07 اغسطس 2024
في خيارات أميركا وإيران
أثار اغتيال الولايات المتحدة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، ومهندس استراتيجية إيران الإقليمية، قاسم سليماني، سؤالين أساسيين، يتعلق أولهما باستراتيجية أميركا تجاه إيران، وأسباب مقتل سليماني وتبعاته على تلك الاستراتيجية، ويرتبط الثاني بردود أفعال إيران الممكنة على مقتل أحد أهم قادتها العسكريين، وإمكانية أن تقود تلك الردود إلى صراع عسكري أوسع، أو إلى حربٍ شاملة بين الطرفين. وفي الإجابة على السؤالين، يبدو العام الحالي محوريًا، فهو الأخير في ولاية الرئيس الأميركي، ترامب، الأولى، وتبقى فرص فوزه أو خسارته في الانتخابات الرئاسية المقرّر عقدها في نهاية هذا العام قائمة. وهذا يعني أن أي سياساتٍ سوف يقوم بها ترامب أو قادة إيران، خلال العام الحالي، ستحاول التأثير على فرص ترامب في الفوز بالانتخابات. وأمام المشهد المعقد، يمكن القول إن استراتيجية ترامب تجاه إيران تقوم على استبعاد عدة خيارات أساسية لأسباب أميركية خاصة، أو لاستحالة تحقيق تلك الأهداف في الفترة الحالية.
أولاً: تستبعد الاستراتيجية الأميركية الحالية فرصة إيجاد حل شامل للأزمة الإيرانية، يقوم على بناء نظام أمن جماعي يشمل جميع دول المنطقة. نظام أمن يقوم على معايير واضحة كاحترام سيادة الدول والتعاون بينها واحترام القانون الدولي وحقوق مواطنيها. وهو حل تستبعده
السياسات الغربية القائمة في العالم العربي، لكونها تقوم، منذ عقود، على منظور مصلحي، يفضل التركيز على عقد صفقات جزئية مع النظم الاستبدادية الحاكمة، تضمن حماية مصالح أميركا، وفي مقدمتها النفط وإسرائيل. ويلاحظ هنا أن ترامب يؤكد دوما على رغبته في عقد صفقةٍ مع النظام الإيراني، وليس تغييره، لأن ترامب يدرك أن تغيير النظام الإيراني وصعود بديل ديمقراطي لن يكون في صالح أميركا.
ثانيا: تستبعد الاستراتيجية الأميركية شن حرب شاملة على إيران، لأسباب تتعلق بعدم رغبة أو استعداد أميركا، والتي سعت إلى تخفيض التزاماتها تجاه الشرق الأوسط، بعد الخسائر التي تعرّضت لها خلال غزوها العراق. فمنذ ذلك الحين، والولايات المتحدة تعمل، بشكل حثيث، على تخفيض اعتمادها على نفط الشرق الأوسط، ونقل قواتها خارج المنطقة، وتركيزها في مواجهة منافسين كبار، كروسيا والصين. وهنا تظهر تصريحات ترامب المتكرّرة عن تراجع اعتماد أميركا على نفط الشرق الأوسط، ورغبته في تحمّل دول المنطقة جزءاً أكبر من مسؤولية الدفاع عن أنفسها وتكاليفه.
