07 اغسطس 2024
العرب وعيوب البديل الصيني
يتراجع الدور الأميركي بشكل مضطرد في المنطقة العربية، لثلاثة أسباب رئيسية على الأقل، أولها تراجع القطبية الأحادية، وخصوصاً على المستوى الاقتصادي، بسبب صعود الصين، والتي بات ناتجها القومي الإجمالي يعادل ثلثي نظيره الأميركي في عام 2019 بعد أن كان نصفه في عام 2013 وثلثه تقريباً في عام 2010، في علامة واضحة على صعود الصين اقتصاديا، ومنافستها أميركا التي باتت مشغولة بشن حروب اقتصادية ضدها، وإعاقة تقدّمها، خصوصاً خلال فترة الرئيس الحالي دونالد ترامب. السبب الثاني حرص أميركا نفسها على تخفيض دورها وتبعاته في المنطقة، منذ فشل حربها في العراق، وما ترتب عليها من انهيار الدولة العراقية والتوسع الإيراني في العراق، وغضب حلفاء أميركا عليها. الأمر الذي دفعها إلى السعي بشكل حثيث إلى تقليل اعتمادها على نفط الشرق الأوسط، من خلال التركيز على تطوير النفط الصخري، حتى باتت أميركا مصدّرة للنفط في عام 2019. والسبب الثالث هو الضعف الإداري والسياسي الداخلي الذي منيت به الولايات المتحدة خلال حكم ترامب، وتمثل إقليمياً في قرارات متضاربة، مثل إعلان سحب القوة الأميركية بشكل مفاجئ من سورية ثم التراجع عنه، والتصعيد السياسي الشديد مع إيران إلى شفا الحرب، ثم الصمت على هجمات صاروخية مدمرة تتهم إيران بإطلاقها على منشآت نفطية رئيسية في السعودية في سبتمبر/ أيلول الماضي، والانحياز الفج لإسرائيل. كما ظهر في صراع ترامب مع حلفائه الأوروبيين، والصراعات الطاحنة داخل واشنطن نفسها، وشعور الأميركيين بفقدان البوصلة داخلياً وخارجياً، خصوصاً خلال أزمة وباء كورنا، والتي كشفت أميركيين مدى الفشل السياسي والإداري الذي تعيشه بلادهم.
دفعت كل هذه العوامل حكومات المنطقة ومثقفيها للبحث أكثر عن بدائل لأميركا، خصوصاً أن العالم العربي عانى كثيراً من القيادة الأميركية نفسها، والتي انحازت دوماً لإسرائيل، وقسّمت المنطقة لدول حليفة وأخرى مارقة، وتغاضت عن الديمقراطية والمبادئ من أجل النفط ومصالحها في أغلب الأحيان. وكان من المنطقي أن تتوجّه الأنظار نحو الصين بديلاً صاعداً
يبدو مرشحاً بقوة للعب دور متزايد في المنطقة، خلال السنوات والعقود المقبلة، لعدة أسباب، فمنذ عام 2015، تحولت الصين إلى أكبر مستورد للنفط، وهي سلعة العرب الأهم، وتستورد الصين من المنطقة حوالي نصف وارداتها من النفط، ما يجعلها معتمدة على نفط المنطقة، ومعنية بالتدخل فيها عقوداً مقبلة. كما دفعت الأزمة الاقتصادية الدولية التي مني بها العالم في 2009 الصين إلى تحويل اقتصادها نحو الاستثمار خارجياً، لتوسيع أسواق صادراتها وتنويعها، وهو ما تبلور في إطلاق مبادرة طريق الحرير الدولي في عام 2013، والتي تسعى إلى ربط الصين بشبكة مواصلات وتجارة برّية وبحرية مع قارات العالم القديم (آسيا وأفريقيا وأوروبا) كنوع من تعزيز العلاقات الاقتصادية وتوثيقها مع تلك الدول، وفتح الأسواق أمام المنتجات الصينية. ويحتل العالم العربي، بسبب موقعه الجغرافي وموارده المالية والنفطية، موقعاً مركزياً من تلك المبادرة.
