بحثاً عن آثار الملاك

04 فبراير 2015
سعاد العطار / العراق (مقطع من لوحة)
+ الخط -

رغم أن السوبر ماركت كان يفتح أيضًا في نهاية الأسبوع، إلا أن ذاك السبت، تقول خوليا، أخذته إجازة، بذلك تناولت قرصين مهدّئين يوم الجمعة ليلًا، بدلًا من قرص واحد، واستيقظت ظهرًا شبه دائخة. وبعد أن انتعلت الشبشب وارتدت فوق البيجامة روبًا ثقيلًا، كانت اشترته بعد استئجار الغرفة بقليل، قامت بزيارة صغيرة للحمّام توجهت بعدها إلى المطبخ، إذ كان سيرافين، صاحب الشقة، كان لا يزال جالسًا على منضدتها.

- صباح الخير، حيّته خوليا.
- أهلًا، قال، واستمرّ في التجول بإصبعه، كأنه يخط طريقًا على المشمّع، المطبوع عليه خريطة كبيرة للهند. أحيل على المعاش منذ سنوات، بعد أن قضى حياته المهنية في شركة سياحة، ما منحه ثقافةً جغرافية كبيرة وسمح له بالسفر في كل العالم. نحيف ومنحوت، كان يرتدى طقمًا رياضيًا يسير به في البيت وكان كبيرًا عليه، إذ كان من أنصار الملابس الواسعة جدًا، خاصةً الصالحة للوضع الذي اعتاد التأمل فيه.

خوليا حكت لميّاس أنها استأجرت غرفة من سيرافين مارباس من خلال إعلان على الإنترنت. بدا لها أن في تركيبة الاسم مع اللقب تختبئ رسالة مشفّرة، فسيرافين اسم ملاك ومارباس اسم شيطان. كانت الفتاة تعرف كثيرًا عن الملائكة والشياطين لأنها كرست ساعات كثيرة لدراستهم، عندما قال لها شخص ذات مرة، في المترو، إنها تشبه ملاكًا. كانت سيدة، وكانت متوجهة إلى باب العربة لتستعد للنزول، فاستغلت ضغوط ساعة الزحام واقتربت بشفتيها لأذن خوليا، كأنها ستقبّلها، لتهمس لها:

- يا فتاة، أنتِ ملاك.

عاجزةً عن التعبير، ظلت خوليا تراقب كيف وصلت المرأة للرصيف، كيف أُغلق الباب وراءها، وكيف أبعدهما القطار بعد ذلك بينما كانت كل واحدة منهما تنظر إلى الأخرى. وخلال الليل، في سريرها، عندما أغمضت عينيها، رأتها من جديد تطفو، أكثر منها تسير، فوق حذاءٍ بني مزوّدًا بنعال هائلة. وكانت شفتاها، المحددتان بخط أسود، كأنهما مرسومتان بقلم للعيون، تضمان ابتسامة ساخرة موجهة إلى خوليا الحائرة.

لا من طريقة ملبسها ولا من سلوكها كانت المرأة تشكّل جزءًا من المجتمع الذي يركب المترو في تلك الساعات. منذ دخلت العربة، فاتحةً طريقًا بين الازدحام بطريقة إلهة (أو عاهرة، مشددةً خوليا لميّاس) لتقف بجانب أحد الأبواب البعيدة، لم تكفّ عن النظر إليها. وعندما كانت المرأة تبادلها النظر، وكانت تبادلها باستمرار، كانت خوليا، المختنقة، تهرب بنظرتها. مع ذلك، قامت بجرد كامل لملابسها، المكونة من بلوزة بنية، وتشكّل طقمًا مع الحذاء البوت، وتقولب جسدها بكمال نادر، كأنها تستحوذ على مرونة سائلة تذكرها بإعلان عن عطر غالٍ. تحت البلوزة، كانت ترتدي بنطلونًا أسود ضيقًا جدًا، وأيضًا سائلًا جدًا، وكان طرفه يتوه داخل البوت. وبدلًا من ارتداء معطف، كما يلائم هذا الفصل من العام، كانت تضع على كتفيها، على شكل طبقة، شالًا نسيجه غشائي، بألوان ناعمة، يستحضر شكل أجنحة الفراشة. أما شعرها، الأسود جدًا واللامع جدًا مثل حرير البنطلون، فكان في شكل ذيل حصان يسمح بكشف كمال ملامح وجهها، قليل المكياج.

