07 يونيو 2019
خِرَقٌ بالية
سليمان موسى باكثير
خريج كلية العلوم/ قسم بيولوجي، يعمل في التحاليل الطبية، ويجد بعض العزاء في القراءة والكتابة.
لا يقدر على القدرة سوى بارئها، من لا يرحم لا يُرحم.
أفضل الناس وأكثرهم فطنةً ورأفةً، من يلتمس الأعذار، ويضع نصب عينيه مرارة الحاجة والفاقة. فعلام إذن تنظر إلينا بأطراف الأعين يمنةً ويساراً، علام ترمقنا باستهانة، بل علام تحدق في أجسادنا وتزيل عنها رداءها كي تتملى بوقاحة من عوراتنا؟
يا هذا. أنت لست مخولاً بأن تُجبرنا على شيء، لا أحد يملك بين خلجاته تلك القوة والقداسة الروحية حتى يتمكن من أن يُسيّر الكون وفق هواه الشخصي وشروطه. يبدو في كلامك كثير من المنطق، حري بنا جميعا أن نصفق لهذا التنظير المُفحِم البارع، لكنْ، استفسار بسيط: هل فعلا لا يوجد بيننا من لا يحمل عصا غليظة تسوق كل القوى، مادية كانت أم روحية، عنوة وتجبرا، كما تشتهي غرائزه السلطوية؟ إن شئتم أن تعوا المجرم الحقيقي، العصا القمعية هتّاكة للعورات الإنسانية.
وسط عدد لا بأس به من الرؤوس، ودون أن يدري، وجد عبد العال نفسه يندس بين أكوام من اللحم البشري، الحلال أُكله، داخل ساحة لا هي واسعة ولا ضيقة، ربما بين ذلك، لا هي صاعدة ولا هابطة، قد تكون مستوية، وقد تكون تارة صاعدة وأخرى هابطة، أو مجرد إيحاء من الموجات البشرية المتصارعة المتكدسة عند التلويح بالحسنة القليلة، حيث يعمل رَبُ موزعيها تيمناً بمقولة شحاذ الأرصفة والطرقات "حسنة قليلة يا بيه تكفيك بلاوي كتيرة"، ثم هبوط تلك الموجات بعد أن يظفر أحدهم بالحسنة، ليس ذلك الهبوط سوى استعداد لموجة النفير والنخير والشخير القادم، وكلٌ يمني نفسه ويشد من عزيمته، ولا يضر أن يتضرع بالنبي وبعض الأولياء الصالحين كي تكون الحسنة القادمة من حظه ونصيبه.
لمعت عيناه وبرقت، كشفت ضحكته الممزوجة بالنشوة اللحظية الطارئة والشقاء الأبدي، عن ثنايا أسنان صفراء لم تعرف الغسول منذ أعوام عديدة، وربما لم تعرفه منذ مولدها ونشأتها داخل هذا الفم المُكمَّم المقهور.
عبد العال، هذا الشاب الثلاثيني الذي يعمل عامل نظافة بأحد مستشفيات الطوارئ، منذ قليل أنقذه الله، ثم ما هو أهم في البلاد من عبد العال وسلسال عبد العال الأقربين وغير الأقربين، من قبضة رجال الشرطة إثر مشاجرته مع كمسري القطار ورفضه دفع تطويقه القطار بقيمة عشرة جنيهات. لا يعلم أحد أي اتفاق أبرمه مع رجال الشرطة، تحرر بموجبه من قبضتهم بل عاد يحمل غنيمته الثمينة، قابضا عليها بين ذراعيه وصدره، كأنه يخشى عليها من قطاع الطرق والسارقين، فهؤلاء لا يختلفون من وجهة نظره بتاتا عن الذين اقتطعوا جزءا من راتبه الشهر الماضي بدعوى التقاعس والإهمال أثناء العمل.
خرج عبد العال من مطحنة اللحم البشري المتلاطم المتصارع، فاغرا فاه وعلى وجهه ابتسامة رضا بلهاء، أخذ يتفوه بلسان شبه عاجز أو مُجهد، وبكلمات نصف مفهومه وغير موجهة لشخص بعينه: "هيه، هيه، الحمد لله يا جدع، الواحد كان هيرتكب جناية النهاردة أو جنايتين، هيه، مش فارقة، قال عايزين مني عَشّه جنيه، وأنا مش في جيبي جنيه واحد، دي عيشه تقصر العمر يا جدع، ولا الولية اللي كانت عايزة تاخد مني الكرتونة بالعافية، آه من شوية النسوان دول، ما بيقنعوش أبدا".
