السياسات الإخوانية والسياسات السلفية
من الطبيعي أن تثير الذكرى السابعة لأحداث "30 يونيو" (2013) وما بعدها، في مصر، أشجان وعواطف ليس فقط ملايين المصريين، بل معهم بالمثل العرب، فكلفة ما حدث لم تكن فقط دماء لمئات الأبرياء، وعشرات آلاف المعتقلين في السجون، وعشرات آلاف المهجّرين، بل الكلفة كانت، عربياً، تدشيناً للثورة المضادّة والانقلاب على قيم الربيع العربي، والدفع باتجاه معاكس تماماً لذلك.
التقييم ضروري، والمراجعة النقدية من الجميع مهمة، والتوافقات الوطنية الفكرية والسياسية شرطٌ رئيسٌ لتجاوز تلك المرحلة. وإذ لا أحد يملك مطالبة الناس بكبح المشاعر تجاه التضحيات والضحايا، فمن الضروري ألا نخلط بين ذلك والتقييم الموضوعي الصارم لما حدث، وألا نلبس لباس المظلومية للحدث عامة، فلا نقرأ ولا نراجع إلّا بعقلية المظلومية.
من تلك المراجعات العميقة المطلوبة إعادة قراءة علاقة جماعة الإخوان المسلمين مع حزب النور، الذي يمثّل الدعوة السلفية، وقد حصد المقعد الثاني، بعد حزب الحرية والعدالة في الانتخابات التشريعية حينها. وهو وإن كان منافساً شرساً لـ "الإخوان" في الانتخابات أخذ جزءاً من أصوات الجماعة، فإنّ أخطر ما قام به هو ذلك "الدور المزدوج" (الخصم والحليف)؛ فهو يضغط على الجماعة وينافسها، ومن جهة أخرى يجرّها معه إلى معركة ذات طابع أيديولوجي هويّاتي، مع القوى الليبرالية والمسيحية والسياسية الأخرى، ليعزّز المخاوف المتبادلة بين الإسلاميين وخصومهم ويجذّرها.
لم يكن الخطاب السياسي لحزب النور والإخوان المسلمين متشاكلاً، لكنّ "النور" فرض خطابه على الجماعة. وربما عزّزت موجة القلق والهلع التي أصابت القوى والنخب المصرية من هذا البعبع الجديد (السلفي) من الصدام السياسي والإعلامي الذي دفع ثمنه "الإخوان" بعدما سارع "النور" إلى الانقلاب عليهم عشية الأحداث، ثم تنازل، في مرحلة لاحقة، عن خطابه الاستفزازي الذي ورّط "الإخوان" في صدامٍ مع النخب العلمانية النافذة!
لم يكن حزب النور مفتعلاً لخطابه الأيديولوجي والسياسي، بالتأكيد (تناولت تجربته بالتفصيل في كتابي "السلفيون والربيع العربي"). ولم يكن، بالضرورة، متورّطاً بترتيبات "الغرفة المغلقة" التي صاغت ما حدث لاحقاً. إنّما، بالنتيجة والمحصلة، دفع الحزب، ومعه التيار السلفي عموماً، الإخوان المسلمين إلى خطابات الهوية والصدامات الداخلية. وعزّز ذلك أيضاً سيطرة التيار المحافظ في الجماعة على مقاليد الأمور، فقضي الأمر باستدراج الجماعة، ومعهم التجربة الانتقالية لـ"ما بعد الثورة"، إلى الوقوع في الفخ المنصوب.
كادت الحالة تتكرّر في تونس، عندما حاول حزب النهضة الإسلامي مجاراة التيار السلفي الذي كان يقود نحو الانقلاب على "البورقيبية السياسية"، لكن الحزب تنبّه مبكّراً إلى حجم الخطورة في هذا المسار، فانقلب هو على السلفيين، ما أنقذ التجربة الديمقراطية في تونس.
يمكن استنطاق المقارنة بصورة أفضل وأعمق من خلال النظر إلى لجان صياغة الدستور والنصوص الدستورية والقانونية نفسها. كما هي الحال في أجواء إنجاز دستور 2012، الذي، وإن حقق نجاحاً شعبياً عميقاً في مصر، فإنّ يوم الاستفتاء عليه كان أشبه بالمكاسرة بين الإسلاميين وخصومهم، ولعلّ كثيرين يذكرون عبارة الشيخ السلفي، محمد حسين يعقوب، أو ما عرف بـ"غزوة الصناديق"، أو ما أطلق عليها "مظاهرات قندهار"، احتجاجاً على الوثيقة التأسيسية للدستور التي كان العلمانيون يسعون إلى وضعها توجساً من الأجندة الإخوانية، وهكذا انجرّ "الإخوان" إلى "خطاب الهوية"، وإلى الصدام.
لستُ مع "شيطنة" حزب النور، بل ربما أثبت قدرته على قراءة الواقع وموازين القوى أفضل من "الجماعة"، على الرغم من فارق الخبرة السياسية المفترض الهائل. ولكن المفارقة أن "الإخوان" كانوا يسيرون في سياق خطابٍ متطوّر فكرياً وسياسياً منذ التسعينيات، ووصلوا إلى مرحلةٍ متقدّمةٍ في الألفية الجديدة في مبادراتهم نحو الديمقراطية. وكسروا، مؤقتاً، "تابو" الرعب من البديل الإسلامي. لم يتمكّنوا من قراءة الأجندات الدولية والإقليمية وقواعد اللعبة الداخلية، وانخدعوا بالتضخيم السياسي الأميركي والغربي وبمعسول الكلام، ولم يميّزوا بين المرحلة الانتقالية الخطيرة (التحول الديمقراطي Transition of Democracy) والاستقرار الديمقراطي (تكريس العملية الديمقراطية Consolidation of Democracy). وخسرت الجماعة مجّاناً نخبة مهمة من المفكرين والباحثين والسياسيين الذين كانوا يقفون معها في مرحلة الدكتاتورية، بل أيضاً نخبة من قياداتها التي كان لها رأي مغاير للجناح المحافظ!