أنا ومن بعدي حميدتي والبرهان!
في السودان، أرض الطيبين، وبعد احتقان طال واستطال، لا صوت يعلو فوق أزيز الرصاص، ومع عبثية الأحداث، يتجمّد التاريخ في لحظة جمعت الميلودراما والكوميديا السوداء وسخرية الأقدار والمفارقات. يدبّ وكيل وزارة وحرمه المصون في زمرة الرعايا الفرنسيين، نحو طائرة إجلاء الأجانب من ويلات اقتتال حليفيْ الأمس، إذ "في صفقة العمر جلادٌ وسيده/ وأمةٌ في مزاد الموت تنتحر".
الرشيد سعيد يعقوب وكيل سابق بوزارة الثقافة والإعلام وقيادي بتحالف قوى الحرية والتغيير يعطي ظهره لرتبته ومنبته، بحوزته زوجته السفيرة هالة بابكر. الزمان الرابع والعشرون من إبريل/نيسان 2023، المكان مطار وادي سيدنا (شمالي البلاد)، صفوة القول "ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا"، والأفعال أبلغ من الأقوال، وسنحيا في أي ناحية! وفي الركن البعيد الهادي يطلّ فاروق جويدة يبكّت السذّج والحالمين "لن يطلع الفجر يومًا من حناجرنا".
تتابع المقطع المصوّر الذي شوهد آلاف المرات في غضون ساعات، مشهد يحيل إلى 15 أغسطس/آب 2021، حين هرول كثيرون إلى مطار كابول مع سيطرة حركة "طالبان" على مقاليد الأمور في أفغانستان. قيل إنّ مجموعة من الخونة ممن باعوا أنفسهم للأميركان خافوا على أنفسهم، فقرّروا الرحيل قبل أن "تقع الفاس في الراس". ليس من حقنا (ولا بوسعنا) أن نرمي الرجل بالخيانة أو العمالة، وفي التأني السلامة.
"في اللحظة الحرجة" (بتعبير يوسف إدريس) تتوّسع شرايين الخيال لاستيعاب مفارقة من هذا العيار الثقيل، تسأل نفسك: "كتكوت -يا كبيرة- خان العهد"، أم أنه لم يخن وإنما استعمل دبلوماسية "أنا ومن بعدي السودان" أو "أنا ومن بعدي البرهان" بعد تحريف طفيف لقول الأول "أنا ومن بعدي الطوفان"، أم في الأمر أبعاد لم تصلنا حتى الساعة؟ كلها أسئلة مشروعة، وإن شئت أن تضيف لها تساؤلًا آخر، لعلك تضيف بنبرة التائه الحيران: هل تثبّت الأول حين قال "انج سعد فقد هلك سعيد"؟ أم اختلط عليه الأمر، لا سيما، وأنّ سعدًا وسعيدًا توأمان، وقد يكون سعيدٌ الناجي، والهالك المكوي بلظى الحرب هو السودان؟!
"كتكوت -يا كبيرة- خان العهد"، قالها خليفة بملء شدقيه، ثم طلب إلى الكبيرة أن تدخل لتستريح على الأريكة، بينما سيتابع (دونما هوادة) هذا المارق الذي شقّ عصا الطاعة، ثم استعار حنجرة عصام الشوالي نافثًا في صدور الرّجال الحمية (حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) لضبط وإحضار كتكوت أبو الليل "إحنا دي الوقت في حالة حرب، لو مجبناش كتكوت هنا، الكبيرة دي هتقطعنا تقطيع"، ثم انتزع من الحشد الماثل بين يديه موافقة صريحة بسؤال مباشر قصير مغلق "موافقين تدخلوا الحرب دي؟".