وهنا تفيد دراسة صادرة عن جامعة ألبرتا الكندية بأن المنطقة استأثرت بحوالي 12% من الاستثمارات الدولية الصينية منذ عام 2005 وحتى 2017، وهو ما يعادل 11 - 14 مليار دولار سنوياً. وتذهب 42% من الاستثمارات الصينية إلى قطاع النفط، و21% إلى قطاع العقارات، و17% إلى الزراعة، و4% إلى المعادن، ومثلها إلى الخدمات الأساسية، و3% إلى الترفيه. كما أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لدول الخليج. وتعد الصين الشريك التجاري الأكبر للسعودية والإمارات، وأكبر مصدّر للواردات القطرية وثالث أكبر مستورد للصادرات القطرية، وعلى رأسها الغاز. كما نمت التجارة بين مصر والصين من 2.56 مليار دولار في عام 2005 إلى 12.1 مليار في 2016، وتعد الصين المصدّر الأكبر للبضائع لمصر. كذلك استثمرت الصين 22.2 مليار دولار في مصر من 2005 إلى 2017، ما جعل مصر ثالث أكبر مستقبل للاستثمارات الصينية في المنطقة بعد السعودية وإيران.
تنامي مصالح الصين الاقتصادية في المنطقة دفعها إلى زيادة وجودها العسكري فيها، وإنشاء أول قواعدها العسكرية الخارجية في جيبوتي، وتوسيع صادراتها العسكرية (كالطائرات بدون طيار) للمنطقة، والمشاركة في الجهود الدولية لمكافحة القرصنة في خليج عدن. كذلك عقدت الصين اتفاقات شراكة استراتيجية شاملة مع الجزائر ومصر والسعودية والإمارات، واتفاقات شراكة استراتيجية مع العراق والأردن والكويت وقطر والمغرب وعُمان وجيبوتي.
هذا يعني أن الدور الصيني في المنطقة في تزايد، وأنه مرشح للنمو خلال السنوات والعقود المقبلة. وقد تتشجع الصين، مع زيادة مواردها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، على لعب أدوار أكبر في المنطقة على مختلف المستويات حماية لمصالحها. ويبقى السؤال الأهم عن أجندة العرب أنفسهم، ومدى تلاقي مصالحهم مع مصالح الصين، وتحدّيات صعود النفوذ
الصيني في العالم العربي، وهنا يمكن الحديث عن ثلاثة تحديات رئيسية.
أولاً: الصين قطب اقتصادي صاعد بقوة، ولكنه ليس قطباً عسكرياً بعد. في 2019، بلغ الإنفاق العسكري الأميركي 684 مليار دولار مقارنة بإنفاق صيني يبلغ 181 مليار دولار، أو ما يعادل ربع الإنفاق الأميركي تقريباً. كذلك تعد أميركا المصدّر الأكبر للأسلحة إلى الشرق الأوسط بأكثر من نصف إجمالي تلك الصادرات، بينما لا يتعدّى نصيب الصين من تلك الصادرات 5%، كما تمتلك أميركا قواعد عسكرية في عدة دول عربية، بما في ذلك غالبية الدول الخليجية وعشرات آلاف من الجنود في المنطقة. وهذا يعني أن العملاق الصيني اقتصادي بالأساس، وأمامه فترة طويلة، لكي يوازن النفوذ العسكري والأمني الأميركي، وقد يتحتم على الحكومات العربية أحياناً الاختيار بين الصين وأميركا على بعض المستويات، لو احتدم الصراع بينهما.
