كان مصطفى، المراهق الخشن، يصرخ بأعلى صوته في منور البناية عند عودة التيار الكهربائي. فعودة التيار لا تعني التمتع بنعمة الكهرباء فحسب، بل أيضاً تمكّن الجيران من الحصول على مياه الاستخدام. ذلك أن بئر المياه في البناية تعتمد على محطة السحب من أجل إيصال المياه إلى الخزانات.
وصوت مصطفى، الذي كان أكثر غلاظة من جرس المدرسة، هو الإشارة للجيران كي يتسابقوا إلى منور البناية، ليحجز كلّ منهم دوراً له في خرطوم المياه. وهذا الخرطوم سيدور على كلّ واحد منهم بمعدل ربع ساعة لا أكثر. لأن التيّار الذي عاد للتو، لن يدوم أكثر من ثلاث ساعات. فالزمن حرب، والفيول قليل، والفساد في مؤسسة كهرباء لبنان مستشر.
هذا كان بالنسبة لمياه الخدمة، أما مياه الشرب فكانت تصل مرّة واحدة في الأسبوع، لكن ضغطها المنخفض لم يسمح يوماً بوصولها إلى طوابق البناية. على الجيران إذاً أن يصطفوا في المنور الضيّق، قرب "عيارات" المياه، مع غالوناتهم، بملابس النوم غالباً، كلّ بدوره، بحثاً عن مياه الشرب. وقد تحدث مشادّة بين جارين أحياناً على خلفية الأفضلية في الدور، لكن الجيران "العقلاء" يسارعون إلى حلّها، حتى لا تذهب الأمور نحو ما لا تحمد عقباه، في زمن سيطرت عليه الفوضى.
انتهت الحرب الأهلية. عادت الكهرباء إلى بيروت وحدها دون سائر المناطق التي حافظت على تقنين منتظم. خرجت أصوات طالبت بما أسمته "العدالة بين المناطق". لماذا تخصّص بيروت بالكهرباء طوال الوقت دون غيرها من المدن والبلدات؟ هل يكفي أن تكون العاصمة ومركز الخدمات كي يجري تمييزها؟ ولأننا بلاد تؤمن بالعدالة بين مواطنيها، اتخذت الحكومة قراراً بعودة التقنين إلى بيروت ثلاث ساعات يومياً، على أن يكون ذلك خلال النهار فقط، "كي لا يشعر اللبنانيون بالتمييز فيما بينهم".
كان هذا "حلّ" الحكومة لإيجاد نوع من المساواة بين العاصمة وبين بقية المناطق. انتهت الحرب لكن التقنين لم ينته. لا الماء عادت كما ينبغي ولا الكهرباء كذلك. خدمتان وحقّان رقّيا إلى منزلة "النعمة" في هذا البلد الذي كفر به أبناؤه. يبدو أنه ليس مكتوباً على اللبنانيين أن يتمتعوا بهاتين الخدمتين ولا بغيرهما من الخدمات. الناس العاديون منهم على الأقل. جاءت أجيال وراحت أجيال، وستأتي أجيال أخرى، ولن يتغيّر شيء في هذا الواقع التافه. كبر مصطفى وصار رجلاً، ثم تزوج وصار أباً وغادر البناية. وساعات التقنين الثلاث صارت ست ساعات أو أكثر. أمّا صوت مصطفى فما زال غليظاً كما كان من قبل، وربما أكثر. وسيحضر صوته في خلفية المشهد كلما عاد التيار الكهربائي.
وصوت مصطفى، الذي كان أكثر غلاظة من جرس المدرسة، هو الإشارة للجيران كي يتسابقوا إلى منور البناية، ليحجز كلّ منهم دوراً له في خرطوم المياه. وهذا الخرطوم سيدور على كلّ واحد منهم بمعدل ربع ساعة لا أكثر. لأن التيّار الذي عاد للتو، لن يدوم أكثر من ثلاث ساعات. فالزمن حرب، والفيول قليل، والفساد في مؤسسة كهرباء لبنان مستشر.
هذا كان بالنسبة لمياه الخدمة، أما مياه الشرب فكانت تصل مرّة واحدة في الأسبوع، لكن ضغطها المنخفض لم يسمح يوماً بوصولها إلى طوابق البناية. على الجيران إذاً أن يصطفوا في المنور الضيّق، قرب "عيارات" المياه، مع غالوناتهم، بملابس النوم غالباً، كلّ بدوره، بحثاً عن مياه الشرب. وقد تحدث مشادّة بين جارين أحياناً على خلفية الأفضلية في الدور، لكن الجيران "العقلاء" يسارعون إلى حلّها، حتى لا تذهب الأمور نحو ما لا تحمد عقباه، في زمن سيطرت عليه الفوضى.
انتهت الحرب الأهلية. عادت الكهرباء إلى بيروت وحدها دون سائر المناطق التي حافظت على تقنين منتظم. خرجت أصوات طالبت بما أسمته "العدالة بين المناطق". لماذا تخصّص بيروت بالكهرباء طوال الوقت دون غيرها من المدن والبلدات؟ هل يكفي أن تكون العاصمة ومركز الخدمات كي يجري تمييزها؟ ولأننا بلاد تؤمن بالعدالة بين مواطنيها، اتخذت الحكومة قراراً بعودة التقنين إلى بيروت ثلاث ساعات يومياً، على أن يكون ذلك خلال النهار فقط، "كي لا يشعر اللبنانيون بالتمييز فيما بينهم".
كان هذا "حلّ" الحكومة لإيجاد نوع من المساواة بين العاصمة وبين بقية المناطق. انتهت الحرب لكن التقنين لم ينته. لا الماء عادت كما ينبغي ولا الكهرباء كذلك. خدمتان وحقّان رقّيا إلى منزلة "النعمة" في هذا البلد الذي كفر به أبناؤه. يبدو أنه ليس مكتوباً على اللبنانيين أن يتمتعوا بهاتين الخدمتين ولا بغيرهما من الخدمات. الناس العاديون منهم على الأقل. جاءت أجيال وراحت أجيال، وستأتي أجيال أخرى، ولن يتغيّر شيء في هذا الواقع التافه. كبر مصطفى وصار رجلاً، ثم تزوج وصار أباً وغادر البناية. وساعات التقنين الثلاث صارت ست ساعات أو أكثر. أمّا صوت مصطفى فما زال غليظاً كما كان من قبل، وربما أكثر. وسيحضر صوته في خلفية المشهد كلما عاد التيار الكهربائي.