درس جاهلي (5)

01 يوليو 2019
+ الخط -
نشرت صحيفة "جاهلية بوست" مقالًا استقصائيًا، كتبه الصحافي المخضرم أبو الفرج الأصفهاني، وأماط اللثام عن كثير من الأمور الشائكة؛ فقد عالج المسألة الاشتراكية والإمبريالية، وهاجم الإقطاعيين والمنتفعين، سلّط الضوء على التباين الطبقي الصارخ، وندد بكلام وزير الخزانة القائل "قد يشعر المواطن بغلاء الأسعار"، وخاطبه قائلًا: يا سيادة الوزير! رماكم الله بسيف مانع الضيم!

وكان أبو الفرج يقصد عروة بن الورد العبسي، والوزير يطيق العمى ولا يطيق سيرة عروة؛ فكيف يتصالح القط والفأر؟ ارتفع ضغط الوزير عند قراءته مقال الأصفهاني، وطالبت جوقة الوزير بمنع الأصفهاني من الكتابة، واشتط بعضهم فلّوح باستضافته في القنصلية، لكن الأحداث الجارية لم تسمح بالتصعيد، وأوعزت الحكومة لصبيانها في الصحف وعلى منصات التواصل أن تشن حملة شعواء على ابن الورد.

كتب رئيس تحرير مقرّب من الحكومة "إن ابن الورد مثال سيئ للشباب العربي، روّع الآمنين في أنحاء الدولة، وتمرد على قوانين رشيدة تعمل على تقليل الفجوة بين الطبقات، وهو يحمل أجندة خارجية ويدعم الجماعات الإرهابية. يدندن على وتر الاشتراكية، ويغري البسطاء ليرموا عن قوسه، ويستميلهم بفتات غير متصل ومحاولات غير ذات جدوى، حتى إذا تمكن منهم استعملهم ليصل إلى غرضه، فهو يدعي المصلحة العامة ويضمر شرهًا للسلطة، يتوق للحصول على عضوية البرلمان، ويلوك الشعارات البراقة ليخدع الشارع".


وتصدى أبو الفرج للرد فقال: "إن رئيس التحرير الموقر يخلط ويهذي، وهو أكثر جهلًا من مدحت شلبي؛ فإن كان شلبي لا يعلم أن موريتانيا دولة عربية، وأنها بلد المليون شاعر وأهلها أهل لغة رصينة؛ فإن رئيس التحرير يعتنق مذهب (الهبدولوجي)، ويهرف بما لا يعرف"، وبعد هذه المقدمة النارية دلف الأصفهاني إلى التفاصيل فقال "إن ابن الورد رجل يرى البون الشاسع بين ساكني الدويقة ومنشية ناصر وعرب راشد والتبين والزاوية الحمراء وكفر البلاسي وعزبة الصفيح من ناحية، وبين الحي المتميز والعاصمة الإدارية والمدينة شبه الفاصلة (بالصاد عوضًا عن الضاد) من ناحية أخرى، والرجل ابن بلد يعاين ما يكابده الإنسان البسيط في طوابير الخبز (العيش لا مؤاخذة)، وفي طوابير أنابيب البوتاجاز (البمبة)، وفي سائر نشاطاته اليومية".

إن عروة -والكلام للأصفهاني- رجل مجدع وحِمِش وابن أصول، لا يقبل الضيم ولا يرتضيه، ويكره أن تستأثر طغمة فاسدة ضئيلة بثروات السواد الأعظم من الشعب، وإنه لبطلٌ لمن تبعه وسار على طريقته، وإن السابلة لتأتم بتحركاته وترتضي غاراته! ثم إنه لا يتقصد أهل الكرم الذين أفسحوا لغيرهم، ولم يتطاول على من يكفلون الفقراء، إنه يحمل على البخلاء مكتنزي الأموال، ويعتدي على أهل الجشع والاحتكار، يريد للجميع أن يعيش فكلهم أبناء وطن واحد، والوطن للجميع.

دخل على الخط صحافي يتلمس لنفسه فرصة عند رئيس التحرير، وأراد أن يناصره في سجاله الصحافي ضد الأصفهاني؛ فكتب يقول "عزيزي أبو الفرج أفندي الأصفهاني -ولعلك تلمح السخرية في قوله أفندي- لنطرح كل ما قلته جانبًا ونتحدث عن قولك (إن عروة رجل مجدع وحِمِش وابن أصول)، وأسألك: هل ابن الأصول يتنكر لأهله؟ هل ابن الأصول يتبرأ من أخواله؟ هل ابن الأصول يكره أخيه الأكبر؟ هل ابن الأصول يفرِّط في زوجته؟ هل ابن الأصول يرسي مبادئ الاشتراكية بالسلب والنهب؟ سألتك أسئلة مغلقة ليسهُل عليك الجواب بنعمٍ أو لا، وأراك تلملِّم أوراقك وتوقن بالهزيمة.

