07 يونيو 2019
الوريث السرمدي
سليمان موسى باكثير
خريج كلية العلوم/ قسم بيولوجي، يعمل في التحاليل الطبية، ويجد بعض العزاء في القراءة والكتابة.
إنها ليالي الشتاء القارس المُوحِش المُغَبّرة بالأتربة، حيث تحلو صحبتهم وتجمعهم حول "المَنقَد" المُضرَم في فحمه "وربما قوالح الذرة"، يتحلقون حول النيران بغرض التدفئة من شدة البرد، يرشفون الشاي المغلي على الفحم مع ضبط المزاج بعدد لا بأس به من أحجار المَعسّل.. كل شيء متوفر ومتاح تلبيةً لشهية الأنس والاستمتاع، هناك المواويل، القصص والحكايات على شاكلة أبو زيد الهلالي، المهرجانات، وضحكات مدوية تتعالى مع الدخان المتصاعد من أفواههم وأنوفهم، وحينما يصيبهم الملل والضجر من كل ما سبق، ينهشون في أعراض الناس، هذا فعل وهذه فعلت، فلانة ضبطها بعض الناس مع فلان، ينبري واحد منهم قائلا: "أمال جوزها فين يا رجالة ولا حتى أبوها أو أخوها"... الدخان يتصاعد أكثر فأكثر، الكل يضحك بسخرية، ثم يقول أحدهم: "هيه، الراجل جوزها يا حبة عين أمه مسالم وبينام بدري عشان عنده شغل بدري، والدنيا تلاهي وربنا يعينه ويقويها هي كمان"، في نفس ذات اللحظة يقهقهون مرددين: "ربنا يعينه ويقويها".
الله وحده من يعلم حقيقة كل ما يقال في مثل تلك الجلسات جملة وتفصيلا، الظاهر أن بعضهم يعاني من كبت وحرمان شديد، فما إن تأتي سيرة مثل هذا الحديث حتى تدب فيهم روح الحيوية والنشاط من جديد، فيصهلون ويلعلعون، قائلين لبعضهم البعض: "إحنا مالنا صحينا كلنا مرة واحدة كدا ليه، إحنا كنا خلاص بنفتح عيوننا بالعافية، هو ده الكلام اللي يرد الروح ولا بلاش".
يا هناءهم، سعداء الحظ والبخت، الليلة التي يقضيها بينهم أبو منصور السرمدي، يشرب معهم الشاي ويدخن المَعسّل، يتندر ويحكي حتى الثمالة الشارد والوارد، ولا يتجرّأ واحد منهم أن يعارضه فيما يقول أو يبدي أي تململ أو امتعاض أثناء استرساله، إذا اقتضى الأمر أن يضحك فعليه أن يضحك، ما عليه إلا أن يفتح شدقيه ويقهقه، الجميع يقهقه إذا أوعز إليهم أن يقهقهوا، وعلى النقيض يتأثرون وتنتفخ أوداجهم حين يظهر عليه الغضب والتأثر. ليس مهما على الإطلاق أن يكون هناك داعٍ للضحك أو التأثر، أو أية قيمة للكلام الذي يُقال والثرثرة التي يتفوه بها زعيم الجلسة ومحركها الأول والوحيد.
كيف ومن أين لهم بهذا؟ والجميع يذكر جيدا، في إحدى جلسات الأنس واللعلعة، مقولة السرمدي، وكأنه يرهبهم حتى لا يفكر أحدهم مجرد فكرة أن يتخطى الحدود التي يرسمها لهم: "العبرة يا رجالة مش بالراجل أبو شنب ولا الراجل الطول بعرض اللي يقف مكان الطور ويسد أي باب، العبرة بالقلب، اللي قلبه من حديد يجري بلد بحالها أدامه، وأطخن طخين يهابه ويخاف منه، حتى لو كان الراجل ده طول حتة القولحة دية"، وأيضا الرجال لا يغفلون كرمه عليهم ببعض الفاكهة التي يأخذها عنوةً وتجبراً من التجار في السوق، فيأكلون منها ما لذّ وطاب، ويعلمون علم اليقين أنه لا يعجز عن إقصاء أي شخص يعارضه أو يتهكم على أقواله أو أفعاله عن هذه الصحبة الحلوة، أو يصادر عنه الفاكهة أو حتى يفرض عليه إتاوة، فلماذا إذن عداوته، وعلى رأي المثل "يا بخت اللي صاحبه صايع أو بلطجي".
