وقال رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، في بيان أمس السبت، إن نائبه فالديس دومبروفسكيس، سيتولى منصب مفوض الخدمات المالية بالاتحاد الأوروبي بعد استقالة هيل.
ودومبروفسكيس، وهو رئيس وزراء سابق للاتفيا، إحدى الدول الأعضاء في منطقة اليورو، يتولى في الوقت الراهن المسؤولية عن العملة الموحدة في المفوضية. وسيحق لبريطانيا ترشيح مفوض جديد ليمثلها في المفوضية ما دامت لا تزال ضمن التكتل. وسيحدد يونكر سلطات هذا المرشح بالتشاور مع الحكومة البريطانية.
في غضون ذلك، ظهرت تصريحات المسؤولين الأوروبيين إزاء السلطات البريطانية، على مستوى من التعالي والصرامة من خلال استعجال خروج المملكة وتعيين رئيس حكومة "فوراً" في لندن، وهي مواقف وإجراءات يرى كثيرون أن الهدف الرئيسي منها استباق أي مفعول عدوى لنتيجة الاستفتاء البريطاني خارج حدود المملكة.
وفي ردود الفعل الأولى الرافضة لنتيجة التصويت، يوم الخميس، تظاهر مئات الرافضين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أمام مقر الحكومة وسط لندن، رافضين نتيجة الاستفتاء، ومُستنكرين تسليم مستقبل الأجيال البريطانية لمجموعة من العنصريين الكارهين للأجانب. غير أن الأهم من ذلك، هو تعالي الأصوات التي تنادي بضرورة عدم مصادقة مجلس العموم، نواباً ولوردات، على نتيجة الاستفتاء، باعتبار ما جرى هو غير ملزم، ولا يتعدى "الاستشارة" الشعبية.
الاستنجاد بمجلس العموم
لا يستبعد الكاتب في صحيفة "إيفننغ ستاندرد"، أنطوني هيلتون، إمكانية عدم تصديق السلطة التشريعية على نتيجة الاستفتاء، مستشهداً بما قالته حكومة حزب العمال برئاسة هارولد ويلسون عند إجراء الاستفتاء الأول في العام 1975 حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. واعتبرت الحكومة، آنذاك، الاستفتاء "استشارياً"، وللبرلمان الكلمة النهائية لإلغاء قانون الانضمام للسوق الأوروبية الذي أُقرّ عام 1973. ويقول الكاتب إن هذه السابقة لا تزال سارية المفعول حتى اليوم، وأن نتيجة الاستفتاء الثاني، التي أعلنت أول من أمس، الجمعة، ليست مُلزمة.
ويرى الكاتب أنه لا يمكن القفز عن الكلمة الأخيرة للسلطة التشريعية ممثلة في البرلمان ومجلس اللوردات، ذلك أن إشعار الاتحاد الأوروبي برغبة الخروج، بموجب المادة 50، لا يمكن أن يتحقق من دون موافقة البرلمان، ومن دون المصادقة على قانون "الخروج" من قبل السلطة التشريعية.
ويعتبر البعض أن المطالبات بتدخل السلطة التشريعية، وخصوصاً البرلمان، لعدم تمرير قانون "الخروج"، واعتبار نتيجة الاستفتاء مجرد "استشارة شعبية" تستند إلى حجج قوية، أولها أن الفارق بين من أيدوا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومن عارضوه لم يكن كبيراً، إذ لم تتجاوز نسبة مَن صوتوا لصالح الخروج 51.9 في المائة مقابل 48.1 في المائة أيدوا بقاء بريطانيا في الاتحاد، وأن مَن صوتوا للخروج لا يشكلون إلّا حوالي 25 في المائة من الشعب البريطاني.
أما الحجة الأخرى، هي أن 490 نائباً يمثلون الأحزاب الرئيسية في مجلس النواب من أصل 650 عضواً، أعلنوا تأييدهم لبقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي. وهذه الأغلبية التي تمثل 70 في المائة من ممثلي الشعب لها الحق الدستوري بعدم شرعنة نتيجة الاستفتاء، لا سيما أن معظم النواب يعتقدون أن الخروج من الاتحاد يشكل كارثة بالنسبة لبريطانيا، كما يقول النائب السابق عن حزب المحافظين، ماثيو باريس، في صحيفة "التايمز".
ونشرت صحيفة "ذا صن" اليمينية، المؤيدة لمعسكر الخروج من الاتحاد الأوروبي، أول من أمس الجمعة، تقريراً موسّعاً، قالت فيه إن 490 نائباً من أنصار الاتحاد الأوروبي يعدّون خطة لوقف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، على الرغم من نتيجة استفتاء يوم الخميس الماضي. ولفتت الصحيفة إلى أن 490 نائباً ممن يرفضون الانفصال عن أوروبا يتشاورون في جلسات خاصة، لوقف نتيجة الاستفتاء، "وإذا ما حدث، فسيتسبّب ذلك بحالة من الفوضى". ونقلت الصحيفة عن ماثيو باريس، عدم استبعاده تحدي السياسيين من الحزب القومي الاسكتلندي وحزبَي العمال والمحافظين المؤيدين للاتحاد الأوروبي إرادة الناخبين الذين صوتوا لصالح الخروج.