ثانياً: تتبنى الصين منهجاً براغماتياً مصلحياً يقوم على الشركات الاقتصادية بالأساس، خصوصاً في قطاعاتٍ كالنفط والعقارات والمواصلات واستخراج المعادن. وتتعامل الصين بحذر مع مشاكل المنطقة السياسية والأمنية، وتتجنب التدخل فيها وتحمل تكاليفها، فعلى سبيل المثال استخدمت الصين حق النقض (الفيتو) عدة مرات لحماية نظام بشار الأسد، ولكنها تتجنّب الاستثمار فيه، حتى يحقق الاستقرار السياسي الكافي، وفقاً لدراسة جامعة ألبرتا. وذلك في إشارة إلى تجنب الصين تحمّل التكاليف السياسية لعلاقتها بدول المنطقة. وتشير الدراسة نفسها إلى استثمارات الصين في مشروع العاصمة الإدارية الجديدة في مصر، باعتباره مثالاً آخر على طبيعة التوغل الاقتصادي الصيني، فالاستثمارات والقروض التي قدّمتها الصين
للمشروع قد لا تتماشى مع شعور مصريين كثيرين وخبراء بعدم جدواه الاقتصادية، ومع ذلك تدعمه الصين بقروضها.
ثالثاً: ترفع الصين شعار عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وتقول إنها تؤمن بالسلام القائم على التنمية في مقابل السلام القائم على الديمقراطية الذي يتحدث عنه الغرب أحياناً. ولكنها لا تتردد عن دعم النظم الاستبدادية والاحتلال الإسرائيلي، فإلى استخدامها حق الفيتو مرات لحماية حكومة الأسد، وعلاقاتها جيدة مع إسرائيل، وتعتمد عليها في نقل التكنولوجيا، بما في ذلك تكنولوجيا الأسلحة، وهو ما يضع تنامي النفوذ الصيني في تناقض مع سعي العرب إلى الديمقراطية والتحرر.
باختصار، بحث العرب عن بديل أو موازن للهيمنة الأميركية وعيوبها قد لا يجد في الصين حلولاً كثيرة لمشكلاته، وفي مقدمتها وضع حل سريع لصراعاته الإقليمية الطاحنة، ودعم كفاحه من أجل الديمقراطية والتحرّر من الاحتلال، فالتوجه الصيني نحو العرب في الفترة الحالية اقتصادي مصلحي بالأساس.
وهنا تفيد دراسة صادرة عن جامعة ألبرتا الكندية بأن المنطقة استأثرت بحوالي 12% من الاستثمارات الدولية الصينية منذ عام 2005 وحتى 2017، وهو ما يعادل 11 - 14 مليار دولار سنوياً. وتذهب 42% من الاستثمارات الصينية إلى قطاع النفط، و21% إلى قطاع العقارات، و17% إلى الزراعة، و4% إلى المعادن، ومثلها إلى الخدمات الأساسية، و3% إلى الترفيه. كما أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لدول الخليج. وتعد الصين الشريك التجاري الأكبر للسعودية والإمارات، وأكبر مصدّر للواردات القطرية وثالث أكبر مستورد للصادرات القطرية، وعلى رأسها الغاز. كما نمت التجارة بين مصر والصين من 2.56 مليار دولار في عام 2005 إلى 12.1 مليار في 2016، وتعد الصين المصدّر الأكبر للبضائع لمصر. كذلك استثمرت الصين 22.2 مليار دولار في مصر من 2005 إلى 2017، ما جعل مصر ثالث أكبر مستقبل للاستثمارات الصينية في المنطقة بعد السعودية وإيران.
تنامي مصالح الصين الاقتصادية في المنطقة دفعها إلى زيادة وجودها العسكري فيها، وإنشاء أول قواعدها العسكرية الخارجية في جيبوتي، وتوسيع صادراتها العسكرية (كالطائرات بدون طيار) للمنطقة، والمشاركة في الجهود الدولية لمكافحة القرصنة في خليج عدن. كذلك عقدت الصين اتفاقات شراكة استراتيجية شاملة مع الجزائر ومصر والسعودية والإمارات، واتفاقات شراكة استراتيجية مع العراق والأردن والكويت وقطر والمغرب وعُمان وجيبوتي.