- يا فتاة، أنتِ ملاك، قال لها هذا النوع من الأشباح الذي يشبه الكائنات الخيالية أكثر من الكائنات الواقعية.

وبعد يوم عمل عاشته بحنين من يجتاز نفقًا تتأخر في الخروج منه للأبد، تعرّت أمام مرآة في غرفة ببيت أمها، حيث كانت تعيش في تلك الفترة، لتراجع جسدها بحثًا عن آثار الملاك، دون أن تعثر عليها. حدست، في المقابل، رائحة أسماك كانت تتوغّل فيها مستخدمةً كل دفاعاتها، لتسكن بعناد في مسامات جلدها.

وخلال الأيام التالية، رغم أنها انتظرت دون نتائج أن تظهر من جديد سيدة المترو، قضت عدة ساعات أمام الكمبيوتر، باحثةً عن معلومات حول الملائكة. بهذه الطريقة وقعت على منتدى كان فيه أناويل، أحد المشتركين، الذي كان يقدم نفسه كخبير، يشرح لها أن العالم مليء بملائكة لم يستووا بعد، وذلك بعد أن حكت له خوليا ما حدث لها في المترو.

- عندما يخفق شيء أثناء تشكيل هذه الكائنات - أضاف أناويل - بدلًا من أن تلقى بعيدًا، كما يحدث في كونترولات الجودة المعتادة، يلقون بهم إلى الحياة في شكل كائنات بشرية، رغم أنهم لا يندمجون كليةً في هذا العالم نظرًا إلى طبيعتهم.

وردًّا على أسئلة خوليا، أضاف هذا الأناويل أن هذه الملائكة غير مكتملة، ولكونها غير مدركة لأصولها ولا لطبيعتها الحقيقية، كانت تتجوّل بين الكائنات البشرية دون أن تتكيف معها، فيما كانت تتطور باستمرار نظرًا لعنف نصفها الآخر، لطبيعتها الشيطانية، رغم أنها كانت شياطين ناقصة أيضًا.

- في الواقع، أضاف أناويل، عملية إنتاج ملاك وعملية إنتاج شيطان متشابهان. فقط في نهاية حلقة المونتاج يمكن استخدام هذه المقارنة، فيُمنح للبعض شهادة بشيء أو بالشيء الآخر. كيف؟ بطريقة عشوائية.

معلومة أناويل ذكّرت خوليا بفيلم تسجيلي عُرض على التليفزيون حول البناطيل الجينز ذات الماركات المضروبة. فكما يبدو، تتميز البناطيل الأصلية عن البناطيل المضروبة فقط بالتيكيت الملصوق بعد عملية التصنيع، إذ أن كليهما يصنّعان من نفس المواد الخام وعلى يد نفس الأشخاص.

على أي حال، فكرة أن تكون ملاكًا، حتى لو كنت ملاكًا ناقصًا أو معاقًا، بالإضافة لكونها فكرةً موحية بقوة، جاءت لتفسر لها صعوبات علاقتها مع العالم، إذ يبدو جليًا أنها ألقيت فيه دون أن تكون مزودةً بما تحتاجه تحديدًا لفتح طريق. وخلال فترة ما، سائرةً وراء هذا الأناويل، الذي بدأت تراسله باستمرار، واصلت بحثها حول طبيعة الملائكة والشياطين، مندهشةً من أن تنتمي، حتى ولو كعضو هزيل أو ابن حرام، إلى عائلة كبيرة. وعندما اصطدمت على الإنترنت بإعلان سيرافين مارباس، كات تعرف تمامًا المكانة التي يشغلها السرافنة في علم الملائكة وما يعنيه مارباس في علم الشياطين.

هكذا اتصلت تليفونيًا بسيرافين مؤكدةً له أن الغرفة الإيجار من نصيبها، رغم أنها بعيدة عن العمل الذي التحقت به مؤخرًا، بمحل الأسماك بالسوبر ماركت.

البيت كان مكونًا من ثلاث غرف، قرر صاحبه أن يؤجر غرفةً واحدةً فيه. وكان السعر مناسبًا جدًا، ورغم أنها شقة بالطابق الثالث وبلا مصعد، إلا أنها على بعد عشر دقائق من محطة المترو، وبعيدة جدًا عن بيت أمها، التي قررت أن تستقل عنها بعد قليل من حصولها على عمل في محل الأسماك بالمكان الكبير.

