07 اغسطس 2024
من أطلق شرارة ثورة يناير؟
تمرّ السنوات، وتضعف الذاكرة، ويزداد التنافس بين أوساط القوى السياسية - المنقسمة والمتحاربة على الاستئثار بثورة يناير في مصر، فيحاول كل طرفٍ نسبتها إلى نفسه، أو إثبات أفضليته، وكونه كان أول من دعا وشارك وقاد الصفوف، وكيف أن غيره تأخر وتخلف. لذا يعد التسجيل ضرورة، وكذلك العودة باستمرار إلى أهم ما كتب وسجل عن "25 يناير"، لبيان حقيقة ما جرى لتهدئة الخواطر من ناحية، ولتوعية الأجيال الجديدة التي لم تعاصر ما حدث، من ناحية أخرى.
وتتوقف المقالة هنا عند مرجع أساسي، قد يكون أفضل ما كتب في رصد ما حدث في الأيام الأولى لثورة يناير، متضمنا شهادات عشرات ممن شاركوا فيها وتقدّموا صفوفها من توجهات سياسية مختلفة. كتاب عزمي بشارة "ثورة مصر: الجزء الأول: من جمهورية يوليو إلى ثورة يناير" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016). وهو كتابٌ يتميز في رصده ثورة يناير وأحداثها بأمرين، أولهما اهتمامه برصد ما حدث من أفعال وتحركات جماهيرية ومظاهرات في أيام الثورة الأولى، كما وردت على لسان عشرات الناشطين الذين شاركوا فيها وتقدّموا صفوفها، ما يجعله مرجعا ضروريا بهذا الخصوص. الميزة الثانية سعيه إلى وضع "يناير" في سياقها الصحيح، كالظروف السياسية والحركات الاحتجاجية التي قادت إليها. ولذلك تتحدث أول مائتي صفحة من الكتاب عن نظام يوليو نفسه، فلولا ديكتاتورية النظام المصري، والأزمات التي أنتجها على مختلف الأصعدة، لما ثار الناس، ولما شارك ملايين المصريين في ثورة يناير التي لم تكن حدثا نخبويا أو قاهريا، بل كانت حدثا جماهيريا شارك فيه ملايين المصريين عبر ربوع البلاد.
يكتب عزمي بشارة أن نظام يوليو كان سبّاقا عربيا على أصعدة كثيرة، كإعلان الجمهورية
وسياسات التأميم والتنمية والتعبئة الجماهيرية وغيرها، ولكنه فشل في بناء حكم المؤسسات، وظل نظاما رئاسيا استبداديا بالأساس، يقوم على المحسوبية ومدى القرب من رأس النظام، وهي خاصية تشكلت تدريجيا خلال حكم جمال عبد الناصر، والذي واجه صراعا مريرا مع قادة آخرين بالجيش (شركاء 1052) قاد البلاد إلى هزيمة 1967، والتي أنهت عصر تدخل قادة الجيش المباشر في حكم مصر. منذ ذلك الحين، سعى عبد الناصر، ومن بعده أنور السادات، ثم حسني مبارك، لإبعاد الجيش عن السياسة، خوفا من انقلابه عليهم من ناحية، وللحيلولة دون تضارب السلطات وتصارعها من ناحية أخرى، ليبقى الجيش حاميا للنظام من دون التدخل في السياسة مباشرة، مع منحه مزايا اقتصادية متزايدة، خصوصا خلال عهد مبارك. وهنا يشير بشارة إلى أن إبعاد الجيش عن إدارة شؤون الدولة منذ 1967 ساهم في تحسين صورته تدريجيا، وتصويره بصورة مثالية في وجدان المصريين، ما ساعد على عودته إلى السياسة بعد إطاحة مبارك، وفي انقلاب 2013.
أما النظام السياسي فقد بقي رئاسيا استبداديا بالأساس، حيث توسّعت سلطات الرئيس بشكل مطلق، وتغيرت سياسات البلاد على الأصعدة المختلفة، من الاشتراكية إلى الرأسمالية، ومن الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية، ومن التعبئة الجماهيرية إلى تهميش المواطنين وعزلهم. وإن بقيت كل تلك التطورات هشّة مقيدة تابعة للرئيس، يفرضها من أعلى، ويغيرها منتجة طبقاتٍ طفيليةً من المقرّبين المنتفعين، وتهمش الغالبية العظمى من المواطنين، ولولا هذا التهميش، لما قامت ثورة في مصر. وبمرور الوقت، أصيب نظام مبارك بالشيخوخة، وبات يدير الدولة من شرم الشيخ، وزادت مؤشّرات التوريث، وزاد ضيق المصريين، وربما بعض ضباط الجيش، من التوريث وصعود رجال الأعمال وهيمنة الشرطة، وكلها عوامل قادت أيضا إلى عودة الحركات الاحتجاجية إلى مصر منذ العام 2000.