ثالثا: تستبعد الاستراتيجية الأميركية الحل الدبلوماسي، لأن الوصول إلى مثل هذا الحل يتطلب بناء تحالف دولي كالذي بنته إدارة أميركا مع ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وروسيا والصين للوصول
إلى الاتفاق النووي مع إيران في عام 2015، الذي انسحب منه ترامب بشكل أحادي، ورفض حتى تعديله في ظل سريانه، ولم يقدّم حتى الآن رؤية مفصلة بديلة له. انسحب وأدار صراعه مع إيران بشكل أحادي، كمختلف سياساته الخارجية، وأضعف كثيرا علاقات بلاده بحلفائها الأوروبيين، ناهيك عن علاقته بالصين، والتي يخوض حربا اقتصادية ضدها. في مثل هذه الظروف، يستبعد التوصل إلى حل دبلوماسي، لحاجة هذا الحل إلى توافق دولي ومفاوضات، ولأن إيران والدول الغربية والصين لن تقبل، في الغالب، منح ترامب مثل هذا الحل قبل الانتخابات الرئاسية، حتى لا تمنحه انتصارا سياسيا كبيرا ومكافأة على سياساتها الأحادية والصدامية. وفي ظل استبعاد الحلين، العسكري والدبلوماسي، لأسباب مختلفة، يتبقى أمام ترامب وإيران خيار إدارة صراعاتهما بأدوات أخرى أقلّ حسمًا، وإنْ مؤلمة، حتى إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
منذ مايو/ أيار 2019، تركز إدارة ترامب على العقوبات الاقتصادية أداة أساسية للضغط تجاه إيران. وردا على تحدّي إيران تلك العقوبات، من خلال تخفيض التزاماتها النووية وباستخدام قواتها وأذرعها في المنطقة في تهديد حرية الملاحة واستهداف حلفاء أميركا، زادت إدارة ترامب عدد قواتها بحوالي 14 ألف جندي أميركي إضافي، من مايو/ أيار إلى أكتوبر/ تشرين الأول 2019، كما استهدفت بعض أذرع إيران الإقليمية، خصوصا بعد هجوم بعض المليشيات العراقية المدعومة إيرانيا على قواعد عسكرية أميركية في العراق في أواخر شهر ديسمبر/كانون الأول، ما أدى إلى مقتل متعاقد أميركي وجرح جنود أميركيين. وهو الهجوم الذي ردت عليه أميركا باستهداف قواعد لكتائب حزب الله العراقية، أدى إلى مقتل 25 من مسلحيها، فاقتحمت محيط السفارة الأميركية، وردت أميركا باغتيال قاسم سليماني، الحدث الذي كان رسالة مفادها بأن ترامب وضع مقتل الأميركيين خطا أحمر، لن يسمح بتجاوزه خلال
المواجهة مع إيران، وأن اقتحام محيط السفارة الأميركية غير مقبول، خصوصا في عام انتخابات، ولكونه يعيد إلى ذاكرة الأميركيين أزمة احتلال السفارة الأميركية في إيران في عهد جيمي كارتر، ومقتل السفير الأميركي في ليبيا في عهد أوباما، وهي مقارنة يرفضها ترامب تماماً.
تركت عقوبات أميركا الاقتصادية آثارا مدمرة على "المحور الشيعي" كله، من خلال الحد من القدرات المالية للنظام الإيراني وحلفائه، وساهمت في موجة المظاهرات التي يعيشها ذلك المحور منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وستعقّد زيادة عدد القوات الأميركية في المنطقة من مهمة إيران وأذرعها الإقليمية في استهداف حلفاء أميركا في المنطقة، وسترفع خطوط ترامب الحمراء كلفة استهداف الجنود الأميركيين بشكل هائل.
في المقابل، يمنح قبول إيران المعادلة السابقة ترامب انتصارا سياسيا في عام الانتخابات، ويتركها تعاني وتتحمل تبعات تلك الضغوط داخليا، فالعقوبات تترك ضغوطًا داخلية هائلة، والصواريخ التي أطلقتها إيران على القوات الأميركية في العراق بعد اغتيال سليماني لم ترتق إلى مستوى الانتقام المنتظر لمقتل أحد أهم القادة العسكريين الإيرانيين، على الرغم من أنها تمثل أول استهداف إيراني عسكري علني مباشر من الأراضي الإيرانية أهدافا عسكرية أميركية منذ عقود.
