07 اغسطس 2024
الجيش وإعاقة التنمية في مصر
يشتمل تقرير "أولياء الجمهورية: تشريح الاقتصاد العسكري المصري"، الصادر عن مركز كارنيجي، للباحث يزيد صايغ، على عدة خلاصات مهمة وسلبية عن الدور الاقتصادي للجيش المصري وشركاته. ولو كان في مصر ديمقراطية، أو نظام سياسي يتمتع بقدر جاد من الرقابة والشفافية، لربما أحيل التقرير إلى أروقة البرلمان للتحقيق في كثير مما ورد فيه. وهو يقوّض أساطير كثيرة يروّجها الجيش المصري عن شركاته ودوره الاقتصادي، حيث يوفر أمثلة كثيرة على ضعف المردود الاقتصادي لشركات الجيش المصري على مختلف المستويات، فالجيش المصري لا يصدّر أسلحة بمبالغ تذكر، ولا منتجات مدنية أيضاً. وإنما يتمدّد بالأساس في مختلف أنشطة الاقتصاد المدني، لينفرد بجزء أكبر من الكعكة الاقتصادية، معتمداً على صلاته السياسية. ولكنه لا يقدم الكثير للاقتصاد، فهو لا يشارك في تنمية حقيقية، وتعاني شركاته مشكلات الشركات العامة والخاصة.
يتضمن التقرير أمثلة كثيرة لفساد بعض شركات الجيش وخسائرها وضعف إدارتها وخضوعها لمعايير المحسوبية والفساد. وكيف تحصل شركات الجيش على مزايا تنافسية كثيرة مقارنة بنظيرتها المدنية، كالإعفاء من الرسوم والضرائب، بالإضافة إلى العمالة المجانية والمعاملة التفضيلية من مؤسسات الدولة. لذا تتوسّع بسرعة في شتى المجالات، من دون أي رقابة من المدنيين، وتنافس منافسة غير عادلة على المشاريع الحكومية، فتحصل عليها، ثم تستعين من الباطن بشركات خاصة لتنفيذ تلك المشاريع، وتحصل، في المقابل، على نسب جاهزة نظير الإشراف، وكونها صاحبة المشروع. وتودع تلك الأموال في حسابات سرّية لا تخضع لرقابة المدنيين. وربما لا تخضع أيضاً لرقابة مؤسسات الجيش الرقابية نفسها. كذلك يورد التقرير أمثلة كثيرة تحمّلت فيها الميزانية العامة خسائر بعض شركات الجيش.
ليس الحديث هنا عن عشرات الشركات، بل عن إمبراطورية متنامية، فلوزارة الدفاع شركاتها،
وكذلك وزارة الإنتاج الحربي والهيئة العربية للتصنيع التابعة للوزارة، وهي مسجلة هيئة دولية لا تخضع حساباتها لتدقيق الهيئات الوطنية في مصر. وتمتلك وزارة الدفاع جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، والذي يمتلك بدوره عشرات الشركات. وهو ما يدفع يزيد صايغ إلى الحديث عن تنافس تلك الشركات مع بعضها، وكيف أنها تخضع لجماعات مصالح متنافسة داخل المؤسسات الأمنية المصرية، قد تقوض مشاريع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي نفسه، لو عارضت مصالحها.
يقوم اقتصاد الضباط على عشرات وربما مئات من الشركات التابعة لمؤسسات رسمية تنخرط في مختلف القطاعات، وترتبط بعلاقاتٍ وثيقة مع آلاف الضباط المتقاعدين والمنتشرين في المؤسسات العامة والخاصة، والتي تلجأ إلى توظيف كبار الضباط المتقاعدين بمرتبات مجزية لضمان تقوية علاقاتها بمؤسسة الجيش، ومؤسسات الدولة المختلفة، فتحصل على المشاريع ومعاملة تفضيلية. وتنتشر الشبكة السابقة في مصر منذ عام 1952، ولكن حجمها ووتيرة انتشارها ازدادا بفعل التغيرات السياسية والاقتصادية التي شهدتها مصر. ولا يخضع تكوينها لمنطق واضح سوى الاستفادة من الكعكة الاقتصادية، ودعم النظام، وتوثيق علاقات الولاء والتبعية. وهو ما يجعلها مراكز قوى هائلة ومتعدّدة، قد تحارب أي محاولة لإصلاح الاقتصاد المصري، من شأنها تقويض مصالحها، ولو كانت من السيسي نفسه، كما يحذّر صايغ.