تنفس عبد العال الصعداء، فلعل تلك الغنيمة تملأ عين زوجته سليطة اللسان، التي لا تنفك تعامله كقطعة من قطع أثاثهما المتواضع جدا، وربما أدنى من ذلك، ودّت لو تمسح به أرضية الشقة حتى لا يكرّر فعلته الشنيعة ويتقاعس مرة أخرى في عمله، في حين يصر على كونه لا يدري تحديدا متى أهمل في عمله، ويكمل الرجل في غَيّه، على أن هناك أيادي عليا خفية تتربص به وتسرق راتبه.
أطل عبد العال فجأة، وقبل تحرك القطار الذي تأخر في انتظار المقابل، بثوان معدودة من نفس باب العربة التي دُفِع دفعا خارجها منذ ما يقرب من ربع الساعة. حينها حاول البعض أن يلطف الأجواء بينه وبين الكمسري، حتى ملوا منهما وانصرفوا عنهما بحجة "الإتنين دماغتهم جزمه قديمة". حدق الكمسري عبد العال ثم قال: "دي أوامر، وهطبق القانون يعني هطبقه، ولا تحب نروح المركز"، ضرب الأدرينالين دماغ عبد العال، فأخذته العظمة والجلالة، فهو لا يسمح لشخص ربما يأكل معه في صحن واحد أن يلوح بالقانون في وجهه، فأشار بانفعال قائلا: "تعال يا أبو قانون نروح المركز، أنا هخاف ولا إيه، إحنا أساسا ما بنشطرش غير على بعض".
بدا عبد العال، في تلك اللحظة، ممشوق القوام، مزهوا بنفسه ومعتدا بصنيعه، وكأنه يعتلي قطار عطبرة، لكنه حقا لم يكن قطار عطبرة، إنما ثمة احتفال بنصره المبين على الكمسري وعودته سالماً غانماً.
منذ انقشعت أرحام الأمهات الحُبلى عن بشائرها غير السارة لولاة الأمور أو المتسلطين عليها، والسواد الأعظم يتهالك فيما بينه بحثاً عن لقمة العيش، لأن الجوع كافر ولا دين له، وأيضا العمل عبادة، لكن فقط من يعبرون بأقوامهم من السخرة إلى العمل الكريم، من الأجير إلى صاحب حق، هؤلاء الأقوى من الكفر ذاته فحسب.
أفضل الناس وأكثرهم فطنةً ورأفةً، من يلتمس الأعذار، ويضع نصب عينيه مرارة الحاجة والفاقة. فعلام إذن تنظر إلينا بأطراف الأعين يمنةً ويساراً، علام ترمقنا باستهانة، بل علام تحدق في أجسادنا وتزيل عنها رداءها كي تتملى بوقاحة من عوراتنا؟
يا هذا. أنت لست مخولاً بأن تُجبرنا على شيء، لا أحد يملك بين خلجاته تلك القوة والقداسة الروحية حتى يتمكن من أن يُسيّر الكون وفق هواه الشخصي وشروطه. يبدو في كلامك كثير من المنطق، حري بنا جميعا أن نصفق لهذا التنظير المُفحِم البارع، لكنْ، استفسار بسيط: هل فعلا لا يوجد بيننا من لا يحمل عصا غليظة تسوق كل القوى، مادية كانت أم روحية، عنوة وتجبرا، كما تشتهي غرائزه السلطوية؟ إن شئتم أن تعوا المجرم الحقيقي، العصا القمعية هتّاكة للعورات الإنسانية.
وسط عدد لا بأس به من الرؤوس، ودون أن يدري، وجد عبد العال نفسه يندس بين أكوام من اللحم البشري، الحلال أُكله، داخل ساحة لا هي واسعة ولا ضيقة، ربما بين ذلك، لا هي صاعدة ولا هابطة، قد تكون مستوية، وقد تكون تارة صاعدة وأخرى هابطة، أو مجرد إيحاء من الموجات البشرية المتصارعة المتكدسة عند التلويح بالحسنة القليلة، حيث يعمل رَبُ موزعيها تيمناً بمقولة شحاذ الأرصفة والطرقات "حسنة قليلة يا بيه تكفيك بلاوي كتيرة"، ثم هبوط تلك الموجات بعد أن يظفر أحدهم بالحسنة، ليس ذلك الهبوط سوى استعداد لموجة النفير والنخير والشخير القادم، وكلٌ يمني نفسه ويشد من عزيمته، ولا يضر أن يتضرع بالنبي وبعض الأولياء الصالحين كي تكون الحسنة القادمة من حظه ونصيبه.
