جذر الزلزال وارتداداته

14 نوفمبر 2015

ورود لضحايا الهجمات في باريس (14 نوفمبر/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
تعطش للدماء، وحشية، إجرام، إرهاب... أوصاف كثيرة قد تساق للتعبير عن ليلة الرعب الفرنسية، أول من أمس، غير أنها كلها لن تفي ما حدث فعلاً حقه، ولن تكون كافية لدرء التداعيات الكبيرة عالمياً. بيانات التنديد والشجب والحزن والحداد لن توقف كرة الثلج التي ستجعل من تاريخ الثالث عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2015 حدثاً موازياً للحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، ليوسّع مساحات الرعب المنتشرة على الكرة الأرضية، وكأن المساحات الحالية غير كافية.
لا مكان آمناً، هذه الفكرة الأولى التي قد تخطر على البال، خصوصاً أن أحداث فرنسا تأتي شبه متزامنة مع تفجيرات أخرى شهدتها العاصمتان اللبنانية، بيروت، والعراقية، بغداد، إضافة إلى كل ما يحدث في سورية واليمن وليبيا وغيرها من البقع التي كان أهلها، ولا يزالون، يركبون البحر هرباً من جحيم بلادهم إلى الجنة الأوروبية، لكن الجحيم يبدو قادماً على مزيد من التمدد، فمن كان يظن أنه بوصوله إلى البر الأوروبي سيعصم نفسه من المذابح الدائرة في بلاده، بغض النظر عن مسمياتها، جاءت اعتداءات باريس لتضعه في حلقة جديدة من النيران. نيران ستحاصر أولئك الواصلين إلى القارة العجوز، وتصمهم بأنهم مذنبون أو تضعهم في خانة المتهمين إلى أن تثبت براءتهم.
من سيلوم الفرنسيين، أو الغرب عموماً، غداً على موجات العنصرية الآتية ضد اللاجئين والعرب والمسلمين المقيمين في بلاد المهجر. موجات ربما بدأت إرهاصاتها بإحراق بعض مخيمات اللاجئين في فرنسا. هناك من سيتحدث غداً عن خطر تمدد الإسلاموفوبيا في الدول الغربية، متناسياً أن هذه أساساً أصبحت منتشرة في بلاد العرب والمسلمين أنفسهم. كيف لا وأهل هذه البلاد هم أول الضحايا لتفسيرات دينية، تبرر القتل بكل أشكاله وحشية، وهي موجودة في نصوص مبعثرة في كتب تراثية. كانت هذه الكتب والأفكار، ولا تزال، متداولة في الدول العربية، وتجد من يدافع عنها أو يبرّرها، وحتى يفرح لتطبيقها. هؤلاء ليسوا كثرين، لكنهم ليسوا قليلين أيضاً. لهم وجود في كل ركن من أركان الوطن العربي والإسلامي، وحتى في الدول الغربية التي من المفترض أنها آوت مهاجرين فارّين من شظف العيش وضيق مساحات التعبير والحرية.
لكن، يبدو أن هذه الحرية أخذت أبعاداً وحشية نابعة من تنظيرات فالتة من أي أطر منطقية أو علمية. في سياق هذه التنظيرات كان مثلاً التسجيل المصور الذي تم بثه قبل فترة لأحد أئمة المساجد، وللمفارقة في العاصمة الفرنسية، وهو يحاضر في أطفالٍ لا تتجاوز أعمارهم السابعة، عن مخاطر الموسيقى، وكيف أن من يسمعها يتحول إلى "قرد أو خنزير". الأدهى أن هذه المحاضرة كانت تتم تحت أنظار الأهل المهاجرين أيضاً الذين يروجون خشيتهم من تربية أولادهم وفق التعاليم الغربية، لكنهم، في المقابل، يرمونهم في أحضان أفكار ظلامية. يمكن لنا أن نتخيل هذا الطفل الذي تزرع في رأسه مثل هذه الأقوال، ماذا يمكن أن يتم حشو لاوعيه لاحقاً، وأي عنصر مفيد قد يخرج إلى المجتمع. وإذا كانت هذه التنظيرات متداولة في العالم الغربي، فلا بد أن ما هو أسوأ بكثير يتم زرعه في أذهان الأجيال العربية والإسلامية الجديدة.
ليس هذا الاستطراد خارجاً عن سياق الاعتداءات الإرهابية في باريس، بل هو لب محاولة فهم أي منطق تنفذ فيه هذه الجرائم، وأي أنواع من المجرمين يتم تربيتهم في مجتمعات العرب والغرب. اعتداءات فرنسا وقبلها بغداد وبيروت، وقبلها عمليات الذبح والحرق، هي جزء من سياق واحد لا بد من محاربته. المسألة ليست تنظيم "داعش" أو غيره، بل فكر أوسع وأعقد، يجد في عناوين سياسية واجتماعية قد تكون محقة، فرصة لتفريخ مئات التنظيمات المماثلة بأسماء مختلفة.
باريس اليوم ضحية جديدة للإرهاب، وارتدادات زلزالها لا تزال غير معروفة. لكن، ما يجب أن يكون معروفاً هو جذر هذا الزلزال.

حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".