كانت بداية توغل العسكريين في الاقتصاد والسياسة المصريين مع ثورة 1952، حيث حكم الجيش مصر بشكل مباشر، وأشرف على وضع ميزانياتها وإدارة اقتصادها حتى عام 1954. ولكن مع تولي جمال عبد الناصر الحكم في 1954، تراجع دور الجيش كمؤسسة في إدارة الاقتصاد، حتى عودته إليها بعد ثورة يناير، وحتى تولي الرئيس محمد مرسي، رحمه الله، الحكم. وخلال حكم عبد الناصر، توغّل الضباط كأفراد في الحياتين المدنية والاقتصادية. وحاول عبد الناصر إطلاق صناعاتٍ عسكرية لم تحقق الكثير. وكان السادات مشغولاً بعد توليه الحكم بالحد من دور الضباط في الحياة السياسية، بعد أن أدّى صراع عبد الناصر وعبد الحكيم عامر والضباط الموالين لهما إلى هزيمة 1967، ولتقويضهم حكم أنور السادات في بداياته. ومع ترسّخ حكمه، بدأ السادات في شراء ولاء الضباط، من خلال السماح للجيش بامتلاك شركات خاصة من ناحية، وتشجيع دور الضباط في الحياة الاقتصادية في ظل عصر الانفتاح من ناحية أخرى. وفي عهد حسني مبارك، نما الدور الاقتصادي للجيش. كذلك توسع مبارك، بمساعدة وزير الدفاع محمد حسين طنطاوي (تولى في عام 1991)، في استخدام الكعكة الاقتصادية والدور الاقتصادي للضباط بعد التقاعد، نوعاً من المكافأة والحفاظ على الولاء. ولذا توسع دورهم للغاية، وإنْ واجهوا منافسة متزايدة مع رجال الأعمال المحسوبين على جمال مبارك. وهو ما ساهم في دعم الجيش ثورة 25 يناير، والتي طالبت بالقضاء على رجال الأعمال الجدد. ولذا تدخل الجيش لتقديم بعضهم للمحاكمة، قبل أن يتصالح معهم بعد الانقلاب العسكري (2013) نظير عملهم شركاء يخضعون لسطوة النظام والجيش وشركاته، فيما يبدو.
فتح الانقلاب العسكري الباب على مصراعيه لتمدّد شركات الجيش وشبكة الضباط بشكل غير
مسبوق، إذ تم منحهم مشاريع كبرى، بالأمر المباشر ومهمة الإشراف على بعض أهم المشاريع التي أطلقها نظام السيسي، كتوسعة قناة السويس وبناء القاهرة الجديدة. وهي مشاريع عملاقة، صمّمت بالأساس دعاية للنظام الحاكم، وليس انطلاقاً من منطق اقتصادي معين، يفيد الاقتصاد المصري، ويعالج مشكلاته الكبرى، كضعف الإنتاجية والقدرة على التصدير. كذلك توسّع الجيش في مختلف المجالات والصناعات وأكثرها ربحية، وسعى أحياناً إلى السيطرة على قطاعاتٍ بعينها، كقطاع الإعلام.
توسع الجيش المصري اقتصادياً لا يقوم على منطق اقتصادي واضح. وأكثر الظن، كما يرى صايغ، هو محاولة لبناء رأسمالية عسكرية جديدة موالية لنظام السيسي وداعمة له، فبدلاً من رأسمالية رجال أعمال جمال مبارك، يسعى النظام الجديد إلى بناء رأسمالية موالية له تدور في فلكه وتدعمه، ولكنها رأسمالية تعاني من عيوب رأسمالية القطاع الخاص المشوهة نفسها، والتي صعدت خلال عهدي السادات ومبارك، فهي تعتمد في نجاحها على القرب من رأس النظام والفوز بالمشاريع الحكومية والاستثمارات الأجنبية الضئيلة والمنح والقروض والدوران في فلك النظام وسياساته، ولو كانت محدودة الفائدة.