سأله أحدهم على استحياء: "بقولك يا عمنا شكلك النهاردة مزاجك متعكر ومش رايق، مفيش حد في الدنيا كلها يقدر يزعلك يا عم الناس". كان أبو منصور لا يزال يفكر في السجال الحاد الذي دار بينه وبين العجوز، سعد الهنا، تاجرة الجبن والسمن، منذ سويعات قليلة في السوق. كالمعتاد حينما نزل السوق كي يجمع إتاوة الحماية أو الأمن والأمان من التجار، صادف أول ما صادف العجوز، سعد الهنا، فطلب منها الإتاوة، فقالت له: "إنت لحد إمتى هتفضل حرامي وفاشل، لا شغلة ومشغلة، حاطط إيدك في جيوب الناس وعايش على قوت عيالهم"، رد عليها أبو منصور: "بقولك إيه يا خالة، الناس كلها إيديها في جيوب بعض، جت على شوية الملاليم اللي باخدهم"، انفجرت الخالة سعد الهنا في وجهه: "أوعي تفتكر إنك أقنعتني، بص حواليك كدا، خالتك زاهية بتروح الغيط بنفسها وتجمع خضارها وتيجي تبيع وتقبض تمن عرقها وشقاها، ولا خالتك أم السعد اللي بتروح آخر الدنيا عشان تجيب فاكهتها وييجي بلطجي زيك ينهشها، ده تمن تعبنا وشقانا مش اسمه سرقة، اتكسف على دمك. الناس ليها درجة تحمل، وصبرها ممكن ينفد. ولو اتمكنوا منك مش هيسموا عليك".
بمنتهى الغطرسة والعنجهية، وكأنه المالك والوريث الشرعي لأرض السوق، له حق الأمر والنهي فيه، فقرر أن يجعل أرض السوق ملكه بوضع اليد. رمق أبو منصور الشخوص حوله بنظرات حادة ثاقبة نفذت إلى قلوبهم التي ربما انتفضت بين ضلوعهم، ثم قال: "أنا قررت أحط يافطة أول السوق، وتانية في النص، وتالتة آخره مكتوب عليها، هذه الأرض ملك أبو منصور السرمدي وتحت تصرفه الشخصي للأبد، وعلى الجميع الالتزام بقوانينه وإلا فليتحمل"، فرد الجميع في آن واحد كأنهم يتسابقون: "عُلِم ووجب التنفيذ".
يا هناءهم، سعداء الحظ والبخت، الليلة التي يقضيها بينهم أبو منصور السرمدي، يشرب معهم الشاي ويدخن المَعسّل، يتندر ويحكي حتى الثمالة الشارد والوارد، ولا يتجرّأ واحد منهم أن يعارضه فيما يقول أو يبدي أي تململ أو امتعاض أثناء استرساله، إذا اقتضى الأمر أن يضحك فعليه أن يضحك، ما عليه إلا أن يفتح شدقيه ويقهقه، الجميع يقهقه إذا أوعز إليهم أن يقهقهوا، وعلى النقيض يتأثرون وتنتفخ أوداجهم حين يظهر عليه الغضب والتأثر. ليس مهما على الإطلاق أن يكون هناك داعٍ للضحك أو التأثر، أو أية قيمة للكلام الذي يُقال والثرثرة التي يتفوه بها زعيم الجلسة ومحركها الأول والوحيد.