هذا يعني أن على إيران التحرّك خلال العام الحالي للضغط على ترامب، ورفع كلفة سياسة الضغوط القصوى التي يمارسها إلى أعلى قدر قبل الانتخابات الرئاسية، على أمل خسارته الانتخابات، وفوز أحد المرشحين الديمقراطيين الداعمين للدبلوماسية، كجوزيف بايدن. وهنا ينبغي على إيران التحرّك ضمن حدود تجنّبها أي ضرباتٍ عسكريةٍ أميركية قوية، حيث بدا واضحًا أن طهران لا تريد الدخول في حربٍ مفتوحة مدمرة مع أميركا، ولا تمتلك قدرة الرد عسكريا بالمثل عليها.
وتتبقى أمام إيران بدائل محدودة، في مقدمتها تخفيض التزاماتها النووية وفقا لاتفاقية عام 2015 إلى أقصى حد يضمن البقاء ضمن حدود تلك الاتفاقية، ودعم الدول الأوروبية لها، وهو هدفٌ شرعت فيه طهران منذ فترة. أما البديل الثاني، فهو الاستمرار في رفع تكلفة الضغوط الأميركية عسكريا، من خلال استهداف أهدافٍ رخوةٍ بشكل غير مباشر، عن طريق أذرع إيران الإقليمية. وهنا يبدو أن حلفاء أميركا العرب هم الأكثر عرضةً للتضرر من هذا السيناريو، لأن خطوط ترامب الحمراء ترتبط أساسا بحماية الجنود والمواطنين الأميركيين. كما تعد ورقة الضغط السياسي، من خلال حلفاء إيران في العراق، لطرد القوات الأميركية، ورقة إضافية، وإنْ كانت محدودة الأثر في حالة رفض أميركا الانسحاب وغياب المقاومة العسكرية لقواتها على الأرض، خوفًا من انتقام ترامب.
وتبقى الآثار غير المتوقعة لتلك الخيارات بمثابة تهديد إضافي وعامل ضغط على الطرفين، فلا أحد يمكنه التنبؤ بشكل كامل بمختلف تبعات الضغوط التي يمارسها الطرفان، وتبقى الانتخابات نقطة زمنية فاصلة يحاول ترامب وقادة إيران الوصول إليها بأكبر عدد من النقاط وأقل قدر من الخسائر.
ثانيا: تستبعد الاستراتيجية الأميركية شن حرب شاملة على إيران، لأسباب تتعلق بعدم رغبة أو استعداد أميركا، والتي سعت إلى تخفيض التزاماتها تجاه الشرق الأوسط، بعد الخسائر التي تعرّضت لها خلال غزوها العراق. فمنذ ذلك الحين، والولايات المتحدة تعمل، بشكل حثيث، على تخفيض اعتمادها على نفط الشرق الأوسط، ونقل قواتها خارج المنطقة، وتركيزها في مواجهة منافسين كبار، كروسيا والصين. وهنا تظهر تصريحات ترامب المتكرّرة عن تراجع اعتماد أميركا على نفط الشرق الأوسط، ورغبته في تحمّل دول المنطقة جزءاً أكبر من مسؤولية الدفاع عن أنفسها وتكاليفه.
ثالثا: تستبعد الاستراتيجية الأميركية الحل الدبلوماسي، لأن الوصول إلى مثل هذا الحل يتطلب بناء تحالف دولي كالذي بنته إدارة أميركا مع ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وروسيا والصين للوصول
منذ مايو/ أيار 2019، تركز إدارة ترامب على العقوبات الاقتصادية أداة أساسية للضغط تجاه إيران. وردا على تحدّي إيران تلك العقوبات، من خلال تخفيض التزاماتها النووية وباستخدام قواتها وأذرعها في المنطقة في تهديد حرية الملاحة واستهداف حلفاء أميركا، زادت إدارة ترامب عدد قواتها بحوالي 14 ألف جندي أميركي إضافي، من مايو/ أيار إلى أكتوبر/ تشرين الأول 2019، كما استهدفت بعض أذرع إيران الإقليمية، خصوصا بعد هجوم بعض المليشيات العراقية المدعومة إيرانيا على قواعد عسكرية أميركية في العراق في أواخر شهر ديسمبر/كانون الأول، ما أدى إلى مقتل متعاقد أميركي وجرح جنود أميركيين. وهو الهجوم الذي ردت عليه أميركا باستهداف قواعد لكتائب حزب الله العراقية، أدى إلى مقتل 25 من مسلحيها، فاقتحمت محيط السفارة الأميركية، وردت أميركا باغتيال قاسم سليماني، الحدث الذي كان رسالة مفادها بأن ترامب وضع مقتل الأميركيين خطا أحمر، لن يسمح بتجاوزه خلال
تركت عقوبات أميركا الاقتصادية آثارا مدمرة على "المحور الشيعي" كله، من خلال الحد من القدرات المالية للنظام الإيراني وحلفائه، وساهمت في موجة المظاهرات التي يعيشها ذلك المحور منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وستعقّد زيادة عدد القوات الأميركية في المنطقة من مهمة إيران وأذرعها الإقليمية في استهداف حلفاء أميركا في المنطقة، وسترفع خطوط ترامب الحمراء كلفة استهداف الجنود الأميركيين بشكل هائل.
