07 اغسطس 2024
في أجواء الانتخابات البرلمانية البريطانية
بغض النظر عن هوية الحزب الفائز في الانتخابات البرلمانية البريطانية، والتي تنتظم اليوم الخميس (12 ديسمبر/ كانون الأول)، لن يتمكّن الفائز من إيجاد حلولٍ سريعةٍ لأكبر مشكلتين تعصفان بالحياة السياسية البريطانية خلال السنوات الأخيرة، تراجع العدالة الاقتصادية وضعف التمثيل السياسي.
تمتلك بريطانيا خامس أكبر اقتصاد في العالم، ولكنها خامس أسوأ دولة أوروبية في مستويات العدالة الاقتصادية، حيث يحتكر أغنى 1% من البريطانيين 14% من ثروة البلاد، كما يحتكر 10% من السكان 44% من الثروة. في حين يعيش 14 مليون بريطاني تحت خط الفقر بعد دفع تكاليف السكن. وهي ظاهرةٌ تعاني منها بريطانيا بشكل متزايد منذ أواخر السبعينيات، فمنذ عام 1979 وحتى عام 2012، ذهب 10% فقط من نمو الدخل البريطاني لمصلحة نصف السكان الأفقر، مع العلم أن الثلث الأفقر لم يحصل على شيء من الزيادة. في حين حصل 10% من السكان الأكثر ثراء على 40% منها، وفقا لإحصاءات مركز أبحاث السياسة العامة البريطاني.
ويزيد من صعوبة الأمر تركز الإنفاق الحكومي والثراء في مناطق معينة، حيث يبلغ متوسط
الإنفاق الحكومي على الشؤون الاقتصادية في لندن 1200 جنيه إسترليني سنويا لكل فرد، في حين ينخفض ذلك الإنفاق للنصف بالنسبة للمواطنين المقيمين في شمال إنكلترا ووسطها. ولذا تعد لندن الأكثر ثراء في شمال أوروبا، في حين تمتلك بريطانيا ستةً من أكثر المناطق الفقيرة في أوروبا، وتوجد تلك المناطق بالأساس في إنكلترا في مناطق الشمال الشرقي والوسط والجنوب الغربي. وبالطبع، تفاقمت تلك المشكلات الاقتصادية منذ الأزمة الاقتصادية (2008)، والتي دفعت الحكومة البريطانية إلى تطبيق سياسات تقشّف صارمة، وتقليص الإنفاق على الخدمات المختلفة.
ويعمق غضب الناخبين الإنكليز (82% من إجمالي الناخبين البريطانيين) شعورهم بضعف تمثيلهم السياسي، بسبب عدم وجود برلمان أو جمعية تشريعية تمثلهم، وتوحد كلمتهم في مواجهة الأعراق الثلاثة الأخرى المكونة لبريطانيا (الاسكتلنديين والويلزيين والأيرلنديين الشماليين)، فمنذ التسعينيات، وبريطانيا تتوجه تدريجيا نحو اللامركزية، ما دفعها إلى منح اسكتلندا برلمانا، ومنح ويلز جمعية تشريعية، ومنح بعض المدن الكبيرة، كلندن، عمدة أو جمعية تشريعية. ولكنها رفضت منح إنكلترا برلمانا على غرار اسكتلندا، على اعتبار أن البرلمان البريطاني نفسه يقع في وستمينستر في لندن، عاصمة إنكلترا وبريطانيا معا.
ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية الدولية وتبعاتها، بدأ المواطنون الإنكليز منح أصواتهم بشكل متزايد لحزب الاستقلال الذي ركز على قضايا الهوية الوطنية، وعلى رفض الهجرة والمطالبة بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي. ولكن بسبب نظام الانتخابات القائم، فشل الحزب في ترجمة شعبيته إلى مقاعد في البرلمان البريطاني، لأنه نظام يقوم على النظام الفردي، ويسمح للمرشحين بالفوز من الجولة الأولى، إذا حصلوا على أكبر نسبة من الأصوات، وإن لم يحصلوا على الأغلبية (50%+1). لذا في انتخابات عام 2015 البرلمانية حصل حزب الاستقلال على 3.8 ملايين صوت (12.6% من إجمالي الأصوات)، ومع ذلك لم يحصل إلا على مقعد واحد من مقاعد مجلس النواب الـ650.
وقد مثّل شعور الناخبين الانكليز بعدم المساواة الاقتصادية، وبضعف التمثيل السياسي، دافعا أساسيا وراء تصويت البريطانيين بأغلبية ضعيفة (51.9%) في يونيو/ حزيران 2016 للخروج من الاتحاد الأوروبي، والذي بات القضية الأهم في بريطانيا، وأدى ذلك إلى استقالة رئيس الوزراء البريطاني، دايفيد كاميرون، ثم خليفته تيريزا ماي. ودفع حزب المحافظين الحاكم إلى الدعوة إلى انتخابات برلمانية في يونيو/ حزيران 2017، ثم في ديسمبر/ كانون الأول الحالي (2019)، في محاولة للحصول على أغلبية برلمانية تمكّنه من تمرير خطته للخروج من الاتحاد الأوروبي.