يذكر بشارة، مستشهدًا بشهادات ناشطين شباب، أن الانتفاضة الفلسطينية الثانية في العام 2000، وتظاهر المصريين دعما لها، مثّلت بداية وعي وحراك احتجاجي جديد، شجع بعض نشطاء جيل السبعينيات على تأسيس "اللجنة الشعبية المصرية لدعم انتفاضة الشعب الفلسطيني" في أكتوبر/ تشرين الأول 2000، لتتبعها مظاهرات ووقفات عديدة ومظاهرات أسبوعية في الأزهر دعما لفلسطين، ومظاهرات ضد حرب العراق في العام 2003، وتأسيس الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) في سبتمبر/ أيلول 2004، والتي ساهمت في نشر ثقافة الاحتجاج. هذا بالإضافة إلى حركة استقلال القضاء ومظاهرات العمال في المحلة الكبرى، وانتخابات 2005 الرئاسية والبرلمانية، واحتجاجات مختلفة في الأقاليم.
ويرصد الكتاب إحصاءاتٍ تفيد بالطفرة في عدد المظاهرات التي شهدها العام 2008، حيث
شهدت مصر 94 مظاهرة، مقارنة بعدد 19 مظاهرة فقط في عام 2007، ولم يمثل النشطاء السياسيون والحقوقيون (النخب) إلا خمس المشاركين في تلك المظاهرات وفقا للكتاب، في حين مثّل العمال حوالي الخمس، ومثّل سكان العشوائيات والأحياء الفقيرة خمسا ثالثا، وتوزّعت البقية على الطلاب والفلاحين والموظفين وأصحاب المشاريع الخاصة وفئات أخرى.
يضاف إلى ذلك دور مهم لعبه جيل جديد من الناشطين الشباب، كما ظهر في دور حركة 6 أبريل (تأسست في يونيو/ حزيران 2008)، ودور المدوّنين، والذين زاد عددهم بسرعة كبيرة، مع التوسع في استخدام الإنترنت، وحركة شباب من أجل العدالة والحرية (2010)، وصفحة كلنا خالد سعيد (يونيو/ حزيران 2010)، وشباب الإخوان المسلمين. كما شهدت تلك المرحلة ظهور تكتلات عابرة للأحزاب والتيارات، كالحملة الشعبية لدعم محمد البرادعي رئيسا لمصر والجمعية الوطنية للتغيير (فبراير/ شباط 2010).
ويذكر الكتاب أن "صفحة كلنا خالد سعيد" كانت أول من تبنّى الدعوة إلى التظاهر في 25 يناير/ كانون الثاني 2011 (يوم عيد الشرطة)، حيث دعت إليها في 28 ديسمبر/ كانون الأول 2010، قبل هروب الرئيس التونسي، بن علي، وتفاعلا مع الثورة التونسية، وإن لم تكن أول من دعا إلى التظاهر في يوم عيد الشرطة، لأن مصر عرفت دعوة مشابهة في عام 2010. ولم تطالب الصفحة بثورة أو بتغيير النظام، بل طالبت بإقالة وزير الداخلية وحل مجلسي الشعب والشورى وإعادة الانتخابات. كما لم يساهم مسؤولو الصفحة في الإعداد للمظاهرات، فقد كانت شخصياتهم سرّية في ذلك الحين، وأن من أعدّ للتظاهر شباب حركات أخرى، تلقفت الدعوة وأعدّت لها.
ولم يتوقع منظمو مظاهرات 25 يناير العدد الكبير للجماهير المشاركة فيها، وإنْ أطلق بعضهم على خطة الإعداد اسم كرة الثلج، أملا من أن يساهم انطلاق المظاهرات في بعض المناطق الشعبية (كحي ناهيا الشعبي في محافظة الجيزة) في انضمام المواطنين لها. ولم يخططوا لوصولها إلى ميدان التحرير، بل كانوا يأملون الوصول إلى ميدان مصطفى محمود. ولم تعرف كل المجموعات التي تبنّت الدعوة إلى التظاهر، وشاركت في التخطيط لها بعضها، ما أدّى إلى
اختلافهم أحيانا كثيرة في الميادين. وإن نخبا كثيرة معروفة شاركت في مظاهرات 25 يناير، ومن بينهم بعض قادة الإخوان المسلمين، شاركت في وقفة أمام نقابة الأطباء، لذا لم تشارك في المظاهرات الجماهيرية الضخمة التي نجحت في الوصول إلى ميدان التحرير، ولما اجتمع عدد من أبرز شباب الثورة في الميدان مساء 25 يناير، ليكتبوا مطالب المتظاهرين، لم يكن بينها إسقاط النظام، لذا تراجعوا عما كتبوه، بعد أن سمعوا الشعار يتردّد في الميدان. أما حركة الجماهير في الأيام التالية، وحتى يوم 28 يناير، يوم انكسار الشرطة، فقد ظلت عفويةً تنطلق من الأحياء الشعبية القريبة من وسط القاهرة، للتعبير عن سخط الجماهير على النظام وقمع الشرطة، ما ساهم في إنهاكها وانكسارها يوم 28. ولا يقلل هذا من دور كل من شارك في الإعداد لمظاهرات 25 يناير، ولكنه يؤكد حقيقة "25 يناير" حالة احتجاجية جماهيرية ضخمة، أو ككرة ثلجٍ تدحرجت وكبرت، حتى ضمت آلاف الأبطال المجهولين وملايين المشاركين، أو كما يقول عزمي بشارة "لم يسرق الثورةَ أحدٌ من أحد" فقد كانت حالة سياسية واجتماعية، تكونت نتيجة عوامل تراكمت على مدى عشرات السنين.
