الإعلام والفاصوليا

07 ديسمبر 2017
+ الخط -

لماذا ترى كلَّ من حولك أغبياء؟ وهل أنت وحدك من يزعم ذلك؟ في البداية، نؤكد أن كل تعميمٍ خاطئ، بما فيه هذا التعميم، ثم إن المرور العابر على كثير من القنوات الفضائية قد يعزز هذا الزعم؛ فأنت ترى من لا قدم له ولا ساق يُفتي في كلِّ مسائل العلم والدين، يرى في نفسه الأديب الشامل والعالم الكامل! وقد تسمع تحليلات لا تمت للواقع بصلة، قد تصل إلى حد التعبير الأسطوري للأحداث الجارية.

كنت بالأمس القريب في مكانٍ ما وتابعتُ مضطرًا حديث ضيف إحدى القنوات الفضائية؛ فإذا به يذكرني بنقطة الفاصوليا السوداء! وهي قصة أسطورية عن الاجتهاد الشخصي في تفسير الأمور، تحكي أن الإنسان البدائي أجهد نفسه في تفسير ظاهرة النقطة السوداء في الفاصوليا، وبعد طول عناء وبحث توصل إلى السر الخطير! أسند الإنسان البدائي النقطة السوداء في الفاصوليا إلى رحلة قطعتها عبر البحر، واتفقت حبة الفاصوليا مع قطعة فحمٍ متوهجة وعودٍ من الحطب على اجتياز البحر.
حمل عود الحطب حبة الفاصوليا بأمان إلى جهة الوصول، وقد جلست ترقبُ عن كثب العود وهو يحملُ هلاكه على ظهره ممثلًا في قطعة الفحم، وصل العود إلى منتصف البحر بسلام، ومع ذلك فقد استحكمت حالة فوبيا على أعصاب قطعة الفحم! فأضرمت ألسنتها في عود الحطب؛ فهلكا معًا في البحر نتيجة لرعونة قطعة الفحم، وقد استبد الضحك بحبة الفاصوليا حتى انفلقت من الضحك! ولحسن حظ حبة الفاصوليا فإن خياطًا كان يعبر الطريق آنذاك، فأسعفَ حبة الفاصوليا بإعادة النصفين لسابق عهدهما بالحياكة، ولكنه لم يجد إلا خيطًا أسود؛ فلذلك نرى الفاصوليا إلى اليوم منقوطة باللون الأسود!

ليس كل من حولك غبيا، كما أنه ليس كل من يظهر على الشاشات سفيها أو متعالما، وإنما كثيرون من أهل العلم قد آثروا اعتزال المهازل التي تضج بها الشاشات، وهذا ما أحدث فراغًا عملاقًا -إن صح التعبير- أتاح لهؤلاء الأقزام أن يظهروا ليل نهار! لعلك شاهدت على الشاشات طبيبًا حديث التخرج يزعم أنه حاصل على ست زمالات في جراحة القلب، والمساعد الأول للدكتور مجدي يعقوب، وهو ابن السابعة والعشرين ربيعًا! مما يوهمك أن الطب "فهلوة"، وهو بالطبع ليس كذلك. وربما شاهدت متخصصًا في دراسة المخطوطات وسيطرت عليه نزعة الموسوعية؛ فأعمل فكره وقلمه ولسانه في الحط من أقدار شخصيات تاريخية لها دورها المهم في حياتنا.

وفي هذا الإطار، ربما سمعت أو شاهدت من الفنانين من علَّل حوادث وقعت في البلاد، أن سببها الأول الصلاة والدين! لن نطيل النفس في سرد هذه المشاهد المريرة، ولكن يتعين عليك ألا تسهم في الترويج لهؤلاء، ولا تتوهم أن هؤلاء هم كل المجتمع، فهم لا يزيدون عن شريحة سمح لها الإعلام بالتضخم والشعور بالأهمية المبالغ فيها، وهم لا يستحقون هذه المكانة.

لا يزيد الطبيب الذي يضع نفسه فوق قدرها عن مدّعٍ للفضيلة، كما أنني أذكر في هذا المقام طبيبًا تحامل على القرآن الكريم في مناظرة متلفزة، وأخطأ في الاستشهاد بالآية كما أخطأ في اسم السورة، ثم برر ذلك بأنه قد نسي ما حفظه في الصغر! إن كان ذلك كذلك فما الدافع الذي يحملك على التقحُّم في ميدانٍ لا قدرة لك على الخوض فيه! وإن كنت تريد من المشاهد أن "يعيشها صح"، فلا بدَّ أن تكون أنت قدوةً، كما تقتضي أمانة الإعلام إعادة النظر في ظهور هؤلاء على الشاشات؛ فنسبة المشاهدة مهمة، ولكن المصداقية هي الأبقى والأنقى.