استفتاء ثان
وبعيداً عن الجدل التشريعي، لا يبدو أن مؤيدي البقاء في الاتحاد الأوروبي قد يقبلون بنتيجة استفتاء يوم الخميس بسهولة، إذ بادروا للتوقيع على عريضة إلكترونية تدعو لإجراء استفتاء ثان للتأكد من حقيقة الإرادة الشعبية. وبادر المواطن البريطاني ويليام أوليفر هيلي إلى تأسيس موقع إلكتروني لعريضة يناشد فيها الحكومة إجراء استفتاء ثان حول الخروج من الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من حدوث مشاكل تقنية بسبب ضغط الراغبين في التوقيع، نجحت العريضة بجمع أكثر من 1.5 مليون توقيع خلال ساعات قليلة. وتناشد العريضة "حكومة صاحبة الجلالة لتطبيق الحكم الذي يفيد بأنه إذا كان التصويت بالبقاء أو الخروج أقل من 60 في المائة، فإنه، وبحسب تعليمات نسبة المشاركة الأقل من 75 في المائة، يتوجب إجراء تصويت ثان". ونجحت العريضة في جمع أكثر من 100 ألف توقيع، وهو الحد الأدنى المطلوب لمناقشة أي اعتراض شعبي في البرلمان. ومن المُرجح أن تستجيب الحكومة وتعرض الوثيقة الشعبية على مجلس النواب لمناقشتها.
ومن المعروف أن تنظيم أي استفتاء شعبي يحتاج إلى قانون تنظيمي من السلطة التشريعية، أي مجلس النواب واللوردات. يصدر القانون بعد المصادقة عليه من السلطة التشريعية، ويحدد في مواده كل الجوانب الفنية والإجرائية التي تتعلق بالاستفتاء، وينبغي مراعاتها من قبل مفوضية الانتخابات. وغالباً ما تتقدم الحكومات بمشروع الاستفتاء الشعبي. وهذا ما جرى بالضبط في مسيرة الاستفتاء البريطاني في يونيو/ حزيران الحالي، إذ قدّمت حكومة المحافظين برئاسة ديفيد كاميرون، مشروع قانون إلى مجلس العموم يتضمن آليات الاستفتاء حول بقاء البلاد عضواً في الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه. وبعد إقراره في البرلمان يوم 10 يونيو/ حزيران 2015 بأغلبية ساحقة (544 نائباً وبمعارضة 53)، أعلن رئيس الوزراء يوم 23 يونيو/ حزيران 2016 موعداً لتنظيم الاستفتاء، ليكون بذلك الاستفتاء الثاني بعد 41 سنة منذ الاستفتاء الأول حول انضمام بريطانيا إلى المجموعة الأوروبية بعد استفتاء العام 1975.
مسؤولية الزلزال
وفيما ينشغل مؤيدو بقاء بريطانيا في البحث عن مخارج لـ"الأزمة الزلزال" التي ثارت في بريطانيا، أول من أمس الجمعة، لا تتوقف القوى السياسية عن تحميل بعضها البعض مسؤولية ما بات يُعرف بالكارثة العظمى. أصابع الاتهام تشير بالأساس إلى حملة "بريطانيا في الاتحاد أقوى" التي تزعمها رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون. ويرى منتقدو كاميرون أنّ الأخير أخطأ، أساساً، عندما استخدم ورقة الاستفتاء انتخابياً في العام 2015، معتبراً أن التلويح بوعد الاستفتاء سيسحب البساط من تحت أقدام حزب "الاستقلال" اليميني الذي لا لطالما استخدم عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي للتأثير على الناخبين.
ويقول منتقدو كاميرون إن رئيس الوزراء البريطاني الذي وصل إلى الحكم على ظهر "وعد الاستفتاء"، أخطأ ثانية عندما فشل في الوصول إلى اتفاق مُقنع وواضح بعد مفاوضات ماراثونية مع الاتحاد الأوروبي. وأخطأ مجدداً بثقته العالية أنه سيربح استفتاء 23 يونيو/ حزيران الحالي. ويعتبر منتقدو كاميرون أن نهج خطاب "التخويف" من مخاطر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي اعتمده كاميرون، وبلغ به إلى حد القول إن خروج بريطانيا سيهدد السلام في القارة الأوروبية، "وقد يُؤدي إلى نشوب حرب عالمية ثالثة"، ويُعرّض بريطانيا لأخطار تنظيم "داعش"، وروسيا، خلق عند الناس ردود فعل تراوحت بين عدم الثقة في كل ما يُسمع من كاميرون، والخوف من التصويت لعدم تحمّل المسؤولية، أو التصويت لصالح الخروج من باب المناكفة.
