لا يمكن أن يمرّ عيد الأضحى من دون أن أتذكّر جدي رحمه الله. كان رجلاً كما ينبغي أن يكون الرجل، وعندما توفي كان قد تجاوز التسعين، ولكنه بقي قوياً مُعافى، طويلاً مهيباً، وفمه الباسم الضحوك ممتلئ عن آخره بأسنانه التي لم يُخلع منها ضرسٌ، وكان دائماً ينتهرني عندما يراني أنظّف أسناني بالفرشاة والمعجون، بأنني هكذا أُعجّل بسقوطها، ويدلني إلى المضمضة بالماء والملح فقط لتنظيفها، وكنت أتقبّل قوله بالضحك!!
وعندما كان يُصاب بنوبةٍ من الرشح، ونادراً ما كان ذلك يحدث، فإنه لا يعالج نفسه إلا بالليمون الذي يعصره باستمرار على الشاي الدافئ ولا يلبث أن يتعافى، في حين أن جميع العائلة تحتاج إلى أكثر من أسبوع لتصل إلى حدّ في حربها مع الرشح والزكام. أما إفطاره الصباحي فهو شرب زيت الزيتون من الزّجاجة كما يشرب العطشان الماء، وعندما كنت أراه يفعل ذلك، أشعر بأمعائي تتقلص، ولكنّه لم يعانِ من أيّ مرضٍ قطّ، من أمراض العصر، وبقي بصره سليماً، وأذناه حادّتا السمع، لدرجة أنه كان يسمع همسنا في الغرف المجاورة.
كان جدّي موظفاً في السّكة الحديد في فترة الانتداب الإنجليزي على فلسطين، وكان يتباهى كونه موظفاً وكلّ أولاده أصبحوا كذلك، رغم أنه نزح إلى غزّة لاجئاً من إحدى القرى المجاورة للمجدل. قصّة وحيدة كان يكرّرها جدي عن فترة عمله في السكة الحديد، وهي زيارة مفتش بريطاني له وثناؤه على عمله، وحديثه معه حديثاً حميمياً، وصل إلى أن أباح له المفتش بخسارة العرب، وقال له بالحرف الواحد: العرب لا يملكون إلا الكلام ولذلك دائماً يخسرون … ثم لقاؤه في السبعينات بنفس المفتش ولكن بصدفةٍ محضة، ليخبره أن العرب لا يملكون إلا جمال عبد الناصر وأمّ كلثوم وعبد الباسط عبد الصمد.
لا زلت أذكر جدي عائداً مُتلحّفاً بعباءته الصوفية الفاخرة. كان يعود من المسجد بعد صلاة العيد، ويجدني وإخوتي نصطفّ أمام الواجهة الداخلية للبيت، وعيوننا تغالب النعاس، ونقبّل يده في سباقٍ مُحبّب، وهو يربت على رؤوسنا، وتدمع عيناه اللوزيتان بدمع تُغالبه الفرحة والفخر بالأحفاد، ثمّ يتناول من جيب قمبازه رزمةً نقديةً، ويوزّع علينا العيدية، ويُصرّ أن يختار الأوراق النقدية جديدةً تماماً، وربّما انتقاها قبل العيد بفترةٍ طويلةٍ، ويعتبر الورقة النقدية المُمزّقة إهانةً لا يستحقّها أحبّته، ثم لا يلبث يُلقي بالعباءة الفاخرة نحوي وينادي على أبي ليجهزّ أدوات الذبح والسلخ، كنت أنتحي جانباً لأتفرج وأنا أحتضن عباءة جدّي وأتشمّم عطره المسكي، ورائحة دخانه الذي يزرعه ويجفّفه ويلفّه على الورق، الرائحة المختلطة لا تفارق أنفي، وتبكيني حين يقتلني الحنين إلى جدّي، أقف مرتجفةً وأنا أرى جدّي يذبح ويسلخ ويُقطّع الخروف بسرعة واحتراف، ثمّ يضع اللحم في أكياسٍ ويطلب منّي ومن إخوتي أن نوزّعها على الجيران، ويصرخ بنا أن نغسل آثار الدماء قبل أن تجفّ على العتبة الداخلية لبيتنا، ثمّ يتعجّل أمّي، وهي زوجة الابن الحبيبة على قلبه، أن تعدّ له طعام الإفطار من الكبد والكلاوي المقلية، ويتباهى جدّي بأنه أول من ينتهي من الذبح والسلخ من الجيران والأقارب.
ثمّ يعاود لبس عباءته، ويستعدّ لزيارة أقاربه، وكأنّه لم يفعل شيئاً. لم يذبح ويسلخ وحتّى لم يأكل. ما أجمل هذه الذكريات التي افتقدتها في عام زواجي الأول، وكان جدّي أول من يطرق بابي يوم العيد، ولا ينتظر مصافحتي له وتقبيل يده، كما تعوّدت، بل يدسّ بيدي ورقةً من فئة المائة دولار ويقول لي: أنت نور عيني.
لم يلبث جدي أن فقد بعضاً من صحته، ولم يعد يزورني في العيد، ولكن كان يرسل لي العيدية مضاعفةً مع أبي، وأبكي مفتقدةً طوله الفارع، الذي يملأ باب بيتي، وأرى رأسي تطال السماء فخراً برجولته..
المرّة الأخيرة التي رأيته فيها عندما زرت بيت أهلي، وكان جالساً أمام البيت في ظلّ شجرةٍ وارفة، ولوّح لي بيده، وابتسم وأنا أغادر مع أطفالي، وما هي إلا أيام قليلة حتّى وصلني خبر وفاته، وكنت استيقظت في ذلك الصباح وقلت لزوجي: لا أدري، أشعر أنّ جدّي في مرضٍ وأريد زيارته، فوبّخني وقال: أنتِ واهمة، أجّلي الزيارة لمناسبةٍ قادمة، وزاولت أعمال البيت وأنا أشعر بالاختناق.. هناك شيءٌ ما بداخلي يريدني أن أطير إليه لأراه وقد كان يحتضر في تلك الأثناء، وحين وصلني الخبر بساعات قليلة، صرخت في وجه زوجي: لن أسامحك..
رحل الوجه الباسم، وبكيت خلف جنازته، ولحقت بالجثمان حتى الباب الخارجي للبيت، ورجال عائلتي يردّونني ويلتمسون لي العذر. كنت أنادي عليه، يا حبيبي. حقّاً رحل الحبيب، والذكريات، والطفولة، والبراءة، والأصالة، والبلاد التي أضعناها، وعباءة جدي، وقمبازه والعيدية.