تلك الأيام...
كان أبي يفاخر، وكانت أمّي تدافع، فأبي يرى أن عيد الأضحى يجب أن تُقدم فيه "العيدية" مع كمية من لحم الأضحية هدية للأرحام من النساء، وأمّي ترى أن اللحم يكفي في عيد الأضحى، فأما العيدية فهي تُقدم في عيد الفطر، وهي تتباهى بأن والدها كان يخصّها بكتف الشاة في الأضحى، متغاضية عن عدم تقديمه "عيدية" لها، لأنه كان يعتبرها ثرية لكونها موظفة.
ولكن، كان أبي يصر على رأيه، ويحمل اللحم مع مبلغ من المال لأرحامه وصويحبات أمّه. ومرّت السنوات، وكلّ أرباب الأسر في غزّة يحذون حذو أبي، وكانت تلوح على وجهي ابتسامة، وأنا أخمّن أن معظمهم يدخلون في جدالاتٍ عقيمة مع زوجاتهم، صبيحة يوم عيد الأضحى، كما كان يحدث بين أبي وأمّي.
الوضع الاقتصادي السيء والمتردي في غزة أدى إلى تراجع كبير في عادات كثيرة للأعياد التي قدسها الغزيون سنوات طويلة، وتوارثوها، وحرصوا عليها وصايا الآباء للأبناء، وظلّ كلّ ربّ أسرة يعتقد أن خير طريقةٍ لتخليد ذكرى الرّاحلين، وتأكيد الإخلاص لهم، هو السير على خطاهم، حتى لو لم تتماشَ عاداتهم مع تطورات العصر أحياناً، فمارس أبناءٌ كثيرون عادات الآباء والأجداد، على الرغم مما وصلوا إليه من علم وتعليم، ولم يعبأوا باتّهامهم بالتّخلف، ولكن الظرف الاقتصادي الصعب هو ما جعل الجميل والحميم منها في تراجع مؤسف.
تحايل الغزيون، مع مرّ السنوات العجاف الأخيرة، بطرق كثيرة، للمحافظة على عادات العيد، وخصوصاً عيد الأضحى، فذهبوا إلى الشراكة في الأضحية، بعد الحصول على فتوى بجوازها، وأصبح كل ستّ أو سبع من أرباب الأسر يشتركون في شراء عجلٍ، أو بقرةٍ، وذبحها وتوزيع لحمها، حسب ما نصت عليه الشريعة الاسلامية، بسبب غلاء أسعار الخراف وزيادة عدد الأرحام. وهكذا، فلحم العجل والبقر "أكثر بركة"، كما خلصوا من تجاربهم السابقة مع لحم الضأن القليل اللحم والكثير الدهن. ثم ظهرت طريقة جديدة هذا العام، وهي شراء الأضحية بالتقسيط، وسخر أحدهم قائلاً: الزواج وبناء البيت بالتقسيط، فلم لا تكون الأضحية بالتقسيط، وحصل من اشتروها تقسيطاً على فتوى أجازت لهم ذلك؛ بشرط عدم حصول البائع على زيادة في السّعرالأصلي.
وتحايل الغزيون أكثر مع تردي الوضع، فمنهم من يعتكف في بيته في يوم العيد، ولا يخرج منه؛ لكي لا يلتقي بالأقارب الذين عليه مبادلتهم الزيارة وتقديم العيدية أو كمية من اللحم، ومنهم من ينتظر حصول زوجته على "عيدية"، ليأخذها منها ويدور بها على أمّه وشقيقاته والمقرّبات جدّاً من أرحامه ليؤدي الواجب. وبدورهنّ، قدّرن الظروف، فأحجمن عن أخذ "العيدية"، واتفقن، فيما بينهنّ، على حلف أغلظ الأيمان على عتبات البيوت، وهن يودعن أقرباءهن بأن "العيدية وصلت، وأن وصولك إلى باب البيت أحسن عيدية". وتحايل آخرون، فحملوا إلى أرحامهم في مناسبتين، لا تتكرران كلّ عام، فاكهة، أو صنفاً رخيصاً من الحلوى.
بت واثقة أن المجادلات التي كانت تحدث بين أبي وأمّي، وبين أزواج وزوجات كثيرين انتهت، وأن زوجات عاملات كثيرات يدفعن جزءاً من رواتبهن لأزواجهن العاطلين، لكي يستمروا في المحافظة على عادات العيد الذي لم يعد كما كان يقول جدّي، رحمه الله، إنّه عيد النّساء والصّغار، ولا كما كان يعبّر عمُّ والدي بأنّه مصيبة للرّجل وغنيمة للأنثى، وهو ينتظر العيدين، لكي تشتري زوجته وبناته كسوة العام من "العيدية" التي يحصلن عليها من أقاربهن وأبناء عمومتهن. وعلى الرغم من ذلك الانفراج الاقتصادي الذي يريحه، هو يكره العيد، لأنّ زوجته تتباهى بعدد أفراد أبناء عمومتها، وتشرع باب الدّار على مصراعيه، ليطال قاماتهم وازدحامهم، وتمعن في التباهي، فتقترض بعض كراسي الخيزران من الجيران.