ويشير هؤلاء إلى أن كاميرون ووزير الخزانة جورج أوزبورن يتحملان المسؤولية، بشكل أساسي، لأنهما عوضاً عن تقديم خطاب عقلاني ومفهوم يصل إلى السواد الأعظم من الناس، عمدا إلى خطاب إما نخبوي موجّه إلى الفئات الاقتصادية والأكاديمية، أو خطاب عام مليء بالتخويف، ما أدى إلى نفور الشريحة الأوسع من الناس ودفعهم لعدم التصويت أو التصويت السلبي.
مطالب بإقالة كوربن
في الجهة الأخرى، لم ينجُ زعيم حزب العمال، جيرمي كوربن، من الانتقادات التي اتهمته بالتقصير وعدم بذل ما يكفي من جهود لحث الناس على التصويت لصالح بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. ووصل الغضب من سوء أداء كوربن أثناء حملات الدعاية والتوعية التي سبقت استفتاء الخميس، إلى حد تقديم النائبتَين عن حزب العمال البريطاني، مارغريت هودج، وآن كوفي، اقتراحاً بحجب الثقة عن زعيم الحزب بعد خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي.
كما وقّع حوالى 85 ألف عضو على عريضة إلكترونية تطالب باستقالة كوربن من زعامة حزب العمال بسبب سوء أداءه خلال حملات الاستفتاء، وعدم كفاءته لقيادة المرحلة المقبلة. ولم يفوّت رئيس الوزراء الأسبق، توني بلير، الفرصة من دون توجيه أقسى عبارات الاتهام لكوربن، بعدم بذل ما يكفي من جهد، وأنه لم يضع خطة واضحة لحث الناخبين على تأييد بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. جيرمي كوربن، الذي رفض الأصوات المطالبة باستقالته أو إقالته، ألقى اللوم بدوره على الحكومات البريطانية المتعاقبة، مُعتبراً أن تأييد الغالبية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان بسبب الغضب من الحكومات، لأن "الكثير من المجتمعات المحلية سئمت خفض النفقات، والاضطراب الاقتصادي، وتشعر بغضب عارم لما واجهته من خديعة وتهميش على أيدي الحكومات المتعاقبة في المناطق الشديدة الفقر بالبلاد".
استقلال لندن
وفي السياق، وقّع حوالي 40 ألف شخص على عريضة إلكترونية طالبوا فيها عمدة العاصمة البريطانية، صادق خان، بإعلان استقلال المدينة والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وذلك في أعقاب تصويت لندن بأغلبية كاسحة لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي. وقال جيمس أوميلي، الذي أطلق عريضة "استقلال لندن"، إن "لندن مدينة دولية، نريد أن نبقى في قلب أوروبا". وأضاف "دعونا نواجه الأمر، دعونا نجعل الطلاق رسمياً وندخل مع أصدقائنا في القارة".
وأكدت الوثيقة الموجودة على موقع "تشانغ دوت أورغ"، أن "لندن مدينة دولية ونريدها أن تبقى في قلب أوروبا، دعونا نكون واقعيين، سائر البلاد تختلف معنا، وبدلاً من التصويت في شكل عدائي أحدنا ضد الآخر في كل انتخابات، دعونا نجعل الانفصال رسمياً وننتقل إلى جانب أصدقائنا في القارة. هذه العريضة تدعو رئيس البلدية صادق خان إلى إعلان لندن مستقلة وتقديم طلب للانضمام إلى الاتحاد الاوروبي". كما نشر ناشطون وسماً على موقع "تويتر" بعنوان "لندن تبقى"، عبّر مستخدموه عن رغبتهم باستقلال لندن، واسكتلندا، وبتوحيد أيرلندا، بعدما صوّتت الغالبية في اسكتلندا وشمال أيرلندا من أجل البقاء في الاتحاد الأوروبي.
ضغط أوروبي
وبينما تغرق الساحة السياسية البريطانية في التهابات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يُصر المسؤولون الأوروبيون في العاصمة البلجيكية بروكسل على أن تشرع بريطانيا بسرعة ومن دون تأخير في مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي، التي ستترتب عليها إجراءات خروجها من الاتحاد الأوروبي، محذرين لندن من أية مماطلة. وقال وزير الخارجية الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، في ختام اجتماع لوزراء خارجية الدول الست المؤسِّسة للاتحاد الأوروبي في برلين، أمس الجمعة، إنّ هذه الدول ترغب في أن تبدأ بريطانيا عملية الانفصال بأسرع وقت.
كما دعا وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك أيرولت، إلى تعيين رئيس وزراء بريطاني جديد بأسرع وقت ممكن. وقال أيرولت، بعد لقاء مع نظرائه من الدول الخمس الأخرى المؤسسة للاتحاد الأوروبي (ألمانيا، وإيطاليا، وبلجيكا، وهولندا، ولوكسمبورغ)، "يجب تعيين رئيس وزراء جديد في بريطانيا، الأمر يستغرق بضعة أيام". واعتبر معلقون سياسيون بريطانيون هذه التصريحات دليلاً جديداً على دأب بعض المسؤولين الأوروبيين، ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، بالتصرف بـ"تعال وصلف"، وهي المسلكيات التي شجعت أكثر من نصف البريطانيين للتصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي.