سورية والضمائر الجمعية المدمّرة

14 اغسطس 2018
+ الخط -
إذا كان ما يميز الكائن البشري هو العقل والإدراك، أي الوعي، فكيف يمكن النظر إلى وعي الشعوب التي اشتعلت فيها الحروب المدمّرة، مثل الشعب السوري؟
لقد أدّت الحرب والضخّ الإعلامي الموجّه، والمدجّج بالعقائد والتضليل، إلى تشظّي الوعي الجمعي الذي أظهرت المحنة التي تمر بها سورية أنه وعي مهلهل، تداعى باكرًا منذ أول خطابٍ أضرم فتيل الطائفية، حتى قبل أن يستشري العنف في الساحات، ومن يتابع التفاصيل، لا بد أن يرى انعكاس تلك الظاهرة في التفاصيل اليومية لسلوك الأفراد، ابتداء من تحصين البيوت بأبواب الحديد وأقفاص الحديد، تخوفًا من الآخر الذي كان هناك تاريخ وماض مشترك معه، بحكم الجيرة الطويلة. وإلى قهر الوعي الفردي، بدافع الخوف الذي يجعل الفرد يلوذ بالجماعة، ويتنازل عن ضميره لصالح الضمير الجمعي، مؤجلاً النظر في هذا الضمير، أو انتقاده إلى وقت آخر، بحجة أن ليس وقته الآن، فالآن مرصودٌ للقضية الأكبر باستمرار، القضية التي تكثّفت في فكرة ما يتبنّاها الضمير الخاص بالجماعة، القضية التي أخذت مسمياتٍ وعناوين متباينة لدى الجماعات التي يتشكّل منها الشعب، من قضايا دينية وطائفية، وهي الأكثر توهجًا، إلى القومية التي تأزّم الصراع حولها إلى مستوياتٍ خطيرة أيضًا.
في مجتمعٍ تسوده الثقافة التسلطية، والموروث الديني والاجتماعي القائم على طمس الفردية، وتضخيم المعايير التي تقوم عليها المنظومة القيمية التي تخدم النزعة التسلطية، لا يمكن أن يكون هناك وعي فردي، ولا وعي جمعي مزدهران، بل هناك تجانس ثقافي مفروض بالقوة التي تمارس بأشكال مختلفة، تؤدي بالنتيجة إلى شكل من التنظيم، يقوم على أساس القطيعية المحكومة من أنظمةٍ مستبدّة، تحكم بالقوة، وليس للشعب أو للمحكومين مساهمة في صنع القرار والتخطيط للمستقبل. 
يخفي هذا الضمير الجمعي المفروض بالقوة، تحت سطحه، منظوماتٍ أخرى من القيم والوعي الخاص بالجماعات الدينية أو الطائفية أو الإثنية الموجودة في المجتمع، والتي قُمعت هويتها الخاصة، وفي الوقت نفسه كُرّس إحساسها بالمظلومية، بطريقةٍ ممنهجةٍ بممارسات قوانين الظل، أو النظام العميق المتحكّم بمفاصل الدولة والمجتمع، والذي يخدم القوى السلطوية المتحالفة التي تملك زمام الحياة.
تبيّن أن هناك وعيًا جمعيًا تحت سطح الثقافة السلطوية القسرية، يخص الجماعات والشرائح المختلفة في سورية، وكل هذه الأشكال من الوعي تشبه النمط الشامل الذي ترسّخ خلال العقود، وربما القرون، فكان هناك خوفٌ عام من التغيير، كما شأن الشعوب التي حُكمت بالقوة، ولم تمنح مساحة من حرية التفكير والتعبير والمساهمة في ابتكار حياتها وقيمها. وهذا ما عبرت عنه شريحة كبيرة من الشعب السوري "كنّا عايشين"، أو "هذه هي الحرية التي تريدونها؟" أو نحن ندافع عن كياننا بوصفنا طائفةً مستهدفة، أو طائفة مسلوب حقها في المقابل"، فقد كانت فكرة التغيير مرعبةً بالنسبة إلى عموم الناس، غافلين عن أن الاستقرار الذي كانوا ينعمون به ليس أكثر من حالة استنقاع، تتعارض مع ازدهار الحياة. لذلك كان اللوْذ بجسد الجماعة أمرًا بديهيًا، كسلوك يصدر عن غالبية الشعب، وليست المشكلة هي بتخاذل الأقليات، وعدم التحاقها بالحراك الشعبي، خصوصا الطائفة العلوية التي نالها ما نالها من الشيطنة من شريحةٍ من الملتحقين بالثورة، والتي لا تختلف، في الواقع، في نخبها وممثليها وطروحاتها وسلوكها عن النظام القمعي الذي ترعرعت في ظله، ونهلت من ثقافته. وبالتالي يتحكّم بنشاطها وعي جمعي مماثل، يقوم على العنف والتطرّف تجاه الآخر الذي تقاتل ضده.
بعد ثماني سنوات دامية، ما الذي تغير؟ لا بد من طرح السؤال، ورصد الواقع بأدق تفاصيله، ومواكبة التمظهرات منذ البداية، بتحولاتها، للوصول إلى قاعدة بيانات تصلح للبناء من أجل المستقبل.
لقد أظهرت السنوات الماضية أن هناك وعيًا مهلهلاً متهتّكًا، قياسًا بمفاهيم الحداثة، وأسس قيام الدول الحديثة، واستمرارها وتطورها، وأن ما كان سائدًا من تعريف للدولة السورية بأنها محكومة بنظام سياسي علماني، وتدير مجتمعًا علمانيًا، لم يكن أكثر من وهم وسراب وادّعاء 
مضلّل. لا أنسى الدهشة حد الذهول، عندما علمت بعض الصديقات اللبنانيات في أثناء جلسة جمعتنا في بيروت أن ليس هناك زواج مدني في سورية، وأن التزاوج بين الطوائف مشكلة كبيرة، ينمّيها العرف والقانون والتوجه الثقافي العام، المفروض بسلطة جبارة متغلغلة في المجتمع، كان هذا في العام الثاني للحراك في سورية، وكان السؤال بصيغته الاستنكارية مربكًا لي: معقول في سورية، البلد العلماني، الوضع هكذا؟
ليس هذا فحسب، بل في سورية العلمانيّة، كما يطرح نفسه نظامها السياسي والحزب القائد الوحيد للدولة والمجتمع، كان الضمير الشخصي يُصاغ ويكبر وينمو في الظل، تحت خيمة العلمانية، ليتمثل قيم القبيلة أو العشيرة أو الطائفة ومبادئها، عن طريق قمع الفردية والحريات والتعبير، كما في المجتمعات التقليدية البدائية، القائمة على العائلة والعشيرة أو العلاقات القبلية، حيث يلعب الدين دوراً مهما في توحيد الأفراد من خلال إيجاد ضمير مشترك بين جميع الأفراد في الجماعة نفسها، وهذا يخلق تضامنًا اجتماعيًا أكثر ما يُعبر عنه في أوقات التحولات الكبرى المرعبة بالنسبة إلى الهويات، المتشكلة تاريخيًا على هذه الأسس الدينية أو الطائفية او الإثنية.
ليس هذا هو الشكل الوحيد الذي تجلى فيه واقع الضمير الجمعي المتهتّك، والمنسوخ عنه ضمائر أخرى، تستقطب جماعاتٍ متباينة، تزدهر وتزداد سطوتها في أوقات الأزمات كالأزمة السورية، بل هناك تكتّلات نخبوية، نمت في ظل الحراك أو على هامشه، أو في متنه، ومارست سلوكًا مدفوعًا بضميرٍ مشابه، يمكن أن نلمسها بوضوح على صفحات التواصل، حيث تشكلت شللٌ متكاتفة منسجمة متراصة، على أساس بند عريض "مع الثورة أم ضدها"، وتلك الشلل هي من يضع المعايير، ويصنّف الأفراد بين وطني أو غير وطني.
يكفي أن يكون الفرد بارعًا في سبّ النظام وشتمه، كي يكون ثوريًا. ويكفي في المقابل للفرد أن يؤيد الحراك، أو يقرّ بشرعية انتفاضة الشعب السوري، ليكون في المقلب الآخر إرهابيًا مدفوعًا مسبقًا من أجل المؤامرة الكبرى الرامية إلى تدمير سورية نظامًا وشعبًا، ولا بد من إشهار الانتماء إلى ذلك الجسد، عند كل مناسبةٍ أو تذكير الفرد بنفسه، مثل من يؤدّي التحية الخاصة، أو كلمة السر أو شعار الحزب. هناك بعض ممن كانت حساباتهم مغلقةً على صفحات التواصل فتحوها عند موت الفنانة مي اسكاف، ليسجلوا موقفًا فقط، ويؤدوا طقسًا من طقوس الجماعة، من الطرفين، بين ناعٍ لها وشاتم للنظام، وبين شامت بموتها ولاعن كل من يترحّم عليها بوصفه إرهابيًا، ثم أغلقوا حساباتهم، بعد أن أعلنوا الولاء وارتاحوا.
لا بدّ من الاعتراف، انطلاقًا من مآلات الحراك السوري، وما وصل إليه الحال، بأن هناك ضميرًا جمعيًا راسخًا لدى مجموع الشعب السوري، تقوم أساساتُه على الموروث الذي يكتسب خصوصيةً تميّزه لدى كل جماعة دينية أو مذهبية أو قومية، وأن هذا الضمير المتهالك المعيق لعملية البناء لا بدّ من هدمه، وهدم مسلمات وبديهيات كثيرة بني عليها الوعي السابق، والعمل على تحرير الضمير الفردي منها. حتى اليوم لم نلمس الجرأة على تحرير الوعي الفردي، إلاّ بنسبة قليلة، وإذا كان البناء القادم أو الموعود سيقوم على ما كان راسخا قبل الحراك، فالكارثة ستبلغ منتهاها بأشدّ درجات الانحطاط والانهيار.

دلالات