تأتي مراجعة ملفات الفساد "بأثر رجعي" تحت ضغط من المؤسسة العسكرية، التي تراقب عن بعد سير التحقيقات، بعدما طلب قائد الجيش الجزائري ونائب وزير الدفاع أحمد قايد صالح من الجهاز القضائي عدم الاكتفاء بفتح ملفات فساد جديدة، بل تعدى الأمر إلى المطالبة بإعادة التحقيق في قضايا هزت البلاد سابقاً، منها شركة "سوناطراك" ونور "الخليفة" و"الطريق السيار شرق - غرب".
وحسب مصدر قضائي مطّلع لـ"العربي الجديد"، سيتم فتح التحقيق مع أسماء ثقيلة أخرى، ومنها وزراء حاليون وذلك في الأيام القليلة المقبلة. وأكد المصدر القضائي أن محكمة "سيدي أمحمد" المختصة في الجنايات المالية والاقتصادية، برمجت جلسة استماع لرئيس الحكومة السابق أحمد أويحيى يوم الإثنين 29 إبريل/ نيسان، بتهمة استغلال النفوذ ومنح مزايا غير قانونية لرجال الأعمال، كما تستمع المحكمة في 30 إبريل الحالي لوزير المالية الحالي، ومحافظ البنك المركزي الجزائري السابق محمد لوكال، في قضايا تتعلق بمنح قروض بنكية ضخمة بطرق غير قانونية.
وتشمل التحقيقات، حسب المصدر القضائي، كلاً من رئيس الحكومة الأسبق ووزير السكن عبد المجيد تبون ورئيس الحكومة الأسبق ووزير الموارد المائية عبد المالك سلال، بعد ورود اسميهما في محاضر الاستماع الخاصة بالإخوة كونيناف.
وفي ما يتعلق برجال الأعمال الممنوعين من السفر مطلع الشهر الحالي، وحسب معلومات حصلت عليها "العربي الجديد" من مصادر أمنية، فإن فصيل الأبحاث لجهاز الدرك الوطني التابع لوزارة الدفاع، سيبدأ التحقيقات بدءاً من غد السبت مع رجل الأعمال ومالك مصنع "فولكس فاغن" لتجميع السيارات مراد عولمي، بالإضافة إلى رجل الأعمال ومالك مصنع "هيونداي" لتجميع السيارات محيي الدين تاحكوت المقرب والمحسوب على رئيس الحكومة السابق أحمد أويحيى.
وتشمل التحقيقات معهم تهماً حول الاستفادة من قروض ضخمة دون تقديم ضمانات، مع تحويل الأموال إلى الخارج عن طريق تضخيم الفواتير، بالإضافة إلى التهرب الضريبي، وهي تهم يستبعد أن تبقيهم خارج أسوار سجن "الحراش" الموجود فيه عدد من كبار رجال الأعمال.
ويأتي ذلك في ظل التطورات الجديدة التي عاشتها الجزائر مؤخراً، في مجال محاربة الفساد، وأدّت إلى حبس رجل الأعمال يسعد ربراب صاحب أكبر ثروة في الجزائر في سجن "الحراش"، ثم لحقه في نفس السجن رجال الأعمال الإخوة كونيناف بتهم تكوين ثروة بطرق مشبوهة، وقبلهم زعيم الكارتل المالي المحسوب على نظام بوتفليقة، علي حداد.
ملفات جديدة
وإلى ذلك يرى الخبير الاقتصادي فرحات علي، أنه "من المنطقي والضروري أن تبدأ عملية المحاسبة بأثر رجعي، إذ لا يمكن أن نفتح ملفات جديدة ونترك أسماءً لطالما استفزت الجزائريين، وبالتالي نعطي مصداقية لعملية محاربة الفساد، ونعيد زرع الثقة وسط المواطنين حول جهاز العدالة".
ويضيف نفس المتحدث لـ"العربي الجديد"، أن "فتح الملفات القديمة سيحدث زلزالاً في الساحة السياسية والاقتصادية، لاحتمال سقوط أسماء كبيرة شغلت مناصب مهمة، ويمكن أن تؤثر على سير المرحلة الانتقالية".
وإذا كان يصعب تقدير حجم الفساد وما التهمته من أموال، فإن التوقعات تشير إلى أنّ الرقم قد تعدى عتبة 60 مليار دولار، في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
وفي نفس السياق، يقول رئيس جمعية محاربة الفساد جيلالي حجاج، بأن "حجم الفساد يتراوح بين 60 و70 مليار دولار، وفي الحقيقة يصعب استرجاع الأموال كلها، إلا أنه حسب التقديرات يمكن على الأقل استرجاع من 30 إلى 40 بالمائة من الأموال المنهوبة".