لكن أبا الفرج لم يستسلم، وكتب بالمنشيت العريض "لا تغالطوا التاريخ"، ولم يخبرني إن كان يقصد بذلك المحرر أو رئيس التحرير أم رفع خطابه لمستويات أعلى في الدولة! المهم الآن أن الرجل سيرد على (الهلهلات) التي ساقها المحرر. وكتب أبو الفرج ما مضمونه أن عروة نشأ في بيئة قبلية، والبيئة القبلية تفخر بنفسها وتفاخر غيرها، وأبوه رجل معروف في بني عبس، لكن قلب أبيه تعشق امرأة من قبيلة أخرى، ولسوء حظه أنها من قبيلة مغمورة المكانة تدعى قبيلة (نهد) من قضاعة، وشبَّ عروة بين أترابه يراهم يعايرونه بأمه، لم تكن أمه عاهرة أو مشيها شمال، لكنما سلو القبيلة أن الغريبة فيها مهملة، وأنها لا تجد من يذب عنها ويذود؛ فكانت هذه عقدة نقص تشكلت في نفس عروة مبكرًا.

يقول عروة في ذلك مخاطبًا بني عبس (أعيرتموني أن أمي نزيعة/ وهل ينجبن في القوم غير النزائع/ وما طالبُ الأوتار إلا ابن حرةٍ/ طويل نجاد السيف عاري الأشاجع)؛ ونفهم منه أنه لا يتبرم بأمه أو يكرهها بحال، إنما يؤلمه ما تلوكه ألسنة بني عمومته، وهو منهم بأحوج إلى غيره، ثم هو يقول في مناسبة أخرى (هم عيروني أن أمي غريبةً/ وهل في كريمٍ ماجدٍ ما يُعيَّرُ)، ونلمح من ذلك أنه معتدٌ بنفسه لا يعاني اضطرابًا نفسيًا ولا عصبيًا، ولكن الطباع تختلف وتتباين، وغلبت على بني نهد طباع الجبن والخور؛ فهو يقر ذلك ولا يكابر فيقول (ما بي من عارٍ إخال علمته/ سوى أن أخوالي إذ نُسبوا نهدُ).

ثم إن أباه -على ارتفاع مكانته في القبيلة- كان منبوذًا في بني عبس، وكانوا يرمونه بالشؤم وكأنه غداف (غرابٌ أسحمٌ ضخمٌ كبيرُ الجناحين) البين ونذير السوء، ومرد ذلك أنه جرَّ على عبس حرب داحس والغبراء، بعد أن راهن حذيفة بن بدر الفزاري في حلبة الخيل، ولم يمتثل رأي قيس بن زهير؛ فكانت عبس تهمِّشه وتتحاشى ذكره أو استضافته في الفضائيات، وعاش الرجل ما بقي له من عمره منزويًا عن القبيلة؛ فانعكس ذلك على عروة بدرجة لا تنكر. يلوم عروة والده على مصاهرة نهد من بين قبائل العرب؛ فيقول (لا تلم شيخي فما أدرى به/ غير أن شارك نهدًا في النسب/ كان في قيسٍ حسيبًا ماجدًا/ فأتت نهدٌ على ذاك الحسب).

ينضاف إلى ذلك ما يدور في الخيمة الواحدة والبيت الواحد؛ فإن والده كان يفضِّل عليه أخاه الأسن منه، ولما عوتب في ذلك وقيل له "أتؤثر الأكبر مع غناه عنك على الأصغر مع ضعفه؟" أجابهم دونما تردد "أترون هذا الأصغر لئن بقي مع ما أرى من شدة نفسه؛ ليصيرن الأكبر عيالًا عليه". وقد تشاكس الأخوان يومًا فقال عروة لأخيه (أتهزأ مني أن سمنتَ وقد ترى/ بجسمي مس الحق والحق جاهد/ إني امرؤ عافي إنائي شركة/ وأنت امرؤ عافي إنائك واحد/ أقسِّمُ جسمي في جسومٍ كثيرةٍ/ وأحسو قَراحَ الماء والماءُ بارد).

يواصل أبو الفرج الرد على (هلهلات) محرر الحكومة، ويفند ما ذهب إليه بشكل تسلسلي لا يغيب عنه المنطق، ويصل إلى الحديث عن تفريط عروة في زوجته؛ فيقول دونما مواربة "نحن لا نقول بعصمة الناس، بينما أنتم تقولون بعصمة السيد الرئيس، ليس شرطًا أن يكون رئيس الدولة أو المملكة أو المنهبة، بل إنكم تطبلون لعصمة الرئيس وإن كان رئيس الطباخين أو الطبالين أو الحشاشين أو رئيس الحي أو مشرف مجموعة واتس آب، نحن لا نقر ذلك لأنفسنا ولا لغيرنا، وأنا -وأرجوك أن تتذكر أن المتحدث أبو الفرج الأصفهاني- لا أقر لعروة بما بدر منه في هذه الواقعة.

وموجز الأمر أن عروة نزل على بني النضير، وكانت معه امرأته وهي من كنانة -والأرجح أنها غير زوجته سلمى الكنانية وسيأتي الحديث عنها- أو بالأحرى إحدى زوجاته فشرب الخمر حتى غاب عن الدنيا، وقد وقعت في نفوسهم فاستوهبوها منه؛ فوهبها لهم وأشهدوا عليه، ولمَّا أصبح وصحا ندم وقال "سقوني الخمر ثم تكتفوني". الخمر أمُّ الخبائث، وهذه سقطة في تاريخ عروة، لكن لكل امرئ سقطة أو هفوة، وأيُّ النَّاس تصفو مشاربه؟!

ويكشر أبو الفرج عن نابه فيقول "لا يتوهمن أحدكم أنني لم أفطن لمراده؛ فقد أطلتم النفس في الحديث عن سيرة عروة الشخصية وحياته الخاصة، بينما كان مرادنا أن نفصِّل للرأي العام مواقفه الاجتماعية ونشاطاته الخيرية والسياسية، لكننا من باب التنزُّل سايرناكم في توجهكم، وسددنا عليكم باب استلاب الرجل قدره، وقبل أن نتحدث عن الجانب الذي ترهبونه، إنَّا لطارقوه بعد قليل، لكن يتعين علينا الإشارة إلى شهادة زوجاته فيه؛ فذلك يدخل في نطاق دعواكم التي عرضتموها، ولم يغب عني سؤال صاحبكم الأخير: هل ابن الأصول يرسي مبادئ الاشتراكية بالسلب والنهب؟ فسأُفرد لها مساحة تشفي العليل وتسقي الغليل.

تزوج عروة أكثر من مرة، وأقربهن إلى قلبه سلمى الكنانية، ويصغّرها تدليلًا وتحبُّبًا سُليمى، ويخلع عليها غير كنية كأمّ حسان، وأمّ مالك، وأمّ وهب، ولها في ديوانه مساحة تنم على مكانتها عنده وقربها من قلبه، ولها يقول (أقلي عليَّ اللوم يا ابنة منذر/ ونامي وإن لم تشتهِ النوم فاسهري)، وتمثل صوت العقل والرشد في ديوانه، وهي تخاف عليه الخروج والقتال والغزو والسطو، لكنه يقنعها تارة ويخوفها عاقبة قعوده أخرى.

ولمَّا كانت غريبة في بني عبس -كحال أمه- فقد ضاق صدرها بما تسمعه من بنات عبس من تعريض وتوبيخ، وتذكيرها كل حين بأنها سبية وأمة لا مكان لها بين الحرائر؛ فقررت أن تعود إلى أهلها وتضحي بزوجها وأبنائها، وانتصرت لكرامتها على قلبها، واحتالت لنفسها حتى زارت أهلها، وهناك صارحت عروة بقرارها، لكنها في الوقت ذاته أنصفته بين أهلها، وسيأتي تفصيل ذلك في الجزء السادس من هذه السلسلة، حتى ذلك الحين نأمل أن يُسمح لمحامي عروة بن الورد بزيارته، وألا يُمنع عنه الدواء والتريُّض.

بعد هذه الكلمات، أمطرت كتائب النظام بسبابها وصراخها عمنا أبا الفرج الأصفهاني، والرجل على موقفه لا يتزحزح، وستكشف لنا الساعات المقبلة الكثير مما تعرض له عروة وأبو الفرج!