لمعت عيناه وبرقت، كشفت ضحكته الممزوجة بالنشوة اللحظية الطارئة والشقاء الأبدي، عن ثنايا أسنان صفراء لم تعرف الغسول منذ أعوام عديدة، وربما لم تعرفه منذ مولدها ونشأتها داخل هذا الفم المُكمَّم المقهور.
عبد العال، هذا الشاب الثلاثيني الذي يعمل عامل نظافة بأحد مستشفيات الطوارئ، منذ قليل أنقذه الله، ثم ما هو أهم في البلاد من عبد العال وسلسال عبد العال الأقربين وغير الأقربين، من قبضة رجال الشرطة إثر مشاجرته مع كمسري القطار ورفضه دفع تطويقه القطار بقيمة عشرة جنيهات. لا يعلم أحد أي اتفاق أبرمه مع رجال الشرطة، تحرر بموجبه من قبضتهم بل عاد يحمل غنيمته الثمينة، قابضا عليها بين ذراعيه وصدره، كأنه يخشى عليها من قطاع الطرق والسارقين، فهؤلاء لا يختلفون من وجهة نظره بتاتا عن الذين اقتطعوا جزءا من راتبه الشهر الماضي بدعوى التقاعس والإهمال أثناء العمل.
خرج عبد العال من مطحنة اللحم البشري المتلاطم المتصارع، فاغرا فاه وعلى وجهه ابتسامة رضا بلهاء، أخذ يتفوه بلسان شبه عاجز أو مُجهد، وبكلمات نصف مفهومه وغير موجهة لشخص بعينه: "هيه، هيه، الحمد لله يا جدع، الواحد كان هيرتكب جناية النهاردة أو جنايتين، هيه، مش فارقة، قال عايزين مني عَشّه جنيه، وأنا مش في جيبي جنيه واحد، دي عيشه تقصر العمر يا جدع، ولا الولية اللي كانت عايزة تاخد مني الكرتونة بالعافية، آه من شوية النسوان دول، ما بيقنعوش أبدا".
تنفس عبد العال الصعداء، فلعل تلك الغنيمة تملأ عين زوجته سليطة اللسان، التي لا تنفك تعامله كقطعة من قطع أثاثهما المتواضع جدا، وربما أدنى من ذلك، ودّت لو تمسح به أرضية الشقة حتى لا يكرّر فعلته الشنيعة ويتقاعس مرة أخرى في عمله، في حين يصر على كونه لا يدري تحديدا متى أهمل في عمله، ويكمل الرجل في غَيّه، على أن هناك أيادي عليا خفية تتربص به وتسرق راتبه.
أطل عبد العال فجأة، وقبل تحرك القطار الذي تأخر في انتظار المقابل، بثوان معدودة من نفس باب العربة التي دُفِع دفعا خارجها منذ ما يقرب من ربع الساعة. حينها حاول البعض أن يلطف الأجواء بينه وبين الكمسري، حتى ملوا منهما وانصرفوا عنهما بحجة "الإتنين دماغتهم جزمه قديمة". حدق الكمسري عبد العال ثم قال: "دي أوامر، وهطبق القانون يعني هطبقه، ولا تحب نروح المركز"، ضرب الأدرينالين دماغ عبد العال، فأخذته العظمة والجلالة، فهو لا يسمح لشخص ربما يأكل معه في صحن واحد أن يلوح بالقانون في وجهه، فأشار بانفعال قائلا: "تعال يا أبو قانون نروح المركز، أنا هخاف ولا إيه، إحنا أساسا ما بنشطرش غير على بعض".
بدا عبد العال، في تلك اللحظة، ممشوق القوام، مزهوا بنفسه ومعتدا بصنيعه، وكأنه يعتلي قطار عطبرة، لكنه حقا لم يكن قطار عطبرة، إنما ثمة احتفال بنصره المبين على الكمسري وعودته سالماً غانماً.
منذ انقشعت أرحام الأمهات الحُبلى عن بشائرها غير السارة لولاة الأمور أو المتسلطين عليها، والسواد الأعظم يتهالك فيما بينه بحثاً عن لقمة العيش، لأن الجوع كافر ولا دين له، وأيضا العمل عبادة، لكن فقط من يعبرون بأقوامهم من السخرة إلى العمل الكريم، من الأجير إلى صاحب حق، هؤلاء الأقوى من الكفر ذاته فحسب.
سليمان موسى باكثير
خريج كلية العلوم/ قسم بيولوجي، يعمل في التحاليل الطبية، ويجد بعض العزاء في القراءة والكتابة.
سليمان موسى باكثير