذي مارسه الطرفان في حق بعضهما إبّان الحرب الأهلية.
تعليق جنبلاط والرد عليه يمثلان فعلاً كاشفاً لما يعتري النفوس اللبنانية بعد نحو 28 عاماً على ما قيل إنها "نهاية للحرب الأهلية"، إذ يبدو أن تلك الحرب وأحقادها وانقساماتها لا تزال حاضرة بقوة في أذهان الأطراف السياسية، وذكرياتها لا تزال دفينة، يمكن أن تخرج إلى العلن، بكامل تفاصيلها، في لحظات. ويبدو أن كل المصالحات التي أقيمت لم تكن إلا شكلا صورياً للتعايش اللبناني، إذ لم تصل إلى جذور الانقسامات لتعالجها، بل اكتفت بالقشور ومشاهد عامة لمصافحات لم تمسّ ما في الصدور.
لا يقف الأمر عند حالة التراشق القائم حالياً بين مكونين أساسيين من التركيبة اللبنانية، فالأطراف الأخرى لم تكن يوماً خارج لعبة استدعاء "أمجاد الاقتتال"، وهو أمر يخرج أيضاً إلى العلن عند كل انتقادٍ يطاول هذه الطائفة أو ذاك المذهب، أو حتى بين أبناء الطائفة الواحدة أو المذهب الواحد، فالاقتتال اللبناني لم يكن فقط بين المختلفين، بل، في حالاتٍ كثيرة، كان بين المتشابهين، والتعايش اليوم قائم على ضوابط هشّة، لا يزال يخشى أن تتفلت من أيدي أصحابها.
ليس الاستحضار الأخير للحرب وذكرياتها سوى أنموذج على فشل إعادة بناء الدولة الصاهرة لجميع أبنائها، فكل من هؤلاء الأبناء لا يزال يعيش في قوقعته ومعاييره وأفكاره المستمدة من المرحلة السابقة، والتي لم تنجح الدولة في وأدها إلى غير رجعة.
لكن يبدو أن هذا الوضع بات من التاريخ، وبدأ لبنان يتراجع في سلم الحريات الفردية، قياساً مع غيره من الدول العربية. ويمكن أخذ مصر نموذجا، فعلى الرغم من القمع والاعتقالات التي يمارسهما نظام عبد الفتاح السيسي، إلا أن هذا لا يمنع الناشطين الموجودين داخل مصر من المضي في السخرية من السيسي، المشهور بزلاته وسقطاته في الخطابات الكثيرة التي يلقيها.
وعلى الرغم من أن التعامل مع السخرية في مصر يتم بالطريقة نفسها التي يتم فيها التعاطي مع هذا الأمر في لبنان، عبر اعتقالات أو ملاحقات أو هجمات إلكترونية، إلا أن هناك فارقاً جوهرياً في الحالة اللبنانية، حيث يتم استحضار ذكريات الحرب الأهلية والخلافات الطائفية والمذهبية، ما يجعل السخرية تتحول إلى فتيل تفجير يزيد هوة الانقسام في البلد المنقسم على نفسه. هذا ما حدث أخيراً في الحالة الخاصة بزلة عون، والذي أطلق وصف "فجر القرود" بدل "فجر الجرود" على دورة تخريج الضباط. الأمر استدعى تعليقات من مستويات متعدّدة، وصلت إلى النائب السابق وليد جنبلاط، والذي أيضا اعتاد السخرية من أوضاع البلد على حسابه على "تويتر"، غير أن هذا الأمر لم يعجب أنصار التيار الوطني الحر، والذي أسسه الرئيس اللبناني، ليكون الرد عبر التذكير بمعارك الجبل بين الدروز والمسيحيين، وإعادة نبش ذكريات القتل الذي مارسه الطرفان في حق بعضهما إبّان الحرب الأهلية.
تعليق جنبلاط والرد عليه يمثلان فعلاً كاشفاً لما يعتري النفوس اللبنانية بعد نحو 28 عاماً على ما قيل إنها "نهاية للحرب الأهلية"، إذ يبدو أن تلك الحرب وأحقادها وانقساماتها لا تزال حاضرة بقوة في أذهان الأطراف السياسية، وذكرياتها لا تزال دفينة، يمكن أن تخرج إلى العلن، بكامل تفاصيلها، في لحظات. ويبدو أن كل المصالحات التي أقيمت لم تكن إلا شكلا صورياً للتعايش اللبناني، إذ لم تصل إلى جذور الانقسامات لتعالجها، بل اكتفت بالقشور ومشاهد عامة لمصافحات لم تمسّ ما في الصدور.
لا يقف الأمر عند حالة التراشق القائم حالياً بين مكونين أساسيين من التركيبة اللبنانية، فالأطراف الأخرى لم تكن يوماً خارج لعبة استدعاء "أمجاد الاقتتال"، وهو أمر يخرج أيضاً إلى العلن عند كل انتقادٍ يطاول هذه الطائفة أو ذاك المذهب، أو حتى بين أبناء الطائفة الواحدة أو المذهب الواحد، فالاقتتال اللبناني لم يكن فقط بين المختلفين، بل، في حالاتٍ كثيرة، كان بين المتشابهين، والتعايش اليوم قائم على ضوابط هشّة، لا يزال يخشى أن تتفلت من أيدي أصحابها.
ليس الاستحضار الأخير للحرب وذكرياتها سوى أنموذج على فشل إعادة بناء الدولة الصاهرة لجميع أبنائها، فكل من هؤلاء الأبناء لا يزال يعيش في قوقعته ومعاييره وأفكاره المستمدة من المرحلة السابقة، والتي لم تنجح الدولة في وأدها إلى غير رجعة.