ويأمل رئيس الوزراء البريطاني الحالي، بوريس جونسون، في أن يفوز حزبه (المحافظون)
بأغلبية واضحة في الانتخابات الراهنة، لكي يتمكّن من الخروج من الاتحاد الأوروبي في نهاية الشهر المقبل (يناير/ كانون الثاني) كما أعلن في برنامجه الانتخابي. وهو يواجه عدة تحديات رئيسية، أولها أن استطلاعات الرأي تفيد بتقدمه بنسبة 6% - 10% من أصوات الناخبين على حزب العمال البريطاني، وهي نسبةٌ قد لا تضمن حصوله على الأغلبية التي يريدها. ثانيا، في حالة فوز المحافظين بأغلبية مريحة، وتمريرهم اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي في أواخر يناير/ كانون الثاني 2020، فسوف يتعين عليهم الدخول في مفاوضات إضافية وطويلة مع الاتحاد الأوروبي، للاتفاق على طبيعة العلاقات التجارية والأمنية والقانونية التي ستربط الطرفين. ويعد جونسون بالانتهاء من تلك الاتفاقيات (خاصة التجارية منها) قبل نهاية العام المقبل وفقا لما تقتضيه الفترة الانتقالية المحدّدة في طلب الخروج من الاتحاد الأوروبي المقدم في مارس/ آذار 2017، وهو ما يراه كثيرون مستحيلا. وهذا يعني أن الموافقة على اتفاقية الخروج من الاتحاد الأوروبي مجرد بداية لطريق طويل من المفاوضات حول طبيعة العلاقة المستقبلية. ثالثا: تتضمن اتفاقية الخروج من الاتحاد الأوروبي التي يحاول جونسون تمريرها وضع حدود جمركية بين الجزيرة البريطانية وشمال أيرلندا، كما يرفض الاسكتلنديون الخروج من الاتحاد الأوروبي أصلا. ويخشى كثيرون من أن يؤدي تمرير الاتفاقية التي وضعها جونسون إلى تهديد وحدة المملكة المتحدة من خلال إشعال النزعات الانفصالية في أيرلندا الشمالية واسكتلندا. وبهذا يكون انهيار الوحدة البريطانية نفسها وتفكك المملكة المتحدة الثمن الذي سيقدّمه حزب المحافظين في مساعيه إلى إرضاء ناخبيه (الانكليز بالأساس).
أما حزب العمال، فيدخل الانتخابات ببرنامج انتخابي يميل بوضوح إلى اليسار من خلال الدعوة إلى زيادة الضرائب على أصحاب الدخول المرتفعة (أكثر من 80 ألف جنيه إسترليني سنويا)، وإلى تأميم مرافق أساسية، كبعض شركات الطاقة والكهرباء والسكك الحديدية، كما يطالب بالتخلي عن سياسات التقشف والإنفاق بسخاء على برامج مختلفة، كالتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية. ولكن برنامج الحزب يخيف كثيرين، خصوصا من فئة رجال الأعمال والطبقات الثرية الذين
يدعمون حزب المحافظين، ويتبرعون له بسخاء (ستة أضعاف التبرّعات لحزب العمال خلال الحملة الانتخابية الراهنة). ويخشى هؤلاء من أن وصول حزب العمال، برئيسه جيرمي كوربن، إلى الحكم سوف يؤدي إلى استهداف الأثرياء وهروب رؤوس الأموال الأجنبية، والعودة إلى تأميم الشركات والأفكار الاشتراكية. كما يخشى أنصار للحزب من أنه لن يستطيع توفير كل الأموال التي يريد تقديمها للفقراء في حال وصوله إلى الحكم، ومن أن الحزب يبالغ في وعوده الانتخابية. كما تخشى نخب محافظة من أن وصول "العمال" إلى الحكم سوف يغير بشدة من السياسة الخارجية البريطانية، بسبب عداء كوربن للحروب الخارجية، ونقده لتاريخ بريطانيا الاستعماري، ومناصرته للقضية الفلسطينية.
ويبقى الاحتمال الثالث قائما، وهو عدم حصول أي من الحزبين الرئيسيين على الأغلبية وانقسام البرلمان الجديد بين الأحزاب الرئيسية المختلفة، كما يحدث منذ انتخابات عام 2017، ما يعني مزيدا من الانقسام السياسي والعجز عن التوصل إلى حلول للقضايا السياسية الرئيسية، وفي مقدمتها اتفاقية الخروج من الاتحاد الأوروبي. وهذا يعني أنه بغض النظر عن هوية الحزب الفائز في الانتخابات البرلمانية البريطانية الراهنة، وبغض النظر عن نتيجة الانتخابات، ستبقى التحديات الرئيسية، وفي مقدمتها قضايا العدالة الاقتصادية وضعف التمثيل السياسي قائمة، حيث تحتاج سنوات وربما عقودا لعلاجها. وهذا يعني استمرار الانقسام الحاد في السياسة والمجتمع البريطانيين فترة غير قصيرة، وما يترتب عليه من صعود لقيادات وقوى وبرامج سياسية جديدة وغير تقليدية على يمين السياسة البريطانية ويسارها، على حد سواء.
