يظهر حضور ستيفن هوكينغ (1942) اللافت في عالم هذه الأيام طاغياً على شعور الحنين الملحّ إلى زمن العلماء المؤسسين؛ زمن أينشتاين وإسحاق نيوتن وماري كوري وريتشارد فاينمان وغيرهم. إنه حضور فرضه، وبإبهار شديد، عالِم الفيزياء النظرية وصاحب نظريات علم الكون والثقوب السوداء والديناميكية الحرارية.
ففي الوقت الذي منحه الأطباء فرصة الحياة لعامين إضافيين فقط عقب إصابته بمرض التصلّب الجانبي الضموري في الثانية والعشرين من عمره، ها هو يدخل بوابة العام الرابع والسبعين (هذه الأيام)، مجهزاً على العبارة المستهلكة "العقل السليم في الجسم السليم" بالضربة القاضية.
وفي الوقت الذي لا يخفي صاحب نظرية "التسلسل الزمني للكون" حبّه للشخصية الأسطورية "سوبرمان" فيقول عنه "إنه الشخص الذي يستطيع القيام بما نعجز عن فعله" لا يبدو، هو، أسيراً لفكرة تحديات الإعاقة الجسدية، التي أجهزت على صوته بالكامل، إذ إن انشغاله بتقديم إجابات جديدة على أسئلة الكون العظمى وعلى مدار أكثر من خمسين عاماً، كانت كافية، على ما يبدو، لتعلن انتصار إرادة العقل على تحديات الجسد وإكراهاته التي كادت تودي بحياته في أكثر من منعطف صحي من سنوات عمره.
يقول في إحدى أشهر مقابلاته: "الجانب المظلم من كوني واحداً من المشاهير، هو في أنني لا أستطيع الذهاب إلى أي مكان متخفياً؛ النظارة الشمسية السوداء والشعر المستعار ليس كافياً، طالما أنني أتحرك على كرسيّ متحرّك مثل هذا".
في كتابه "تاريخ موجز للزمن" (1988)، يذهب هوكينغ إلى تقديم تفسيرات للأسئلة المؤسسة في الفيزياء والكون لغير المتخصّصين بها، في نبشٍ اتجه صوب الإجابة على سؤال: هل سيذهب هذا الوجود إلى نهايته؟ وكيف؟
وهو الأمر ذاته الذي درج عليها في كتابه اللاحق "تاريخ أكثر إيجازاً للزمن" (2006) من خلال معالجة قضايا أكثر تعقيداً كالمدخل إلى الفيزياء الموحّدة التي تشتمل على كل عناصر القوة غير المغناطيسية في الطبيعة في حين أصر على تخصيص كتابه "التصميم العظيم للكون" (2010) للتعامل مع أكثر الأسئلة التي تشغل الفرد العادي حول الكون والوجود والطبيعة، أسئلة تذهب في معظمها حول: متى بدأ الكون؟ لماذا نحن هنا؟ ما هي طبيعة الواقع؟ كيف وُضِع هذا النسق الكوني؟
تتعاظم تخوّفات صاحب "الانفجار العظيم والثقوب السوداء" (1993) من سيطرة العقل الآلي والآلات الذكية (الروبوت) على عالم اليوم كثيراً، معتبراً إياها تهديداً جدياً محدقاً بالوجود البشري (إنها لا تستولي على وظائفنا فحسب، إنها تجعل من مجتمعاتنا، مجتمعات غير متساوية).
هكذا ينحاز هوكينغ وبشكل صريح إلى العقل البشري الخالص، الذي ومن خلال تطوره وعلوّه يصبح شيئاً فشيئاً أكثر تمدناً وحضارة، دعا في أكثر من محاضرة إلى ضرورة انطلاق الاكتشافات إلى الفضاء، معتبراً هذا المجال هو السبيل الوحيد لحماية البشرية من أخطار كثيرة، على رأسها الفناء.
يبدأ مؤلف "نظرية كل شيء" (2002) حديثه بصوت روبوتي معدني منطلقاً من أجهزة التنبؤ الصوتي باستخدام حركة عضلات الخد والحبال الصوتية بالقول: "هل تسمعونني بوضوح؟"، ثم يواصل: "هنالك بعض الحقائق العلمية تبدو أكثر غرابة وجنوناً من الخيال".
وبشغفٍ محمول على روح الاكتشاف والمراقبة، واصل سعيه لتقديم إجابات حول أكثر قضايا الكون إرباكاً لمجايليه وسابقيه من العلماء حول أسرار الفضاء والكون الفسيح، وعلى رأسها الثقوب السوداء. يقول "إذا وقعت في واحد من تلك الثقوب السوداء، لا تيأس، هنالك دائماً مخرج، صحيح أنني متحمس لفكرة الرحلة هذه، لكنني لن أخوض تلك التجربة".
يضيف: "إن الثقوب السوداء ليست سوداء كما درج الحديث عنها علمياً لوقت طويل، إنها بوابة دخول إلى تاريخ جديد، أو إلى مجرة جديدة، لكن البوابة هذه باتجاه واحد؛ إذا ذهبت إلى هناك فلن تتمكن من العودة إلى هذا العالم أبداً".
وفي الوقت الذي يعتبر فيه هوكينغ أعظم عالم فيزياء إلى جانب ألبرت أينشتاين في القرن العشرين، على الأقل من زاوية جرأة الأسئلة الكونية التي يطرحانها، إلا أنه لم ينل جائزة نوبل في الفيزياء، على أي من أعماله ونظرياته (كون هذه الأعمال لم تخضع لتحقّق علمي) وإن كان قد حظي بجوائز وتكريمات أخرى رفيعة.
لم تتوقف انشغالات هوكينغ عند حدود الفيزياء النظرية وهواجس فك ألغاز الكون، بل تعدتها إلى مواقف لافتة في السياسة والتاريخ، ولعل أبرزها إعلانه الشهير بمقاطعة "إسرائيل" والامتناع عن المشاركة في مؤتمر أقيم على شرف رئيس دولة الاحتلال والذي سبقته زيارة العالم البريطاني لواحدة من الجامعات الفلسطينية.
موقفه ذاك، جاء منسجماً مع قرار الأكاديميين البريطانيين القاضي بالمقاطعة الأكاديمية لجامعات "إسرائيل"، بالإضافة إلى إعلانه صراحة أن الحرب على العراق كانت بمثابة جريمة.
اقرأ أيضاً: ستيفن هوكينغ: قصة عالم داخلي