07 يونيو 2019
بين الشاعر الصعلوك والممسوخ
سليمان موسى باكثير
خريج كلية العلوم/ قسم بيولوجي، يعمل في التحاليل الطبية، ويجد بعض العزاء في القراءة والكتابة.
وا أملاه
ليس شاعرنا الممسوخ، أو من على شاكلته، مجنونا حتى يبحث عن حتفه على يد القياصرة الذين لطالما حاربوهم، كي يحذو حذوك سابحاً عكس التيار وضارباً بتقاليد القطيع عرض الحائط.
وحدك أيها الشاعر الصعلوك، بكل معاني الصعلكة المادية والمعنوية، من يصنع صنيعك ويقتفي ضروب ودروب الجنون، وحدك من يسعفه قلمه الموهوب الممشوق وقلبه المنطوي بين ضلوع هشة، وداخل جسد نحيل، فتصرخ، بينما الاحتفالات تدق طبولها والجميع في غاية النشوة بنصر أكتوبر، مردداً أنشودتك الأبدية الأبيَّة المقدسة "لا تُصالح".
لم أرغب إطلاقاً أن أقضَّ مضجعك في قبرك، كما كان الحال في محياك، لأخبرك أن الأشياء المقدسة التي تحدثت عن كونها لا تقدر بثمن، صارت بلا قيمة، الأشياء التي ظننتها لا تشترى، مستباحة اليوم تحت النعال في زمن تحكمه شجاعة الحمير والبغال، في زمن العبثية الفاشية الشعواء التي تقتل وتُخوِن كل عقل يفكر أو قلب ينبض ويشعر.
رمقته ممسوخاً من بعيد وبشكل عابر، وهو يتحدث يوما ما خلف شاشة التلفاز، ابتسمت بمرارة، وقلت بيني وبين نفسي: مهما حدث لن تتورع في الدفاع عنهم، عن أولياء نعمتك وبقائك، ماذا يمكن أن يزعجك يا رجل؟ ما الذي يحرك عقيرتك وتحتقن له دماء وجهك؟! التفريط في الأرض والعِرض، شنق شباب أبرياء، تفحم الجثث في إحدى محطات القطار، التشرذم والتوجس المجتمعي المخيف، ترهيب مجتمعي وصدمات اجتماعية وثقافية واقتصادية، أم تحرّكك فقط تلك الكلمات التي تحيكها في فؤاد مراهقة وتردّدها على وقع أنفاسها وإيقاع حنجرتها: سادتي سيداتي، أهلا بكم في حضرة شاعر الحب والرومانسية، مدغدغ مشاعر وعواطف العشاق في أوقات الدماء والبلاء.
أيا شاعرنا الصعلوك، أرجوك أن تُسدي لنا خدمة، أن تستدعي شاعرنا الممسوخ الذي يُولي اهتماما بأناقته وهندامه وشعيراته المتهدلات على أحد جانبي وجهه أكثر من أي شيء آخر، وتجعله يمتثل بين يديك، وأنت إمام وعظيم الشعر الحديث، ثم تسأله: ماذا سيقول لهؤلاء الشباب الذين يردّدون، مُصطَفّين وبأصوات جهوريةٍ أجشةٍ، نشيده، الذي يعول عليه تأبيد ذكراه أبد الآبدين، إذا حاولوا أن يستفسروا منه: أين النيل الحر الطليق؟ كيف حال الشعب الأصيل؟ هل تمتلك الشجاعة الأدبية وترسم لنا صورة وجه الوطن الحقيقية؟ وجه الوطن الذي شُوهت ملامحه ومعالمه، فصارت لا تختلف كثيراً عن معالم وتفاصيل شِعرك!
