وقد نصّت الوثيقة المذكورة على أنّ "العدو ينشط أيضاً في ميادين ومستويات غير عسكرية صرفة. وقد نجح العدو في الماضي، في قضم إنجازات الجيش في هذه الميادين والمستويات. ولهذه الأخيرة، وجوه دفاعية وهجومية، ترمي إلى تأمين أدوات للجيش، من خلال توفير الشرعية الدولية لعملياته، ونزع الشرعية عن العدو، وبالتالي، توسّع مجالات المناورة والعمل العسكري للجيش في ساحات القتال، خصوصاً في ظلّ التعقيدات المتطورة باستمرار، في مجال الحرب والقتال، واستخدام القوة ضد الأهداف المدنية والمدنيين".
وقد التقطت العقيد السابق في جيش الاحتلال، قسم القانون الدولي في النيابة العسكرية، الباحثة في مركز "أبحاث الأمن القومي" الإسرائيلي، بنينا شربيط باروخ، هذا الجزء من الاستراتيجية الجديدة لجيش الاحتلال، للدلالة على أنّ قيادة الجيش باتت تدرك اليوم، أنه "لم يعد بمقدور الجيوش الغربية تجاهل الإطار القانوني ولا الرأي العام العالمي، خلال القتال، ومن ثم الانتصار في المعركة، فقد ولّت مثل هذه الأيام. وكل جيش غربي يخوض حرباً، يكون تحت مراقبة وسمع وبصر وسائل الإعلام، إذ ترد صور الفظائع الناجمة عن القتال، بشكل مباشر ومن دون وسيط إلى وسائل الإعلام والإنترنت، لتولّد ضغطاً عالمياً فورياً بالامتناع عن المس بالمدنيين والبنى التحتية".
ويعكس هذا الحرص الذي تبديه بنينا على الانتباه إلى مخاطر الثورة الإعلامية، سعياً إسرائيلياً إلى تغيير المفهوم العالمي للقوانين الدولية، وكل ما يختص بضرب المدنيين واستهدافهم، عبر صياغة وعي "قانوني" جديد، يوفّر الشرعية المطلوبة لتبرير مثل هذه الحالات، مع وضع أسس تبيّن اهتمام الاحتلال وسعيه للالتزام بالقانون الدولي.
كما ترى بنينا، أنّه في ضوء "الحاجة الهامة للشرعية الدولية، وتوفرها لتكريس وترجمة إنجازات الجيش الميدانية، من المهم فحص ما يمكن القيام به وما يجب الامتناع عنه، لتعزيز هذه الشرعية الدولية، حتى لا يتم قضم إنجازات الجيش العسكرية وخسارته في الميدانيْن الإعلامي والقضائي الدولي، في حال اهتزت الشرعية الدولية للقوة المستخدمة".
وإن كانت شربيط ترى ضرورة الانصياع لضوابط القانون الدولي، باعتباره المفتاح الأساسي لتوفير الشرعية الدولية أثناء القتال، إلّا أنّها لا تنسى الترويج للادعاءات القائلة إنّ "قوانين الحرب الحالية لا تلائم ساحات القتال الجديدة، وأنها صيغت عملياً لحالات الحرب بين الدول وليس بين دول ومنظمات شبه دولية". وعلى الرغم من ذلك، فهي تقرّ بأنّ "التصريحات عن أنّ القوانين تقيّد حركة الجيش، هي غير دقيقة وهي تضرّ عملياً في الشرعية الدولية المطلوبة، خصوصاً في حال صدرت عن جهات عسكرية أو سياسية، لأنّها تمكّن العدو من تقديم دليل على أن انتهاك القانون الدولي كان مقصوداً".
اقرأ أيضاً: تخوّف إسرائيلي من هجوم "حماس" على حقول غاز
وتدعو بنينا، استناداً إلى رصيدها العسكري في النيابة العسكرية والقسم الدولي لجيش الاحتلال، إلى مواجهة واقع تبلور القانون الدولي المتّبع، من خلال الممارسة التقليدية للدول على مرّ السنوات الأخيرة، والتي حدّدت حظر المس بالمدنيين، مع ما رافق ذلك من نشاط الجمعيات الحقوقية الدولية. وتدعو إلى واجب تغيير الوعي العام من خلال نشر دراسات وآراء مئات الحقوقيين المختصين في هذا المجال، التي تقدم تفسيراً مغايراً لقوانين الحرب (التي تحتمل باعتقادها ككل مجموعة قوانين أخرى، تفسيرات مختلفة).
وتشير شربيط إلى أنّ خطوة من هذا النوع، كانت قد قامت بها الولايات المتحدة نفسها، عبر نشر وزارة الدفاع الأميركية لكتاب تضمّن المفهوم الأميركي لقوانين الحرب في سياق جوانبها الدولية وشرعيتها الدولية، مقترحة أن تقوم حكومة إسرائيل بخطوة مشابهة، تمكّنها من تثبيت قواعد قانونية تطبيقية في الحروب. ويعني اقتراح بنينا، ضرورة النهوض بمشروع "قومي" يتطلب رصد الميزانيات وتشجيع نشر وجهات نظر ودراسات قانونية، تسهّل تفسير أوجه المحاذير الدولية، وفق النظرة الإسرائيلية، من جهة، وضرورة تدريب قادة الجيش في الوقت ذاته، تدريباً قضائياً، يتيح لهم حرية اتخاذ القرارات التي لا تتصادم مع القانون الدولي في ميادين القتال، من جهة ثانية.
إلى ذلك، تقترح شربيط من أجل ضمان أرضية "الشرعية الدولية القانونية"، لحملات وعمليات الجيش، استشارة خبراء في القانون الدولي منذ مراحل التخطيط والإعداد، وليس فقط عند تنفيذ العمليات العسكرية أو بعدها. ويتطلب الاهتمام بالشرعية الدولية، وفقاً لها، الإبقاء على رتبة جنرال للمدعي العسكري العام وعدم خفضها إلى بريغدير جنرال، حتى تُحفظ هيبة المدعي العسكري أمام باقي جنرالات الجيش ولا يتم الاستهزاء بموقفه "القانوني" أو برأيه.
هذه الورقة التي نشرتها شربيط في اليومين الماضيين، على موقع معهد "أبحاث الأمن القومي" الإسرائيلي، تنضم إلى سعي فعلي سابق من جيش الاحتلال وحكومته، بهدف تجنيد خبراء قانون دوليين قبل أشهر عدّة، للرد على تقرير الأمم المتحدة بشأن جرائم الحرب الإسرائيلية في العدوان الأخير على قطاع غزة، وتنظيم قسم النيابة العسكرية والعلاقات الدولية في جيش الاحتلال لبحث دراسي حول إشكاليات "حرب عصابات" في المناطق المأهولة بالسكان المدنيين، بنظر القانون الدولي. وتخلص الدراسة إلى تبنّي ما جاء في وثيقة الاستراتيجية الجديدة لجيش الاحتلال، باعتبار الشرعية الدولية عنصراً ومركّباً ضرورياً وحيوياً في الأمن القومي الإسرائيلي.
اقرأ أيضاً: جنرالات إسرائيل... تجّار سلاحٍ يغذّي حروب العالم