أنا موجود.. إذن "هكذا أفكر"
لعلّ أشهر عبارات الفلسفة هي عبارة الفيلسوف الفرنسي، رينيه ديكارت: "أنا أفكر، إذن أنا موجود". وقد شغلت تلك العبارة عقول الكثير من الكتّاب والفلاسفة، فقال بعضهم إنّ ديكارت أراد بتلك العبارة أن يؤكد أنّ طبيعة تفكير الإنسان تؤثر في طبيعة وجوده، وأرغوا في ذلك وأزبدوا، حتى أخال أنّ ديكارت نفسه لم يكن ليفهم كلّ ما قالوه في تفسير عبارته. في الواقع، لم أرَ لعبارة ديكارت هذه المعاني المحمّلة، بل رأيتها رائقة بسيطة، تخدم تجربته، فما إن شكّ في وجوده حتى لاحظ ملاحظة بسيطة مفادها أنّه يفكر، وهذا دليل قطعي على وجوده. رغم بساطة تلك الفكرة، فهي تُعد فتحاً في سياقها، وإن رماها الناس بالاصطناع والتكلّف، وذلك وارد.
هذا ما خطر ببالي عندما وضعت كتابَي السيد عارف الحجاوي، أمامي وشرعت في قراءة أولهما المعنون "هكذا أفكر". انتابتني بعض الدهشة من قراءة الشذرات، ابتسمت أحيانًا، ولكني وجدت فيها صدقًا جميلًا وصراحة ووفاءً بشروط التعاقد بين القارئ والكاتب، فقد عرض طريقة تفكيره بالفعل.
لعل ما قد يجده البعض من صدمة أو من امتعاض منها يرجع إلى ارتباط كلمة التفكير والفكر بشكل من أشكال الارستقراطية القديمة، فيرتبط التفكير بالمعاني "العليا" و"المترفعة"، ويطلق على الكاتب النابه أو الأحمق أو من لا مهنة له لقب "المفكر". يتركز تفكير البشر لا شك على قيم عليا ومعانٍ سامية، ولكنه يرتبط في كثير من الأحيان بأشياء نراها محتقرة؛ كالمطعم والمشرب والمأوى والمتكأ والمركوب والملبوس وغيرها من تفاصيل الحياة ودقائقها التي تشغل جزءًا كبيرًا من أذهاننا على عكس ما ينكر البعض. لعل ديكارت عندما أمسك نفسه في موضع التفكير وجدها تفكر في طبق شهي تذهب إليه نفسه أو غيره من متع الحياة الزائلة.
لعل ديكارت عندما أمسك نفسه في موضع التفكير وجدها تفكر في طبق شهي تذهب إليه نفسه أو غيره من متع الحياة الزائلة
إذا ما طلبت تقييمي للكتاب، فلن أحسن أن أحدثك حديث الأكاديميين عن السرد والتركيب والبنية وغيرها مما لا أدعي إتقانه. ولا أحسن أيضًا أن أكتب تلخيصًا لأهم أفكاره، بل أقصى ما أعدك به هو انطباع شخصي لا أكثر. ولذا أقول إنّ لغة السيد عارف ناصعة وراقية، والأهم من ذلك أنّها حيّة. وأهم ما يميّز أسلوبه أنه "يكتب كما يتكلم" فتحسّ بتفاعل مع النص المكتوب وتشعر بكثير من الأنس والألفة معه. كما أنّ لغته ليست بالمعقدة، سواء كان الموضوع معقدًا متشابكًا أو سهلًا واضحًا.
أوفى الكتاب بعهده في توضيح فكر مؤلفه، فهو يُورد تفكيرًا لا كما يرى "المثقفون" بل تفكيره هو، وتفكير كل إنسان مليء بالعقلانية والحياد كما هو مليء بالعاطفية والهوى وأشياء أخرى تستعصي على التعبير. فعوضًا عن "أنا أفكر، إذن أنا موجود" يذكرنا السيد عارف بأنّ "الوجود يسبق التفكير" بتحوير لعبارة سارتر الشهيرة. لا يعبّر الكتاب عن "طريقة التفكير" على المذهب الديكارتي، فهو لا يعرض تجربة فكرية بشكل مرتب، لكنه يعرض مقالات قد لا تجد رابطًا يجمع بينها. ولذا فإنّ ذلك العنوان يعبّر بصدق عما بداخله، بل أظن أنّ أيّ كتاب يكاد ينطق بلسان مؤلفه، ويقول: "هكذا أفكر".