هذا يعني أن الدور الصيني في المنطقة في تزايد، وأنه مرشح للنمو خلال السنوات والعقود المقبلة. وقد تتشجع الصين، مع زيادة مواردها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، على لعب أدوار أكبر في المنطقة على مختلف المستويات حماية لمصالحها. ويبقى السؤال الأهم عن أجندة العرب أنفسهم، ومدى تلاقي مصالحهم مع مصالح الصين، وتحدّيات صعود النفوذ
أولاً: الصين قطب اقتصادي صاعد بقوة، ولكنه ليس قطباً عسكرياً بعد. في 2019، بلغ الإنفاق العسكري الأميركي 684 مليار دولار مقارنة بإنفاق صيني يبلغ 181 مليار دولار، أو ما يعادل ربع الإنفاق الأميركي تقريباً. كذلك تعد أميركا المصدّر الأكبر للأسلحة إلى الشرق الأوسط بأكثر من نصف إجمالي تلك الصادرات، بينما لا يتعدّى نصيب الصين من تلك الصادرات 5%، كما تمتلك أميركا قواعد عسكرية في عدة دول عربية، بما في ذلك غالبية الدول الخليجية وعشرات آلاف من الجنود في المنطقة. وهذا يعني أن العملاق الصيني اقتصادي بالأساس، وأمامه فترة طويلة، لكي يوازن النفوذ العسكري والأمني الأميركي، وقد يتحتم على الحكومات العربية أحياناً الاختيار بين الصين وأميركا على بعض المستويات، لو احتدم الصراع بينهما.
ثانياً: تتبنى الصين منهجاً براغماتياً مصلحياً يقوم على الشركات الاقتصادية بالأساس، خصوصاً في قطاعاتٍ كالنفط والعقارات والمواصلات واستخراج المعادن. وتتعامل الصين بحذر مع مشاكل المنطقة السياسية والأمنية، وتتجنب التدخل فيها وتحمل تكاليفها، فعلى سبيل المثال استخدمت الصين حق النقض (الفيتو) عدة مرات لحماية نظام بشار الأسد، ولكنها تتجنّب الاستثمار فيه، حتى يحقق الاستقرار السياسي الكافي، وفقاً لدراسة جامعة ألبرتا. وذلك في إشارة إلى تجنب الصين تحمّل التكاليف السياسية لعلاقتها بدول المنطقة. وتشير الدراسة نفسها إلى استثمارات الصين في مشروع العاصمة الإدارية الجديدة في مصر، باعتباره مثالاً آخر على طبيعة التوغل الاقتصادي الصيني، فالاستثمارات والقروض التي قدّمتها الصين
ثالثاً: ترفع الصين شعار عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وتقول إنها تؤمن بالسلام القائم على التنمية في مقابل السلام القائم على الديمقراطية الذي يتحدث عنه الغرب أحياناً. ولكنها لا تتردد عن دعم النظم الاستبدادية والاحتلال الإسرائيلي، فإلى استخدامها حق الفيتو مرات لحماية حكومة الأسد، وعلاقاتها جيدة مع إسرائيل، وتعتمد عليها في نقل التكنولوجيا، بما في ذلك تكنولوجيا الأسلحة، وهو ما يضع تنامي النفوذ الصيني في تناقض مع سعي العرب إلى الديمقراطية والتحرر.
باختصار، بحث العرب عن بديل أو موازن للهيمنة الأميركية وعيوبها قد لا يجد في الصين حلولاً كثيرة لمشكلاته، وفي مقدمتها وضع حل سريع لصراعاته الإقليمية الطاحنة، ودعم كفاحه من أجل الديمقراطية والتحرّر من الاحتلال، فالتوجه الصيني نحو العرب في الفترة الحالية اقتصادي مصلحي بالأساس.