من نافلة القول

19 يونيو 2019
+ الخط -
في سنة 1942، تقدّم أحد القراء إلى عباس العقاد ببيتين من الشعر، ونسبهما لابن الرومي، ثم طلب من العقاد التعليق عليهما بالمقاييس الفنية التي درس بها سيرة ابن الرومي في كتابه الشهير، والبيتان هما (سقته ندى السحب من مرضعاتها / أفانين مما لم تقطره مرضع/ كألفي رضيعٍ من بني النضر ضمنوا/ محاسن هذا الكون والكون أجمع).

وقال القارئ للعقاد: إنك تقول عن ابن الرومي إنه عالمي؛ فأين العالمية؟ بل أين الشعر في هذين البيتين التافهين؟! وتصدى العقاد للرد على القارئ في مجلة الرسالة بعددها الصادر في الرابع من مايو/ أيار 1942 ليبرر هذين البيتين ويقدم لهما تفسيرًا معقولا، ولم ينفِ العقاد نسبة البيتين إلى ابن الرومي، وقال في معرض الرد على القارئ: "إن هذين البيتين ليسا مما يعاب على ابن الرومي أو على غيره من الشعراء".

يحمل البيتان من الركاكة ورداءة السبك ما الله به عليم، ولكن العقاد دافع عن البيتين ونافح، ولم يتحرج من الدفاع المستميت عن ابن الرومي. جاء رد القارئ على العقاد ليحمل مفاجأة غير سارة؛ فقال: إنني مؤلف هذين البيتين، وليس ابن الرومي، وقد كتبتهما على عجل، ولم تكن في ذهني فكرة ما أريد التعبير عنها!


حدث ذلك بينما كان العقاد يروِّج لنفسه على أنه مكتشف ابن الرومي في العصر الحديث، وأنه أعلم الناس بشعر ابن الرومي وشخصيته، كما اعتبر نفسه مرجع المراجع في هذا الموضوع! وكتب أحمد حسن الزيات - صاحب مجلة الرسالة - تعليقًا على ذلك: "ذلك عبثٌ كنا نحب الكاتب - وهو من رجال التعليم في ما نظن - أن يتكرم عنه احترامًا للرجل الذي يكتب إليه وللقارئ الذي يكتب له، وللمجلة التي يكتب فيها وللأدب الذي يعلمه".

وهذا المثال - صديقي القارئ - لا نسوقه شماتة في أستاذنا العقاد؛ فالعقاد قامة وقيمة لا ينكرها إلا جاهل، لكن الفكرة التي ندندن حولها موجزها أن العلم أكبر من أن يحاط به، والكل يخطئ ويصيب؛ فلا تجعل من رأي أحدهم مهما بلغت خبرته سجنًا لك أو قالبًا لطموحاتك وأحلامك، وعلى المرء أن يسعى وليس عليه أن تتم المقاصدُ.

ومن هذا الموقف أيضًا، يتعين عليك أن تأخذ الأمور بروح رياضية، فلم يحدث أن انتحر العقاد بعد هذا الخطأ أو السقطة - كما يحلو للبعض أن يسميها - فالإنسان يجتهد ويخطئ أحيانًا، وعليه أن يتقبل ذلك وألا تذهب نفسه حسرات، موقف مضى وتعلمنا منه، والدنيا لم تنته، ونقطة ومن أول السطر.

مع موت الفراء وفي نفسه شيءٌ من حتى، لكنني أؤكد لك أن الجميع يخطئ، حتى الكبار يخطئون، ربما تتوهم أن في الأمر تعميماً لا يقبله المنطق، وربما تهمس في أذني أن احتاط لنفسي بنبذ التعميم، والانتقال من عباءة "الموجبة الكلية" الواسعة إلى حصن "الموجبة الجزئية" الرشيد، وعندها سأقول لك إن الإنسان يخطئ ويتعلم من أخطائه، فإن لم يفعل لم يتعلم ولن يتحسن ولن يتكيف مع التغيرات من حوله.

وهنا لن أسوق أمثلة عن أخطائي، ليس من قبيل كمال العبد لله أو تميزه وتفرده، بل لأنني أقل شأنًا من أن أقدّم نفسي قدوة أو مثالًا، وأنقل لك من أخطاء الكبار نتفًا يسيرة، لا أشجعك من خلالها على انتقاصهم، إنما لتقف على حقيقة أنهم لم يكونوا معصومين من العثرات والزلات، ولتتسامح مع نفسك وتتصالح مع هفواتك، وتتعلم منها ما يرفع شأنك ويعلي قدرك، فلربما كنت المثال الذي يسوقه الكتّاب والصحافيون للشباب والمراهقين لاحقًا، ومن يدري؟!

قبل ساعات، نشرت مجلة Southern Communication Journal (SCJ) دراسة حديثة مفادها أن كثيرين لديهم ميول للتفكير المفرط في الأحداث السلبية، وأنهم يقضون الساعات الطوال يفكرون في ما كان يتعين عليهم، أو ما كان يجب عليهم أن يفعلوه، ويهلكون أنفسهم جلدًا وتأنيبًا، ومنهم نسبة لا بأس بها تسقط في فخ الاكتئاب والقلق. وعيك لهفوات الكبار يوفر عليك مساحة من تفكيرك، ويقلص احتمالات جلد الذات ولومها وتقريعها على أشياء يقع فيها الجميع.