كيف ومن أين لهم بهذا؟ والجميع يذكر جيدا، في إحدى جلسات الأنس واللعلعة، مقولة السرمدي، وكأنه يرهبهم حتى لا يفكر أحدهم مجرد فكرة أن يتخطى الحدود التي يرسمها لهم: "العبرة يا رجالة مش بالراجل أبو شنب ولا الراجل الطول بعرض اللي يقف مكان الطور ويسد أي باب، العبرة بالقلب، اللي قلبه من حديد يجري بلد بحالها أدامه، وأطخن طخين يهابه ويخاف منه، حتى لو كان الراجل ده طول حتة القولحة دية"، وأيضا الرجال لا يغفلون كرمه عليهم ببعض الفاكهة التي يأخذها عنوةً وتجبراً من التجار في السوق، فيأكلون منها ما لذّ وطاب، ويعلمون علم اليقين أنه لا يعجز عن إقصاء أي شخص يعارضه أو يتهكم على أقواله أو أفعاله عن هذه الصحبة الحلوة، أو يصادر عنه الفاكهة أو حتى يفرض عليه إتاوة، فلماذا إذن عداوته، وعلى رأي المثل "يا بخت اللي صاحبه صايع أو بلطجي".
سأله أحدهم على استحياء: "بقولك يا عمنا شكلك النهاردة مزاجك متعكر ومش رايق، مفيش حد في الدنيا كلها يقدر يزعلك يا عم الناس". كان أبو منصور لا يزال يفكر في السجال الحاد الذي دار بينه وبين العجوز، سعد الهنا، تاجرة الجبن والسمن، منذ سويعات قليلة في السوق. كالمعتاد حينما نزل السوق كي يجمع إتاوة الحماية أو الأمن والأمان من التجار، صادف أول ما صادف العجوز، سعد الهنا، فطلب منها الإتاوة، فقالت له: "إنت لحد إمتى هتفضل حرامي وفاشل، لا شغلة ومشغلة، حاطط إيدك في جيوب الناس وعايش على قوت عيالهم"، رد عليها أبو منصور: "بقولك إيه يا خالة، الناس كلها إيديها في جيوب بعض، جت على شوية الملاليم اللي باخدهم"، انفجرت الخالة سعد الهنا في وجهه: "أوعي تفتكر إنك أقنعتني، بص حواليك كدا، خالتك زاهية بتروح الغيط بنفسها وتجمع خضارها وتيجي تبيع وتقبض تمن عرقها وشقاها، ولا خالتك أم السعد اللي بتروح آخر الدنيا عشان تجيب فاكهتها وييجي بلطجي زيك ينهشها، ده تمن تعبنا وشقانا مش اسمه سرقة، اتكسف على دمك. الناس ليها درجة تحمل، وصبرها ممكن ينفد. ولو اتمكنوا منك مش هيسموا عليك".
بمنتهى الغطرسة والعنجهية، وكأنه المالك والوريث الشرعي لأرض السوق، له حق الأمر والنهي فيه، فقرر أن يجعل أرض السوق ملكه بوضع اليد. رمق أبو منصور الشخوص حوله بنظرات حادة ثاقبة نفذت إلى قلوبهم التي ربما انتفضت بين ضلوعهم، ثم قال: "أنا قررت أحط يافطة أول السوق، وتانية في النص، وتالتة آخره مكتوب عليها، هذه الأرض ملك أبو منصور السرمدي وتحت تصرفه الشخصي للأبد، وعلى الجميع الالتزام بقوانينه وإلا فليتحمل"، فرد الجميع في آن واحد كأنهم يتسابقون: "عُلِم ووجب التنفيذ".
سليمان موسى باكثير
خريج كلية العلوم/ قسم بيولوجي، يعمل في التحاليل الطبية، ويجد بعض العزاء في القراءة والكتابة.
سليمان موسى باكثير