تفردت بالفروسية الشعرية، وسواك المسوخ، الجميع في بلادنا دونك. العجيب أن ملامحك لم تدفن معك، فقط موهبتك هي التي اندثرت ولم يعد لها مثيل برحيلك، فربما نصطدم يوميا بقرناء لك في الملمح والشبه، فقد لا تعرف نفسك من فلاح يحمل فأسه ويبذر حقله، عامل غزل ونسيج، عامل سكة حديد، عامل بناء، ستراك في كل شارع، وكل زقاق، وكل حارة، يحملون عيونا حائرة مهمومة، نفوسا مرتحلة محمومة لا يهدأ لها طرف ولا تنعم بمتكأ ولا تأنس إلى أليف، إني لأراك في صورة كل هؤلاء الجمع الغفير، ولشدة الأسف، بل الضعة والهوان، أنه ليس بيننا "أمل دنقل" واحد فحسب.
وا أملاه
ليتهم أعاروك عقولهم وقلوبهم قبل مسامعهم، نصحت قاتليك نصيحة الاحتضار والأنفاس الأخيرة، فما زادتهم إلا تعجرفا وتجبرا: "يا قاتلي/ إني صفحت عنك/ في اللحظة التي استرحت بعدها مني/ استرحت منك/ لكنني أوصيك/ إن تشأ شنق الجميع/ أن ترحم الشجر/ لا تقطع الجذوع كي تنصبها مشانق/ لا تقطع الجذوع/ فربما يأتي الربيع/ والعام عام جوع/ فلن تشم في الفروع/ نكهة الثمر".
لستم سواء، من يدع عنه وينفض جهالة وضغينة العنصرية الدينية والفكرية، دفاعا عن الإنسانية بشتى معتقداتها وأعراقها وألوانها ومذاهبها الأيديولوجية، فقط لأنه إنسان قبل أي شيء آخر، ومن تحرق قلبه نيران الشماتة والتشفي وأحقاده الدفينة الموروثة تجاه المُختلِف، سوف يسخرون منكم ويلعنوكم بأقذع النعوت والصفات، لن يستحوا أن ينصبوا لكم مشانق العمالة والخيانة العظمى، لكن لا تبتئسوا، لسببٍ بسيطٍ جدا، لستم سواء، يا لها من مرارة قاسية تعجز حيالها الكلمات، أن بني جلدتنا يناصبوننا العداوة والبغضاء، أو ينظرون إلينا كأننا بلهاء مجذوبون، فلتقتل مرارتك بيديك، ولتُتِم طريقك واثق الخطى، حتى منتهاه، حتى يعلم الجميع أي شريف أنت، وأي نفس رائعة انطويت عليها.
وحدك أيها الشاعر الصعلوك، بكل معاني الصعلكة المادية والمعنوية، من يصنع صنيعك ويقتفي ضروب ودروب الجنون، وحدك من يسعفه قلمه الموهوب الممشوق وقلبه المنطوي بين ضلوع هشة، وداخل جسد نحيل، فتصرخ، بينما الاحتفالات تدق طبولها والجميع في غاية النشوة بنصر أكتوبر، مردداً أنشودتك الأبدية الأبيَّة المقدسة "لا تُصالح".
لم أرغب إطلاقاً أن أقضَّ مضجعك في قبرك، كما كان الحال في محياك، لأخبرك أن الأشياء المقدسة التي تحدثت عن كونها لا تقدر بثمن، صارت بلا قيمة، الأشياء التي ظننتها لا تشترى، مستباحة اليوم تحت النعال في زمن تحكمه شجاعة الحمير والبغال، في زمن العبثية الفاشية الشعواء التي تقتل وتُخوِن كل عقل يفكر أو قلب ينبض ويشعر.
رمقته ممسوخاً من بعيد وبشكل عابر، وهو يتحدث يوما ما خلف شاشة التلفاز، ابتسمت بمرارة، وقلت بيني وبين نفسي: مهما حدث لن تتورع في الدفاع عنهم، عن أولياء نعمتك وبقائك، ماذا يمكن أن يزعجك يا رجل؟ ما الذي يحرك عقيرتك وتحتقن له دماء وجهك؟! التفريط في الأرض والعِرض، شنق شباب أبرياء، تفحم الجثث في إحدى محطات القطار، التشرذم والتوجس المجتمعي المخيف، ترهيب مجتمعي وصدمات اجتماعية وثقافية واقتصادية، أم تحرّكك فقط تلك الكلمات التي تحيكها في فؤاد مراهقة وتردّدها على وقع أنفاسها وإيقاع حنجرتها: سادتي سيداتي، أهلا بكم في حضرة شاعر الحب والرومانسية، مدغدغ مشاعر وعواطف العشاق في أوقات الدماء والبلاء.
