مقر حملة ماكرون هو من أضخم مقرات الحملات الانتخابية لكل المرشحين، ويشمل ستة طوابق مساحة كل منها 2500 متر مربع. كل شيء يلمع، والأثاث حديث وبرّاق، كأنه شُحن قبل دقائق قليلة من محلات بيع الأثاث. يعمل نحو 300 شخص بالتناوب في مختلف مرافق الحملة، من بينهم 55 شخصاً يشتغلون بعقود عمل، ويبلغ معدّل أعمار العاملين نحو 30 عاماً. وتُدار الحملة بشكل شبيه بعمل الشركات الرقمية الشابة المعروفة تحت اسم Start up، كما يقول لنا دانيال، وهو أحد الناطقين باسم الحملة. ويضيف "هنا نعمل بروح Start up ونتفادى سجن أنفسنا في طريقة عمل كلاسيكية أو بيروقراطية، ونفسح المجال للخلق والابتكار ونستمع باهتمام لمقترحات المتطوعين الشباب".
في الطابق الخامس، يبرز جان بيزاني فيري، المنسق العام للحملة، وهو الوحيد من بين قياديي الحملة الانتخابية الذي يتناقض سنه مع معدل سن الغالبية العظمى من فريق ماكرون، إذ يبلغ الـ65 من العمر. وكان فيري، الاشتراكي المخضرم، قد التحق بفريق ماكرون في يناير/ كانون الثاني الماضي بعد أن كان مستشاره الاقتصادي لأشهر عدة، وهو من المحسوبين على وزير الاقتصاد السابق، مدير صندوق النقد الدولي دومينيك شتروس كان.
يقول فيري، لـ"العربي الجديد"، إن حملته واثقة "من الفوز في الدورة الأولى وهي الأصعب بالنسبة لنا. ولكننا حذرون أيضاً من الاستطلاعات، لأن الخطر يكمن في سلوك الناخبين المترددين يوم الاقتراع. ذلك لأن الاستطلاعات تقول أيضاً إن نصف الناخبين الذين يصرحون برغبتهم في التصويت لصالح ماكرون، ما زالوا مترددين: هل سيضعون ثقتهم في ماكرون، الوجه الجديد الذي يمثل الأمل والمستقبل، لحظة التصويت أم أنهم سيتراجعون ويمنحون أصواتهم للوجوه المألوفة من بين المرشحين الخصوم الآخرين؟ لا أحد يدري كيف ستجري الأمور بالضبط".
في الطابق الخامس أيضاً، يعمل الفريق المكلف بـ"التواصل الرقمي" برئاسة منير محجوبي، وهو رجل أعمال شاب من أصل مغربي وخبير في التجارة الرقمية والرئيس السابق لـ"المجلس الوطني الرقمي"، وانضم الصيف الماضي إلى فريق ماكرون بعد تجربة قصيرة في الحزب الاشتراكي مع فريق وزيرة البيئة، المرشحة السابقة للانتخابات الرئاسية سيغولين رويال، وأيضاً مع فريق الرئيس فرانسوا هولاند، خلال الحملة الانتخابية السابقة في عام 2012.
يتكوّن فريق التواصل الحالي من حوالى 20 شخصاً، وغالبيتهم من الطلبة المتطوعين. وتسود في القاعة أجواء من التركيز، والجميع يعمل في صمت ورؤوسهم غارقة في شاشات الكمبيوتر. بعضهم كان يعمل على صياغة الرسالة الصباحية حول زيارة قام بها ماكرون أخيراً إلى ضاحية سان دوني، ملتقياً خلالها مجموعة من شباب الضواحي وممثلي الجمعيات المدنية، ومتحدثاً فيها عن رؤيته لمعضلة البطالة المتفشية بين شبان الضواحي. في هذا الصدد، تقول راشيل: "علينا أن نحرر الرسالة لنشرها في وسائل الاتصال الاجتماعي بعد ساعة من الآن". وتضيف راشيل، الطالبة في معهد للتواصل بجامعة باريس الثالثة، أن "المطلوب هو أن يكون نصّ الرسالة مكتوباً بلغة بسيطة وعملية وقريبة من لغة شباب اليوم من دون إثقالها بحمولة سياسية معقدة".
بدوره، يسهر فريق التواصل الرقمي وفقاً لسيلفان فور، المكلف بالعلاقات مع وسائل الإعلام في حملة ماكرون، على مدّ مواقع التواصل الاجتماعي بالمواد وأشرطة الفيديو والأنفوغرافات بشكل يومي وعلى مدار الساعة، والهدف هو ضمان حضور كثيف ونوعي لماكرون في أذهان المستخدمين للمواقع. وفي سياق الأيام القليلة المتبقية قبل الدورة الأولى يوم الأحد المقبل، يبدو الضغط مضاعفاً على فريق التواصل الرقمي، الذي دخل في منافسة حامية وغير مباشرة في شبكة الإنترنت مع فريق مرشح اليسار الراديكالي جان ـ لوك ميلانشون، الذي ينشط هو الآخر في حملة رقمية كاسرة، يعود لها الفضل في نجاحات المرشح الراديكالي في استطلاعات الرأي الأخيرة. في الطابق الثالث، يتمركز الفريق المكلف بجمع التبرعات، وهو مكوّن من عشر فتيات متطوعات، لا يتجاوز عمر أكبرهن الثلاثين، "هنا نجمع التبرعات، وأكثر من 70 في المائة من المتبرعين يتبرعون بأقلّ من 60 يورو"، تقول شارلوت، وهي أيضاً مناضلة سابقة في شبيبة الحزب الاشتراكي مثل العديد من رفيقاتها في فريق الحملة.
وتضيف "لقد جمعنا حتى الآن حوالى 9 ملايين يورو بفضل التبرعات"، وعن رأيها في الاتهامات التي يبثها خصوم ماكرون بشأن تمويل الحملة الانتخابية ونعتهم له بأنه "مرشح المصارف ورجال الأعمال"، ترد شارلوت بنبرة حازمة "إنها اتهامات عارية من الصحة وهدفها تشويه سمعة ماكرون. إن الغالبية الساحقة من التبرعات والهبات المالية تأتي من المنتسبين للحركة الذين فاق عددهم حتى الآن 4 آلاف منتسب. طبعاً هناك تبرعات بمبالغ مهمة، لكن كل شيء يتم بشكل قانوني، وكل المرشحين يتوصلون بتبرعات وهِبات من طرف الأشخاص والمؤسسات، وهذه مسألة معمول بها في الحملات الانتخابية".
في الطابق السادس، يوجد مكتب ماكرون ومكاتب كبار مستشاريه ومدراء الحملة، حيث عقد اجتماع بحضور المرشح الرئاسي تحضيراً للتجمّع الضخم الذي سيُعقد في قاعة بيرسي بباريس، وهو آخر تجمّع لماكرون في العاصمة. وبحسب المعلومات، فإن الطابق السادس هو مسرح قيادة العمليات ويشبه في آليته عمل "المكتب السياسي" في الأحزاب الكلاسيكية، وتدور فيه اجتماعات أسبوعية يترأسها ماكرون مع أفراد الحلقة الضيقة في قيادة حركة "ماضون قُدُما" ورؤساء مختلف القطاعات في الحملة. وتتناول هذه الاجتماعات رسم الأجندة الأسبوعية بمهرجاناتها ولقاءاتها مع وسائل الإعلام والاستراتيجية الإعلامية، وأيضاً التحليل الدقيق لنتائج استطلاعات الرأي ومراجعة تقارير فروع الحركة في الأقاليم.
وتتحلق حول ماكرون نخبة من الشخصيات القيادية، غالبيتها كوادر سابقة في الحزب الاشتراكي، تنكب على استشراف اللحظات القوية الآتية في الحملة الانتخابية وإدارة دفتها بما يناسب مصالح ماكرون. ومن بين هذه الشخصيات مدير الحملة جان ماري غيرييه (32 عاماً)، وهو المدير السابق لمكتب رئيس بلدية مدينة ليون الاشتراكي جيرار كولومب، الذي أعلن دعمه لماكرون.
ورغم حداثة سنه، فإن لدى غيرييه تجربة مهمة في إدارة الحملات الانتخابية، اكتسبها على الخصوص إلى جانب الرئيس فرانسوا هولاند في الحملة الرئاسية السابقة عام 2012. وغيرييه رجل ظل له معرفة دقيقة بالخريطة الانتخابية في مختلف الأقاليم الفرنسية، وهو لا يحب الظهور الإعلامي ولا يتوفر على أي حساب في وسائل الاتصال الاجتماعي. هناك أيضاً إسماعيل إيميليان (29 عاماً)، ويشغل منصب مستشار استراتيجي في مكتب ماكرون، وصديق مقرّب منه، وتعرّف عليه أثناء عملهما معاً في "مؤسسة جان جوريس" التي كانت تحضر لحملة هولاند الرئاسية في الانتخابات السابقة. ويعتبر إيميليان العقل المدبر لاستراتيجية ماكرون السياسية والانتخابية وهو المسؤول عن رسم الأولويات السياسية والاستثمار في التكنولوجيات الجديدة وخلق زخم سياسي لحركة "ماضون قُدُما" منذ تأسيسها. وفي حلقة المقربين أيضاً أسماء عدة كانت تعمل مع ماكرون في وزارة الاقتصاد في الحكومة الاشتراكية السابقة، ومنهم جوليان دورموندي (29 عاماً)، وستيفان سيغورني (27 عاماً).
في الطابق الأول، ينتشر المتطوعون في كافيتريا المبنى، دون الخشية من صدمة ما أو مفاجأة سلبية يوم الأحد، لا بل إنهم متفائلون بانتصار ماكرون. وفي هذا السياق، يقول رافايل، وهو طالب في معهد العلوم السياسية في باريس، إن "مرشحنا هو الأفضل، وماكرون هو الوحيد القادر على هزيمة مارين لوبان إذا وصلنا للدور الثاني. كل استطلاعات الرأي ترشح ماكرون للمرور إلى الدور الثاني وبعضها يضعنا في المرتبة الأولى أمام لوبان. مفتاح الوصول إلى القصر الرئاسي هو نتيجة الدورة الأولى. وإذا عبرنا للدور الثاني فسيصطف الجميع إلى جانبنا لقطع الطريق على مرشحة الكراهية والتمييز العنصري، سواء في صفوف الناخبين المتعاطفين مع اليسار أو اليمين".