ويزيد من صعوبة الأمر تركز الإنفاق الحكومي والثراء في مناطق معينة، حيث يبلغ متوسط
ويعمق غضب الناخبين الإنكليز (82% من إجمالي الناخبين البريطانيين) شعورهم بضعف تمثيلهم السياسي، بسبب عدم وجود برلمان أو جمعية تشريعية تمثلهم، وتوحد كلمتهم في مواجهة الأعراق الثلاثة الأخرى المكونة لبريطانيا (الاسكتلنديين والويلزيين والأيرلنديين الشماليين)، فمنذ التسعينيات، وبريطانيا تتوجه تدريجيا نحو اللامركزية، ما دفعها إلى منح اسكتلندا برلمانا، ومنح ويلز جمعية تشريعية، ومنح بعض المدن الكبيرة، كلندن، عمدة أو جمعية تشريعية. ولكنها رفضت منح إنكلترا برلمانا على غرار اسكتلندا، على اعتبار أن البرلمان البريطاني نفسه يقع في وستمينستر في لندن، عاصمة إنكلترا وبريطانيا معا.
ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية الدولية وتبعاتها، بدأ المواطنون الإنكليز منح أصواتهم بشكل متزايد لحزب الاستقلال الذي ركز على قضايا الهوية الوطنية، وعلى رفض الهجرة والمطالبة بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي. ولكن بسبب نظام الانتخابات القائم، فشل الحزب في ترجمة شعبيته إلى مقاعد في البرلمان البريطاني، لأنه نظام يقوم على النظام الفردي، ويسمح للمرشحين بالفوز من الجولة الأولى، إذا حصلوا على أكبر نسبة من الأصوات، وإن لم يحصلوا على الأغلبية (50%+1). لذا في انتخابات عام 2015 البرلمانية حصل حزب الاستقلال على 3.8 ملايين صوت (12.6% من إجمالي الأصوات)، ومع ذلك لم يحصل إلا على مقعد واحد من مقاعد مجلس النواب الـ650.
وقد مثّل شعور الناخبين الانكليز بعدم المساواة الاقتصادية، وبضعف التمثيل السياسي، دافعا أساسيا وراء تصويت البريطانيين بأغلبية ضعيفة (51.9%) في يونيو/ حزيران 2016 للخروج من الاتحاد الأوروبي، والذي بات القضية الأهم في بريطانيا، وأدى ذلك إلى استقالة رئيس الوزراء البريطاني، دايفيد كاميرون، ثم خليفته تيريزا ماي. ودفع حزب المحافظين الحاكم إلى الدعوة إلى انتخابات برلمانية في يونيو/ حزيران 2017، ثم في ديسمبر/ كانون الأول الحالي (2019)، في محاولة للحصول على أغلبية برلمانية تمكّنه من تمرير خطته للخروج من الاتحاد الأوروبي.
ويأمل رئيس الوزراء البريطاني الحالي، بوريس جونسون، في أن يفوز حزبه (المحافظون)
أما حزب العمال، فيدخل الانتخابات ببرنامج انتخابي يميل بوضوح إلى اليسار من خلال الدعوة إلى زيادة الضرائب على أصحاب الدخول المرتفعة (أكثر من 80 ألف جنيه إسترليني سنويا)، وإلى تأميم مرافق أساسية، كبعض شركات الطاقة والكهرباء والسكك الحديدية، كما يطالب بالتخلي عن سياسات التقشف والإنفاق بسخاء على برامج مختلفة، كالتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية. ولكن برنامج الحزب يخيف كثيرين، خصوصا من فئة رجال الأعمال والطبقات الثرية الذين
ويبقى الاحتمال الثالث قائما، وهو عدم حصول أي من الحزبين الرئيسيين على الأغلبية وانقسام البرلمان الجديد بين الأحزاب الرئيسية المختلفة، كما يحدث منذ انتخابات عام 2017، ما يعني مزيدا من الانقسام السياسي والعجز عن التوصل إلى حلول للقضايا السياسية الرئيسية، وفي مقدمتها اتفاقية الخروج من الاتحاد الأوروبي. وهذا يعني أنه بغض النظر عن هوية الحزب الفائز في الانتخابات البرلمانية البريطانية الراهنة، وبغض النظر عن نتيجة الانتخابات، ستبقى التحديات الرئيسية، وفي مقدمتها قضايا العدالة الاقتصادية وضعف التمثيل السياسي قائمة، حيث تحتاج سنوات وربما عقودا لعلاجها. وهذا يعني استمرار الانقسام الحاد في السياسة والمجتمع البريطانيين فترة غير قصيرة، وما يترتب عليه من صعود لقيادات وقوى وبرامج سياسية جديدة وغير تقليدية على يمين السياسة البريطانية ويسارها، على حد سواء.