في المقابل، يمنح قبول إيران المعادلة السابقة ترامب انتصارا سياسيا في عام الانتخابات، ويتركها تعاني وتتحمل تبعات تلك الضغوط داخليا، فالعقوبات تترك ضغوطًا داخلية هائلة، والصواريخ التي أطلقتها إيران على القوات الأميركية في العراق بعد اغتيال سليماني لم ترتق إلى مستوى الانتقام المنتظر لمقتل أحد أهم القادة العسكريين الإيرانيين، على الرغم من أنها تمثل أول استهداف إيراني عسكري علني مباشر من الأراضي الإيرانية أهدافا عسكرية أميركية منذ عقود.
هذا يعني أن على إيران التحرّك خلال العام الحالي للضغط على ترامب، ورفع كلفة سياسة الضغوط القصوى التي يمارسها إلى أعلى قدر قبل الانتخابات الرئاسية، على أمل خسارته الانتخابات، وفوز أحد المرشحين الديمقراطيين الداعمين للدبلوماسية، كجوزيف بايدن. وهنا ينبغي على إيران التحرّك ضمن حدود تجنّبها أي ضرباتٍ عسكريةٍ أميركية قوية، حيث بدا واضحًا أن طهران لا تريد الدخول في حربٍ مفتوحة مدمرة مع أميركا، ولا تمتلك قدرة الرد عسكريا بالمثل عليها.
وتتبقى أمام إيران بدائل محدودة، في مقدمتها تخفيض التزاماتها النووية وفقا لاتفاقية عام 2015 إلى أقصى حد يضمن البقاء ضمن حدود تلك الاتفاقية، ودعم الدول الأوروبية لها، وهو هدفٌ شرعت فيه طهران منذ فترة. أما البديل الثاني، فهو الاستمرار في رفع تكلفة الضغوط الأميركية عسكريا، من خلال استهداف أهدافٍ رخوةٍ بشكل غير مباشر، عن طريق أذرع إيران الإقليمية. وهنا يبدو أن حلفاء أميركا العرب هم الأكثر عرضةً للتضرر من هذا السيناريو، لأن خطوط ترامب الحمراء ترتبط أساسا بحماية الجنود والمواطنين الأميركيين. كما تعد ورقة الضغط السياسي، من خلال حلفاء إيران في العراق، لطرد القوات الأميركية، ورقة إضافية، وإنْ كانت محدودة الأثر في حالة رفض أميركا الانسحاب وغياب المقاومة العسكرية لقواتها على الأرض، خوفًا من انتقام ترامب.
وتبقى الآثار غير المتوقعة لتلك الخيارات بمثابة تهديد إضافي وعامل ضغط على الطرفين، فلا أحد يمكنه التنبؤ بشكل كامل بمختلف تبعات الضغوط التي يمارسها الطرفان، وتبقى الانتخابات نقطة زمنية فاصلة يحاول ترامب وقادة إيران الوصول إليها بأكبر عدد من النقاط وأقل قدر من الخسائر.