لم يفكر الحشد، ردّوا بالإيجاب، وكان لزامًا أن يتساوق القول والفعل، فأشار إليهم أن تحرّكوا "بينا يا رجالة"، (فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ) تغلي صدورهم كالمراجل (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) بحثًا عن هذا الكتكوت ضعيف الجناح. قُبيل انطلاقهم بأجزاء من الثانية، قال لهم خليفة حين وافقوا على خوض غمار الحرب "وأنا أولكم"، متبوعة بالجملة التحفيزية الحماسية "بينا يا رجالة"، واشترى الرجال من خليفة وخرجوا لتنفيذ التكليف، ودخل خليفة داره بطيب خاطر وصدر منشرح (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا).
مع عبثية الأحداث، يتجمّد التاريخ في لحظة جمعت الميلودراما والكوميديا السوداء وسخرية الأقدار والمفارقات
تتلاطم المواقف والأحداث في ثوانٍ معدودات، يسترجع المتعب اليائس شريطًا من الذكريات، قد يمر العمر كله بين عينيه بالتزامن مع هذا المشهد، (في الحلم موتي.. مع الجلاد مقصلتي/ وبين موتي وحلمي ينزف العمر)؛ فيحدث نفسه: من يعيد لنا أنجم العمر التي انتحرت وسنضمن له (بكل ما يشترطه علينا من وعود وعهود) أن نتوب عن أحلامنا، أن نتبرّأ إلى الله منها، أن نعيش ضاربين بيننا وبين السّلطة وحميدتي والبرهان وعِلية القوم ألف سور مثل سور الصين العظيم، أن نعيش حياتنا بعجرها وبجرها دون أنين أو همس.
فشخت المنطق يا سعيد، أتعبت من بعدك يا سعيد، وما تفسير الحرية والتغيير لهذا الحرج البالغ؟ يتندر شاب أغاظه المقطع المصوّر، يضرب بكفه اليسرى جبهته قائلًا "ثورية زائفة، هكذا يدافع الناس عن وطنهم، يترك الطبيب مريضه في غرفة الإنعاش ويذهب لتناول طبق راتاتوي ثم يحتسي كافيه لاتيه، وللمريض ربّ يشفيه. لعل الطبيب أيقن احتضار المريض ورمقه بنظرة وداع على لشان القديرة شيرين: سلّم ع الشهدا اللي معاك".
يحاجج أحدهم: طيب إيه المانع؟ "اللي إيده في المياه مش زي اللي إيده في النار"، ألم يقولوا إنّ الفرار في وقته خير من الثبات في غير وقته؟ السِّلم أزكى للمال وأبقى لأنفس الرّجال، ولسنا في حالة سلم، فلماذا يُستكثر على المرء أن يفرّ من قدر الله في البلاء إلى قدر الله في العافية؟ ثم هذا فريق المريخ السوداني يطير إلى القاهرة، وهل كلّ من ينجو بنفسه وأهله خرج من الملّة؟
يقول آخر "يعني شنو مشكلتكم أنتم، يا أخي ما قدرتم على الحمار فسلطتم ألسنتكم وأقلامكم على البردعة؟ نار ودمار وتريدون من الناس (أي ناس) أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة؟ على أهلها جنت براقش، البرهان ما بيتراجع، وحميدتي ما بيسلّم، وصل الصدام بينهما إلى مرحلة اللاعودة، دي بصلة وقشرتها، والداخل بينهما هالك لا محالة، (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ)، عليه العوض ومنه العوض".
يشيح بوجهه يغالب دمعة تترقرق في عينيه، يجمع أغراضه وابنته المريضة مستمهلًا المهرولين إلى خارج دائرة النار، وهو يضيف "العمر واحد والنفس عزيزة، الحياة أفضل من الموت، والفرار في وقته ظفر، فلا تزايدوا على خلق الله".
يتمتم شيخ كسر الدهر ظهره (يعقوبُ لا تبتئس.. فالذئب نعرفه/ من دمّ يوسف كلّ الأهل قد سكروا)، وتسمع في الأفق بدوي الجبل يصرخ "يا سَامِرَ الحَيَّ هَلْ تَعنيكَ شَكوانا/ رَقَّ الحَديدُ وما رَقُّوا لبَلوانا".