ويرى حجاج في حديثه لـ"العربي الجديد"، أنه "لا يمكن محاربة الفساد إلا بعد التغيير الكامل للنظام السياسي وقيام نظام جديد على مبادئ السيادة الشعبية والتعددية السياسية، يحترم مبدأ التداول السلمي على السلطة والفصل بين السلطات واستقلال القضاء، وسيادة القانون والحكم الراشد والمساءلة، عندها يمكن الحديث عن المحاسبة الحقيقية وفتح ملف المصالحة إذا كان قراراً شعبياً طبعاً".
أبرز قضية فساد
وتغلغلت التحقيقات القضائية في ملفات الفساد، إلى مغارة إمبراطورية عملاق النفط والغاز "سوناطراك"، ضمن حملة مصاحبة لاحتجاجات الشارع الجزائري المطالبة بتغييرات جذرية، ومحاسبة المسؤولين عن نهب أموال الشعب في دولة من أثرى البلدان بموارد الطاقة.
وحسب مراقبين، فإن القضاء الجزائري مصمم على إعادة ترتيب أوراق ملفي "سوناطراك 1" و"سوناطراك 2"، اللذين طويا سابقاً دون محاسبة الأسماء الكبيرة والفاعلة آنذاك، أولها شكيب خليل وزير الطاقة الأسبق ورئيس مجمع سوناطراك.
وأعلنت المحكمة العليا في الجزائر أول من أمس، فتح ملف متابعة قضائية في حقّ شكيب خليل، بتهمة مخالفة القانون الخاص بالصرف، وحركة رؤوس الأموال من وإلى الخارج، وإبرام صفقتين بكيفية مخالفة للقانون مع شركتين أجنبيتين، خلال فترة شغل شكيب خليل لمنصبه.
وكلفت المحكمة قاضي تحقيق في المحكمة العليا باستدعاء الوزير، الذي يستفيد من حق امتياز التقاضي المباشر أمام المحكمة العليا لكونه وزيراً، فيما سيستدعى باقي المتهمين المعنيين بالقضية، وبينهم مدير شركة "سوناطراك" السابق محمد مزيان، للتحقيق معهم أمام قاضي التحقيق في محكمة سيدي أمحمد بالعاصمة الجزائرية.
وتعود هذه القضية إلى 11 أغسطس/ آب 2013، عندما أعلن النائب العام لدى مجلس قضاء الجزائر العاصمة في مؤتمر صحافي، "وجود شبكة دولية للفساد تنشط في دول عديدة، تخصصت في نهب شركة النفط الجزائرية العملاقة سوناطراك التي تدير النفط الجزائري، تضم وزير الطاقة الأسبق شكيب خليل وزوجته (فلسطينية الأصل)، ونجليه، وقريب وزير الخارجية الأسبق محمد بجاوي، والمدير العام السابق للشركة الجزائرية الحكومية للنفط سوناطراك محمد مزيان ونائبه عبد القادر فغولي، وثلاثة من كبار إطارات الشركة، بموجب قانون مكافحة الفساد"، وهذه القضية باتت تعرف إعلامياً بـ"سوناطراك 2" بلغ فيها حجم الفساد 200 مليون دولار.
أما قضية "سوناطراك 1" فتعود فصولها إلى مطلع سنة 2013، عندما بدأت محكمة جزائرية البتّ في أكبر قضية فساد في قطاع النفط، تتعلق بصفقات أبرمتها شركة النفط الوطنية "سوناطراك"، مع 4 شركات أجنبية، بينها شركة إيطالية وأخرى ألمانية، اتهمتها المحكمة بأنها حصلت على صفقات غير قانونية في الجزائر.
وتورّط في القضية 19 متهماً بينهم كبار المسؤولين في "سوناطراك"، وأبرزهم المدير العام السابق للشركة محمد مزيان، و2 من أبنائه فضلاً عن 16 متهماً آخرين، من بينهم 8 مديرين تنفيذيين على رأسهم المدير المكلف النقلَ عبر الأنابيب ومدير النشاطات القبلية، وضّمت لائحة المتهمين مسؤولي 4 شركات أجنبية؛ هي "سايبام" و"مجمع فونكوراك" و"شركة كونتال" وشركة "فونكوراك بليتاك" الألمانية، الذين قدموا رشىً إلى شكيب خليل من أجل الحصول على صفقات في الجزائر.
واللافت أن وزير الطاقة والرجل الأول الأسبق في سوناطراك، تمكن من مغادرة الجزائر إلى الولايات المتحدة قبل تفجير القضيتين بأيام قليلة، إذ قضى ثلاث سنوات هارباً من الملاحقة القضائية، حتى مارس/ آذار 2016، وعاد إلى الجزائر ولم يقدم للمحاكمة بحماية من الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة.
واتهم خليل لاحقاً قائد جهاز الاستخبارات السابق الفريق محمد مدين، الذي أقيل في سبتمبر/ أيلول 2015 بتلفيق التهم له بنية الإضرار بسمعة بوتفليقة ورجالاته، إذ يعتبر شكيب خليل أبرز المقربين إلى الرئيس السابق، في سياق حرب كانت مستعرة حينها بين الرئاسة وجهاز الاستخبارات.