في لقائها الأول مع سيرافين مارباس، أخذت خوليا دشًا بالماء وكمية غزيرة من الخل والليمون والنبيذ الأبيض، طبقًا لما نصحوها به في منتدى بالإنترنت للقضاء على رائحة السمك التي، بحسب أحد المشتركين، تأتي من تفاعلات الإنزيمات والبكتيريا فوق جثة الحيوان.

- وظيفة بخاخات الماء على مناضد محلات السمك-أضاف مستخدم النت-ليست إلا التغطية على هذه الرائحة.

رسمت أيضًا ابتسامة ساذجة تستخدمها مع الزبائن ومع العالم بشكل عام وربما تكون، فكرت عند ملاحظة النتائج التي حققتها، ابتسامة ملاك فعلًا.

في اللقاء الأول ذاك، وضّح لها سيرافين مارباس أنه وزوجته لديهما ابنة طبيبة تمارس الطب في أستراليا، وأن لديها بدورها طفلة فقدت إصبعها-الوسطى باليد اليمنى-عندما أغلق عليها باب حديد لغرفة الخمر المنزلي.

- بالتالي لدينا حفيدة أسترالية –ختم مذهولًا كأنه لم يحك الحكاية العدد الكافي لتصديقها أو لجعلها حكايته.
- هناك أناس كثيرون لهم حفيدات أستراليات-قالت خوليا بطريقة شبه ميكانيكية، على طريقة "بعد أن نسمع لثلاث مرات ننطق ذهنيًا المرة الرابعة".
- أما بالنسبة لزوجتي-واصل سيرافين-فتلزم بالسرير منذ خمس سنوات، لذلك لم تخرج لتحيتك. ذات يوم، بعد أن انتهت من حصة اليوجا، بدأت تشعر بثقل في قدمها، ثقل في قدمها، كأن حذاءها من الرصاص، حملناها للمستشفى وخرجت على كرسٍ متحرك لأنهم وصلوا للنخاع عندما حاولوا ان يعالجوا لها غضروفًا كانت له علاقة بثقل القدمين. تشعر بآلام رهيبة والأطباء جعلوها مدمنة مورفين.
- أوف، قالت خوليا شبه مسيطرة على ابتسامة الاحترام والتواطؤ.
- أحيانًا ترى أشياءً على غير حقيقتها. بالأمس رأت ساعي بريد يعبر بغرفة النوم.
- هل كان ساعي بريد أمي؟
- لا أعرف إن كان أميًا، لكن لماذا؟

أجابت خوليا بأنه لا لشيء، رغم أنه كان لشيء، إذ كان ساعي بريد أمي يظهر من آن لآخر في رأسها، مظهرًا لها الخطابات التي كان يتحتم عليه تسليمها لتقرأ له عناوينها. فكرت في أنه قد يكون نفس الشخص.

سيرافين مارباس أخبر خوليا بأنه تلقى مكالمات من أشخاص كثيرين مهتمين بالغرفة، لكنها راقت له منذ اللحظة الأولى كضيفة، وهو الأمر الذي كان يفضّل أن يتركه للحدس (كان يثق كثيرًا في حاسة الشم) إذ كان ينقصه الخبرة كمؤجِر.

- هكذا ستشغلين غرفة ابنتي الأسترالية. ولابد أنك تفهمين أن ذلك لتساعدينا قليلًا، فمرض زوجتي يكلفنا نفقات كثيرة.
- بالطبع-قالت خوليا.
- هنا، إن كنتِ هادئة، يمكنك أن تعيشي حياةً هادئة. فزوجتي لا تخرج من غرفتها، عاجزة المسكينة، وتقضي نصف اليوم نائمة أو متصنعة النوم بسبب المخدرات. سأعرفك عليها ذات يوم، لا تتعجلي. بعد ذلك، ستلاحظين أن هذا البيت مزدحم جدًا، وبه حركة كثيرة أيضًا. هناك أيام يتصادف فيها وجود الطبيب، دكتور العلاج الطبيعي، الممرض، القس، ورجل جمعية الموت بكرامة... حركة كثيرة.


* مقطع من رواية "المرأة المجنونة" للكاتب الإسباني خوان مياس التي تصدر قريباً عن "هيئة الكتاب المصرية" بترجمة أحمد عبد اللطيف. صدر لمياس بالعربية "العالم" و"هكذا كانت الوحدة" و"هي تتخيل وهلاوس أخرى".

المساهمون