أيا شاعرنا الصعلوك، أرجوك أن تُسدي لنا خدمة، أن تستدعي شاعرنا الممسوخ الذي يُولي اهتماما بأناقته وهندامه وشعيراته المتهدلات على أحد جانبي وجهه أكثر من أي شيء آخر، وتجعله يمتثل بين يديك، وأنت إمام وعظيم الشعر الحديث، ثم تسأله: ماذا سيقول لهؤلاء الشباب الذين يردّدون، مُصطَفّين وبأصوات جهوريةٍ أجشةٍ، نشيده، الذي يعول عليه تأبيد ذكراه أبد الآبدين، إذا حاولوا أن يستفسروا منه: أين النيل الحر الطليق؟ كيف حال الشعب الأصيل؟ هل تمتلك الشجاعة الأدبية وترسم لنا صورة وجه الوطن الحقيقية؟ وجه الوطن الذي شُوهت ملامحه ومعالمه، فصارت لا تختلف كثيراً عن معالم وتفاصيل شِعرك!
تفردت بالفروسية الشعرية، وسواك المسوخ، الجميع في بلادنا دونك. العجيب أن ملامحك لم تدفن معك، فقط موهبتك هي التي اندثرت ولم يعد لها مثيل برحيلك، فربما نصطدم يوميا بقرناء لك في الملمح والشبه، فقد لا تعرف نفسك من فلاح يحمل فأسه ويبذر حقله، عامل غزل ونسيج، عامل سكة حديد، عامل بناء، ستراك في كل شارع، وكل زقاق، وكل حارة، يحملون عيونا حائرة مهمومة، نفوسا مرتحلة محمومة لا يهدأ لها طرف ولا تنعم بمتكأ ولا تأنس إلى أليف، إني لأراك في صورة كل هؤلاء الجمع الغفير، ولشدة الأسف، بل الضعة والهوان، أنه ليس بيننا "أمل دنقل" واحد فحسب.
وا أملاه
ليتهم أعاروك عقولهم وقلوبهم قبل مسامعهم، نصحت قاتليك نصيحة الاحتضار والأنفاس الأخيرة، فما زادتهم إلا تعجرفا وتجبرا: "يا قاتلي/ إني صفحت عنك/ في اللحظة التي استرحت بعدها مني/ استرحت منك/ لكنني أوصيك/ إن تشأ شنق الجميع/ أن ترحم الشجر/ لا تقطع الجذوع كي تنصبها مشانق/ لا تقطع الجذوع/ فربما يأتي الربيع/ والعام عام جوع/ فلن تشم في الفروع/ نكهة الثمر".
لستم سواء، من يدع عنه وينفض جهالة وضغينة العنصرية الدينية والفكرية، دفاعا عن الإنسانية بشتى معتقداتها وأعراقها وألوانها ومذاهبها الأيديولوجية، فقط لأنه إنسان قبل أي شيء آخر، ومن تحرق قلبه نيران الشماتة والتشفي وأحقاده الدفينة الموروثة تجاه المُختلِف، سوف يسخرون منكم ويلعنوكم بأقذع النعوت والصفات، لن يستحوا أن ينصبوا لكم مشانق العمالة والخيانة العظمى، لكن لا تبتئسوا، لسببٍ بسيطٍ جدا، لستم سواء، يا لها من مرارة قاسية تعجز حيالها الكلمات، أن بني جلدتنا يناصبوننا العداوة والبغضاء، أو ينظرون إلينا كأننا بلهاء مجذوبون، فلتقتل مرارتك بيديك، ولتُتِم طريقك واثق الخطى، حتى منتهاه، حتى يعلم الجميع أي شريف أنت، وأي نفس رائعة انطويت عليها.
سليمان موسى باكثير
خريج كلية العلوم/ قسم بيولوجي، يعمل في التحاليل الطبية، ويجد بعض العزاء في القراءة والكتابة.
سليمان موسى باكثير