ولكي يتطور الاقتصاد المصري، يحتاج إلى الاستثمار في التكنولوجيا والبحث العلمي، وزيادة الإنتاجية، واعتماد معايير الشفافية والكفاءة والمحاسبة، وضمان الاستثمارات الأجنبية في مختلف القطاعات، والتخطيط الحكومي القائم على الاستجابة لاحتياجات الاقتصاد المصري وسبل تطويره. وكلها عوامل تغيب تقريباً عن اقتصاد المؤسسات الأمنية المصرية، والتي لا تمتلك أي مزايا تكنولوجية واضحة، ولا تساعد على رفع إنتاجية الاقتصاد المصري، أو تتحرّك ضمن استراتيجية اقتصادية واضحة، تدعم القطاع الخاص أو المشاريع الصغيرة والمتوسطة. وأغلب الظن أنها تقوّض منافسيها المدنيين، وتسعى إلى إخضاعهم كشركاء صغار، ولا تعود بعائد واضح على الاقتصاد المصري المنهك. وهو ما يدفع يزيد صايغ إلى الاعتقاد أن المستقبل لا يبشّر بخير، لعدة أسباب، فالاقتصاد العسكري في توسع غير مسبوق لا ينتهي، وهو مليء بمراكز القوى العديدة والمتنافسة، والتي تدعم نظام السيسي، ما دام يحقق مصالحها، ولكنها قد لا تخضع له، لو عارض تلك المصالح. وهي تتنافس مع بعضها في غياب استراتيجية حكومية واضحة، لإخراج الاقتصاد المصري من دائرة مشكلاته، ودخول عصر جديد قائم على التنمية الاقتصادية الجادّة وعلاج مشكلات الاقتصاد المصري الحقيقية، وخصوصاً في ما يتعلق برفع الإنتاجية والقدرة على التصدير وجذب الاستثمارات، في مجالات غير الديون الحكومية والطاقة، بالإضافة إلى محاربة الفقر والبطالة.
ليس الحديث هنا عن عشرات الشركات، بل عن إمبراطورية متنامية، فلوزارة الدفاع شركاتها،
يقوم اقتصاد الضباط على عشرات وربما مئات من الشركات التابعة لمؤسسات رسمية تنخرط في مختلف القطاعات، وترتبط بعلاقاتٍ وثيقة مع آلاف الضباط المتقاعدين والمنتشرين في المؤسسات العامة والخاصة، والتي تلجأ إلى توظيف كبار الضباط المتقاعدين بمرتبات مجزية لضمان تقوية علاقاتها بمؤسسة الجيش، ومؤسسات الدولة المختلفة، فتحصل على المشاريع ومعاملة تفضيلية. وتنتشر الشبكة السابقة في مصر منذ عام 1952، ولكن حجمها ووتيرة انتشارها ازدادا بفعل التغيرات السياسية والاقتصادية التي شهدتها مصر. ولا يخضع تكوينها لمنطق واضح سوى الاستفادة من الكعكة الاقتصادية، ودعم النظام، وتوثيق علاقات الولاء والتبعية. وهو ما يجعلها مراكز قوى هائلة ومتعدّدة، قد تحارب أي محاولة لإصلاح الاقتصاد المصري، من شأنها تقويض مصالحها، ولو كانت من السيسي نفسه، كما يحذّر صايغ.