وفي هذه النقطة تحديدًا، أسوق لك موقفًا جرى معي، ولا أناقض نفسي بعدم الحديث عنها؛ فإنني أدلّل لك بما أفدته شخصيًا من هفوات الكبار، ومجمل الأمر أنني أملك ذاكرة فولاذية، نادرًا ما تخذلني أو تتأخر في إسعافي، لكنها في الوقت نفسه ليست معصومة من الخطأ. نتيجة لذلك، كتبت مقالًا عنوانه "لولا الدراهم ما حيّاك إنسان"، وذكرت أن هذا عجز بيت لعروة بن الورد العبسي!

كما تعلم فإن البيت ليس لعروة بن الورد، وكما أنني درست ديوان عروة غير مرة، وعلى يقين من أن الشطر ليس له، وإنما هو لأبي الفتح البُستي، لكنني سهوًا نسبته لعروة وبخست البُستي حقه، وطُبِعَ المقال وقرأه الناس. ولمَّا أفقت من سكرتي، انتبهت إلى هذا الخطأ غير المقصود، ومن الضيق لم أنشر المقال على مواقع التواصل، وتمنيت - والأمنية للمستحيل - أن يعود الوقت ساعتين فأصحح هذا الخطأ، وكأنه لم يكن من الأساس، لكن هيهات!

ودون سابق إنذار، قررت أن أراجع ديوان عروة بن الورد، ثم أطوِّف بديوان أبي الفتح البستي، لأدرأ عن ذاكرتي ما ران عليها من الصدأ، وألحت على ذاكرتي مواقف مشابهة؛ فوددت أن أذكر نفسي وأذكرك معي - وسامحني على الإزعاج - بهما من باب الاستئناس والتعلم، وبهما ومثلهما نتعزى على ما نقع فيه، ونخفف من حدة الإحراج والخجل وجلد الذات.

الحادثة الأولى من طريق إحسان عبد القدوس؛ إذ يقول في حوار تلفزيوني قديم "بعد هذا العمر في الصحافة، أعود الآن لكتبي القديمة عند إعادة طبعها، وبها أخطاء إملائية ونحوية، وأقف أمامها مبهوتًا، ومع ذلك لا أصححها!" ثم يبرر موقفه قائلًا "لقد تعلمت من هذه الأخطاء، هي التي صقلت لغتي وحسنتها؛ فلها فضل عليَّ لا أغفله، ولا أتنكر لهذه الأخطاء التي تعلمت منها".

أما الحادثة الثانية، فهي من طريق عبد الحميد جودة السحار، وكانت أولى قصصه "أحمس بطل الاستقلال"، لكنه لا يراها عملًا يستحق أن يُخلع عليه اسم قصة، لكنه يدين لها بكثير من العرفان، ومن خلالها تجنب الخلل وتعرف على مواطن ضعفه، ثم أفاد منها وصقل موهبته وكتب عددًا من القصص القوية. انتقد السحار نفسه في كتابه "القصة من خلال تجاربي الشخصية"، وكان يقيس على أخطائه في عمله الأول، لكنه لم يتبرأ منه بأي حال، وهذا ديدن الناجحين.

وبالعودة إلى دراسة SCJ فإننا نجد أن الأفكار الاعتيادية السلبية على وجه العموم والمتعلقة بالاكتئاب بشكل خاص تنقسم إلى التقييم والاجترار؛ فكلما كان تقييمك لنفسك وللأحداث من حولك تقييمًا موضوعيًا، لا تتحامل على نفسك ولا على الآخرين؛ فإنك تزحزح نفسك عن دوامة جلد الذات وتتجنب الاكتئاب وتتخطى حواجز القلق وتمضي في طريق رشيد. لكنك إن اخترت التقييم المجحف لمسارك، وأدميت عقبيك من الأسف، وندمت ندامة الكسعي على كل هفوة، واستوقفت الأحداث العابرة وضخمتها ونفخت فيها من روح الفشل واليأس؛ فإنك لن تجني من الشوك العنب، ولن تمضي للأمام قيد أنملة.

أما الاجترار فهو على شكلين؛ فقد تجترّ ذكرياتك المحفزة والتي نجحت فيها، وحينها تجد في نفسك نشاطًا وإقبالًا على العمل والحياة، وإما أن تجتر المآسي والأهوال، وترى أنك مسؤول عن نكد الكون بأسره، وأنك وحدك سبب كل رزية وبلية، وعندها فأنت تطفئ شمسك بيدك. قارنت إحدى الدراسات استراتيجية الاجترار بعدد من استراتيجيات أخرى لـ114 دراسة مختلفة أجريت على آلاف المشاركين، وكشفت النتائج أن الاجترار هو الاستراتيجية الأكثر ارتباطًا بالأمراض النفسية بشكلٍ عام، بما في ذلك اضطرابات الأكل والنوم والقلق والإدمان والاكتئاب.

إن طرق التفكير الاعتيادية (التقييم/ الاجترار) إما أن تقدم لك تشجيعًا وتحفيزًا، وإما تصفعك بالاكتئاب والقلق، وعليك أن تتعلم ما يعزز التشجيع والتحفيز، وثق أن الكبار ليسوا معصومين، وهم يخطئون أيضًا، لكنهم يرون الأمر بمنطق "كلّ ابن آدم خطاء"، وهذا منطق العقلاء.