يكتب عزمي بشارة أن نظام يوليو كان سبّاقا عربيا على أصعدة كثيرة، كإعلان الجمهورية
أما النظام السياسي فقد بقي رئاسيا استبداديا بالأساس، حيث توسّعت سلطات الرئيس بشكل مطلق، وتغيرت سياسات البلاد على الأصعدة المختلفة، من الاشتراكية إلى الرأسمالية، ومن الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية، ومن التعبئة الجماهيرية إلى تهميش المواطنين وعزلهم. وإن بقيت كل تلك التطورات هشّة مقيدة تابعة للرئيس، يفرضها من أعلى، ويغيرها منتجة طبقاتٍ طفيليةً من المقرّبين المنتفعين، وتهمش الغالبية العظمى من المواطنين، ولولا هذا التهميش، لما قامت ثورة في مصر. وبمرور الوقت، أصيب نظام مبارك بالشيخوخة، وبات يدير الدولة من شرم الشيخ، وزادت مؤشّرات التوريث، وزاد ضيق المصريين، وربما بعض ضباط الجيش، من التوريث وصعود رجال الأعمال وهيمنة الشرطة، وكلها عوامل قادت أيضا إلى عودة الحركات الاحتجاجية إلى مصر منذ العام 2000.
يذكر بشارة، مستشهدًا بشهادات ناشطين شباب، أن الانتفاضة الفلسطينية الثانية في العام 2000، وتظاهر المصريين دعما لها، مثّلت بداية وعي وحراك احتجاجي جديد، شجع بعض نشطاء جيل السبعينيات على تأسيس "اللجنة الشعبية المصرية لدعم انتفاضة الشعب الفلسطيني" في أكتوبر/ تشرين الأول 2000، لتتبعها مظاهرات ووقفات عديدة ومظاهرات أسبوعية في الأزهر دعما لفلسطين، ومظاهرات ضد حرب العراق في العام 2003، وتأسيس الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) في سبتمبر/ أيلول 2004، والتي ساهمت في نشر ثقافة الاحتجاج. هذا بالإضافة إلى حركة استقلال القضاء ومظاهرات العمال في المحلة الكبرى، وانتخابات 2005 الرئاسية والبرلمانية، واحتجاجات مختلفة في الأقاليم.
ويرصد الكتاب إحصاءاتٍ تفيد بالطفرة في عدد المظاهرات التي شهدها العام 2008، حيث
يضاف إلى ذلك دور مهم لعبه جيل جديد من الناشطين الشباب، كما ظهر في دور حركة 6 أبريل (تأسست في يونيو/ حزيران 2008)، ودور المدوّنين، والذين زاد عددهم بسرعة كبيرة، مع التوسع في استخدام الإنترنت، وحركة شباب من أجل العدالة والحرية (2010)، وصفحة كلنا خالد سعيد (يونيو/ حزيران 2010)، وشباب الإخوان المسلمين. كما شهدت تلك المرحلة ظهور تكتلات عابرة للأحزاب والتيارات، كالحملة الشعبية لدعم محمد البرادعي رئيسا لمصر والجمعية الوطنية للتغيير (فبراير/ شباط 2010).
ويذكر الكتاب أن "صفحة كلنا خالد سعيد" كانت أول من تبنّى الدعوة إلى التظاهر في 25 يناير/ كانون الثاني 2011 (يوم عيد الشرطة)، حيث دعت إليها في 28 ديسمبر/ كانون الأول 2010، قبل هروب الرئيس التونسي، بن علي، وتفاعلا مع الثورة التونسية، وإن لم تكن أول من دعا إلى التظاهر في يوم عيد الشرطة، لأن مصر عرفت دعوة مشابهة في عام 2010. ولم تطالب الصفحة بثورة أو بتغيير النظام، بل طالبت بإقالة وزير الداخلية وحل مجلسي الشعب والشورى وإعادة الانتخابات. كما لم يساهم مسؤولو الصفحة في الإعداد للمظاهرات، فقد كانت شخصياتهم سرّية في ذلك الحين، وأن من أعدّ للتظاهر شباب حركات أخرى، تلقفت الدعوة وأعدّت لها.
ولم يتوقع منظمو مظاهرات 25 يناير العدد الكبير للجماهير المشاركة فيها، وإنْ أطلق بعضهم على خطة الإعداد اسم كرة الثلج، أملا من أن يساهم انطلاق المظاهرات في بعض المناطق الشعبية (كحي ناهيا الشعبي في محافظة الجيزة) في انضمام المواطنين لها. ولم يخططوا لوصولها إلى ميدان التحرير، بل كانوا يأملون الوصول إلى ميدان مصطفى محمود. ولم تعرف كل المجموعات التي تبنّت الدعوة إلى التظاهر، وشاركت في التخطيط لها بعضها، ما أدّى إلى