10 فبراير 2024
درس جاهلي (3)
اعتاد المنخَّل بن مسعود بن عامر -وشهرته المنخَّل اليشكري- التأنق في ملابسه، يرتدي أفخم الماركات وأحدث صيحات الموضة، ويعرف لسانه الشعر وإن كان مقلًا؛ فاشتهر بين أصحاب القصائد الوحيدة أو اليتيمة، ولأن العادة عبادة؛ فقد أدمن على انتقاء ألفاظه ومعانيه وصوره البيانية، وجمع بين صباحة الوجه ورقة الشعر، ولأنه شاب طائش لم يعجم الدهر عوده؛ فلم يفد من موهبته بل جرَّ على نفسه الحتوف.
وكان رومانسيًا من طراز فريد، إذا وقعت عينه على إحداهن أحبها، لا يحتاج حبه إلى مقدمات، يحب على نفسه وحيدًا أو في الطرقات والمجالس، وهو القائل (وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري). لم يقبل أن ينافسه رجل في امرأة هام بها، ولو كان هذا الرجل زوجها! ليس الأمر من ضرب التجني ولا المبالغة، بل إن المنخَّل يعتنق الأنانية حتى النخاع!
إذا نوفِس على قلب امرأة، غلت مراجل الحقد والضغينة في صدره، وعمد إلى كل سلاح مهما بدا رخيصًا ليُقصي خصمه، ولتخلو له الساحة يتبختر فيها حيث يشاء دون منازع. وسكن المنخَّل الحيرة، وتعرف إلى رجل قصير دميم الوجه يرسم على وجهه تعابير جامدة، قلما غسل عبوسه بابتسامة، يقال له النعمان بن المنذر ولقبه "أبو قابوس".
وفي الخورنق -قصر النعمان- وقعت عين المنخَّل على "المتجردة" زوجة النعمان، وكانت من أحسن بنات دهرها جمالاً ودلالاً؛ فوقعت في نفسه ووقع في نفسها، وصبّ عليها الغزل صبًّا؛ فهو وضاء الجبين مهندم يجيد الغزل والثناء، والغواني يغرهن الثناء، فضلاً عن شاعريته، والشعراء يتبعهم الغاوون؛ فاتبعته المتجردة ووافقته حتى صارت لعبته وعشيقته. أنجبت المتجردة للنعمان غلامين يشبهان المنخَّل، والعهدة على صاحب الأغاني.
الميدان واسع، والحلبة عالية يتقصدها كل من يبحث عن الشهرة والعطاء، وبلاط النعمان ليس حكرًا على المنخَّل؛ فمن مرتاديه المثقب العبدي، والأسود بن يعفر، وحاتم الطائي، وعنترة بن شداد، وحسان بن ثابت والنابغة الذبياني؛ فكان لا بد من بروز حزازات تخلقها المنافسة على الشعر أو المنافسة على المتجردة. لا يريد المنخَّل أن يُسحب بساط الشعر من تحت قدميه؛ ليحتفظ بمكانته عند أبي قابوس، وليظل في عين المتجردة الرجل الكامل بسلامته، والدنجوان الأوحد ومستر كازانوفا في الحيرة وضواحيها الكرام!
والدنيا لا تجري وفق أهواء الخلق، ومن عادتها أن تجدد ثوبها دون اكتراث بمن يتعشقونها؛ فأخرجت "من تحت طقاطيق الأرض" غريمًا شعريًا للمنخَّل في مجلس النعمان. ساقته الأقدار ليتسلم راية التأنق والتألق، ولم يجد المنخَّل بدًا من التضعضع لهذا الوافد الجديد، واستعرت نار المنافسة حتى بلغت أشدها، وقرر المنخَّل أن يطيح بأحلام المنافس الشرس، والمعاصرة حجاب.
وجريًا على قول العرب "رمتني بدائها وانسلت"؛ فإن المنخَّل قرر أن يعزف على وتر مشدود، وأن يستثير غضبًا لا ترقد ناره بين جنبي النعمان، لكن ما الوسيلة؟ وأين السبيل؟ حدّث المنخَّل نفسه أن الفرصة مقبلة لا محالة، وكلّ ما عليه أن يُنشِبَ فيها أظفاره، وأن يحسن استغلالها ليصفو له الجو كما كان سلفًا، ويبقى على المسرح ليعزف منفردًا.
وكان رومانسيًا من طراز فريد، إذا وقعت عينه على إحداهن أحبها، لا يحتاج حبه إلى مقدمات، يحب على نفسه وحيدًا أو في الطرقات والمجالس، وهو القائل (وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري). لم يقبل أن ينافسه رجل في امرأة هام بها، ولو كان هذا الرجل زوجها! ليس الأمر من ضرب التجني ولا المبالغة، بل إن المنخَّل يعتنق الأنانية حتى النخاع!
إذا نوفِس على قلب امرأة، غلت مراجل الحقد والضغينة في صدره، وعمد إلى كل سلاح مهما بدا رخيصًا ليُقصي خصمه، ولتخلو له الساحة يتبختر فيها حيث يشاء دون منازع. وسكن المنخَّل الحيرة، وتعرف إلى رجل قصير دميم الوجه يرسم على وجهه تعابير جامدة، قلما غسل عبوسه بابتسامة، يقال له النعمان بن المنذر ولقبه "أبو قابوس".
وفي الخورنق -قصر النعمان- وقعت عين المنخَّل على "المتجردة" زوجة النعمان، وكانت من أحسن بنات دهرها جمالاً ودلالاً؛ فوقعت في نفسه ووقع في نفسها، وصبّ عليها الغزل صبًّا؛ فهو وضاء الجبين مهندم يجيد الغزل والثناء، والغواني يغرهن الثناء، فضلاً عن شاعريته، والشعراء يتبعهم الغاوون؛ فاتبعته المتجردة ووافقته حتى صارت لعبته وعشيقته. أنجبت المتجردة للنعمان غلامين يشبهان المنخَّل، والعهدة على صاحب الأغاني.
الميدان واسع، والحلبة عالية يتقصدها كل من يبحث عن الشهرة والعطاء، وبلاط النعمان ليس حكرًا على المنخَّل؛ فمن مرتاديه المثقب العبدي، والأسود بن يعفر، وحاتم الطائي، وعنترة بن شداد، وحسان بن ثابت والنابغة الذبياني؛ فكان لا بد من بروز حزازات تخلقها المنافسة على الشعر أو المنافسة على المتجردة. لا يريد المنخَّل أن يُسحب بساط الشعر من تحت قدميه؛ ليحتفظ بمكانته عند أبي قابوس، وليظل في عين المتجردة الرجل الكامل بسلامته، والدنجوان الأوحد ومستر كازانوفا في الحيرة وضواحيها الكرام!
والدنيا لا تجري وفق أهواء الخلق، ومن عادتها أن تجدد ثوبها دون اكتراث بمن يتعشقونها؛ فأخرجت "من تحت طقاطيق الأرض" غريمًا شعريًا للمنخَّل في مجلس النعمان. ساقته الأقدار ليتسلم راية التأنق والتألق، ولم يجد المنخَّل بدًا من التضعضع لهذا الوافد الجديد، واستعرت نار المنافسة حتى بلغت أشدها، وقرر المنخَّل أن يطيح بأحلام المنافس الشرس، والمعاصرة حجاب.
وجريًا على قول العرب "رمتني بدائها وانسلت"؛ فإن المنخَّل قرر أن يعزف على وتر مشدود، وأن يستثير غضبًا لا ترقد ناره بين جنبي النعمان، لكن ما الوسيلة؟ وأين السبيل؟ حدّث المنخَّل نفسه أن الفرصة مقبلة لا محالة، وكلّ ما عليه أن يُنشِبَ فيها أظفاره، وأن يحسن استغلالها ليصفو له الجو كما كان سلفًا، ويبقى على المسرح ليعزف منفردًا.
وحانت اللحظة، يومها كان المنخَّل والنابغة في بلاط النعمان، ودارت بينهم الكؤوس، ودخلت المتجردة تجر أذيالها، والغني طويل الذيل مياس؛ فرآها النابغة وأصابته سهامها وتحرك شيطان شعره. لم يشأ النابغة أن يقول شيئاً في حضرة النعمان، لكن النعمان أقسم عليه أن يذكرها في شعره؛ فكان أول ما نطق به النابغة (سقط النصيف ولم تُرِدْ إسقاطَه/ فتناولته واتقتنا باليد).
لم يخبرني النابغة هل كان حياؤها طبيعيًا؟ أم أنها تصنّعت الحياء؟ ولكن ما فهمته منه أنها كانت طاغية الأنوثة؛ فالشمس تُشرِق كي تقبِّلَ خدها وتذوب في الكفين كالحناء، ولأنها لم تستخدم الميك آب ولم تدخل "بيوتي سنتر"، ولم تعرف السيليكون ولا البوتوكس، وعلى الرغم من أنها لم تستعمل منتجات بيوديرما وإيفون وأوريفليم وماك وشانيل، لكنها أسرت لبَّ النابغة ونصبها سيدة الحسن والدلال، وكانت في الأربعين.
لم يقربها النابغة ولم يتحدث إليها، كل ما جرى أن قريحته الشعرية هاجت لما رأى المتجردة، ولم يكن في حاجة لأكثر من ذلك لينثال الشعر من تحت مسامه. لم يفطن إلى أن المؤامرة ستأخذ منحى أرسطيًا، وأن المنخَّل سيخلع عباءة الشعر ويرتدي عباءة أرسطو؛ ليقول "من فمك أدينك".
ويقول النابغة الشعر يطرب النعمان، ويستمع بكل جوارحه، كما يستمع المنخَّل، وشتان بين مرادهما؛ فواحد يسمع للطرب وآخر يسمع للتصيُّد والبحث عن موطن العطب، وربك يعلم ما تكن صدورهم. وما إن يسمع المنخَّل القصيدة حتى يتمايل تمايل من ألقي به على الجمر، وينتهز السانحة؛ فيعطف على أذن النعمان قائلاً: لا يقول هذا إلا من ذاق وعرف!
في غمضة عين انقلب الخصم حكمًا، وجلس المنخَّل على كرسي القاضي، وبدهاء وخسة تمكن من اللعب في دماغ النعمان، وأصدر النعمان قراراً واجب النفاذ بالقبض على النابغة وتصفيته جسديًا؛ فنذر دمه دون نقض أو استئناف. أبلغ عصام بن شهبر الجرمي صديقه النابغة تفاصيل المكيدة؛ فقرر اللجوء السياسي عند الغساسنة، وكانوا للنعمان كالروس للأميركان.
تحت جناح الخوف خرج يتلمس السبل، وكتب أجمل قصائده والخوف يزلزل أركانه ويلاعب أركانه. مما قال النابغة استعطافًا للنعمان: (فإنك كالليل الذي هو مدركي/ وإن خلت أن المنتأى عنك واسع)، ثم جاءت معلقته الخالدة ومطلعها (يا دارَ ميَّة بالعلياء فالسند/ أقوت وطال عليها سالفُ الأمد)، وفيها بيته الرهيب (أنبئت أن أبا قابوس أوعدني/ ولا قرار على زأرٍ من الأسد)، وبلغت قصائده النعمان.
لنترك النابغة يهيم في المفازة، ويبتلعه الخوف ويمضغ أعصابه؛ ليخرج على الدنيا بأفضل أشعاره، ولنعد إلى الخورنق، ونعاين ما لحق بالمنخَّل. خلا الجو للمنخَّل وارتفع شأنه وغاب منافسوه، وبلغ وهو ابن 23 عامًا قدرًا ونفوذًا لم يدر بخلد جوزيف مكارثي ولا فلاديمير لينين.
وفي بعض الأيام، يعود النعمان إلى الخورنق على حين غفلة من أهله؛ فيضبط المنخَّل مع المتجردة في وضع منافٍ للآداب، ويعاين الجريمة بنفسه في بثٍ حي، ويسترجع شريط ذكريات قد جمَّعها من قبل دونما تحليل، وعلى الفور أوكل النعمان إلى "كعب" السجان بتعذيبه حتى الموت؛ ليذوق وبال أمره وليقع في حفرة حفرها.
اختلفت الروايات في مصير المنخَّل؛ فقيل قتله كعب، وقيل بل هرب وطعنه الفاكه بن المغيرة المخزومي في بحر القلزم (البحر الأحمر)، وألقى به في البحر، وقيل لم يُعرف مصيره حتى اليوم كما لم يُعرف مكان جثة جمال خاشقجي، وضربت العرب بجهل مصيره المثل فقالوا "لا أفعله حتى يؤوب المنخَّل".
لعلك تسأل: وما مصير المتجردة المتمردة، تلك العنود الكبرياء الجاحدة، ما صنع النعمان بها؟ استحييت أن أسأله وأجرح مشاعره، لكنه أخبرني بصفحه عن النابغة وقبول اعتذاره، وسعد النابغة بإسقاط العقوبة وعادت نسائم الود لسابق عهدها. يومًا ستظهر الحقائق وتلتمع تفاصيلها، ويجزى كل امرئ بما كسبت يداه، ولا يظلم ربك أحدا.