كانت بداية توغل العسكريين في الاقتصاد والسياسة المصريين مع ثورة 1952، حيث حكم الجيش مصر بشكل مباشر، وأشرف على وضع ميزانياتها وإدارة اقتصادها حتى عام 1954. ولكن مع تولي جمال عبد الناصر الحكم في 1954، تراجع دور الجيش كمؤسسة في إدارة الاقتصاد، حتى عودته إليها بعد ثورة يناير، وحتى تولي الرئيس محمد مرسي، رحمه الله، الحكم. وخلال حكم عبد الناصر، توغّل الضباط كأفراد في الحياتين المدنية والاقتصادية. وحاول عبد الناصر إطلاق صناعاتٍ عسكرية لم تحقق الكثير. وكان السادات مشغولاً بعد توليه الحكم بالحد من دور الضباط في الحياة السياسية، بعد أن أدّى صراع عبد الناصر وعبد الحكيم عامر والضباط الموالين لهما إلى هزيمة 1967، ولتقويضهم حكم أنور السادات في بداياته. ومع ترسّخ حكمه، بدأ السادات في شراء ولاء الضباط، من خلال السماح للجيش بامتلاك شركات خاصة من ناحية، وتشجيع دور الضباط في الحياة الاقتصادية في ظل عصر الانفتاح من ناحية أخرى. وفي عهد حسني مبارك، نما الدور الاقتصادي للجيش. كذلك توسع مبارك، بمساعدة وزير الدفاع محمد حسين طنطاوي (تولى في عام 1991)، في استخدام الكعكة الاقتصادية والدور الاقتصادي للضباط بعد التقاعد، نوعاً من المكافأة والحفاظ على الولاء. ولذا توسع دورهم للغاية، وإنْ واجهوا منافسة متزايدة مع رجال الأعمال المحسوبين على جمال مبارك. وهو ما ساهم في دعم الجيش ثورة 25 يناير، والتي طالبت بالقضاء على رجال الأعمال الجدد. ولذا تدخل الجيش لتقديم بعضهم للمحاكمة، قبل أن يتصالح معهم بعد الانقلاب العسكري (2013) نظير عملهم شركاء يخضعون لسطوة النظام والجيش وشركاته، فيما يبدو.
فتح الانقلاب العسكري الباب على مصراعيه لتمدّد شركات الجيش وشبكة الضباط بشكل غير
توسع الجيش المصري اقتصادياً لا يقوم على منطق اقتصادي واضح. وأكثر الظن، كما يرى صايغ، هو محاولة لبناء رأسمالية عسكرية جديدة موالية لنظام السيسي وداعمة له، فبدلاً من رأسمالية رجال أعمال جمال مبارك، يسعى النظام الجديد إلى بناء رأسمالية موالية له تدور في فلكه وتدعمه، ولكنها رأسمالية تعاني من عيوب رأسمالية القطاع الخاص المشوهة نفسها، والتي صعدت خلال عهدي السادات ومبارك، فهي تعتمد في نجاحها على القرب من رأس النظام والفوز بالمشاريع الحكومية والاستثمارات الأجنبية الضئيلة والمنح والقروض والدوران في فلك النظام وسياساته، ولو كانت محدودة الفائدة.
ولكي يتطور الاقتصاد المصري، يحتاج إلى الاستثمار في التكنولوجيا والبحث العلمي، وزيادة الإنتاجية، واعتماد معايير الشفافية والكفاءة والمحاسبة، وضمان الاستثمارات الأجنبية في مختلف القطاعات، والتخطيط الحكومي القائم على الاستجابة لاحتياجات الاقتصاد المصري وسبل تطويره. وكلها عوامل تغيب تقريباً عن اقتصاد المؤسسات الأمنية المصرية، والتي لا تمتلك أي مزايا تكنولوجية واضحة، ولا تساعد على رفع إنتاجية الاقتصاد المصري، أو تتحرّك ضمن استراتيجية اقتصادية واضحة، تدعم القطاع الخاص أو المشاريع الصغيرة والمتوسطة. وأغلب الظن أنها تقوّض منافسيها المدنيين، وتسعى إلى إخضاعهم كشركاء صغار، ولا تعود بعائد واضح على الاقتصاد المصري المنهك. وهو ما يدفع يزيد صايغ إلى الاعتقاد أن المستقبل لا يبشّر بخير، لعدة أسباب، فالاقتصاد العسكري في توسع غير مسبوق لا ينتهي، وهو مليء بمراكز القوى العديدة والمتنافسة، والتي تدعم نظام السيسي، ما دام يحقق مصالحها، ولكنها قد لا تخضع له، لو عارض تلك المصالح. وهي تتنافس مع بعضها في غياب استراتيجية حكومية واضحة، لإخراج الاقتصاد المصري من دائرة مشكلاته، ودخول عصر جديد قائم على التنمية الاقتصادية الجادّة وعلاج مشكلات الاقتصاد المصري الحقيقية، وخصوصاً في ما يتعلق برفع الإنتاجية والقدرة على التصدير وجذب الاستثمارات، في مجالات غير الديون الحكومية والطاقة، بالإضافة إلى محاربة الفقر والبطالة.