إضاءات لغوية.. دمدم (1/2)
الثراء اللغوي من نفحات القراءة، تتكشّف لك لغة الكاتب وقدر لا بأس به من ثقافته؛ فهذا غارق لأذنيه في كتب التراث، وذاك يصيد بعض دررها ويزنها بميزان الذهب، ينتقيها كما ينتقي لمعدته أطايب الطعام، وغيرهما مقتصد في التعامل مع الكلمات غير المألوفة لزمانه وإيقاع مجتمعه، وآخر حاطب ليل، يخبط خبط عشواء، لا يفرّق بين غث وسمين، كل ما يعنيه أن يسكب حبرًا على ورق، وأن يحشر نفسه في عِداد ذوي الأقلام.
ثمة طائفة أخرى تعيش انفصالًا غريبًا عن الواقع، لا تستمرئ إلا وحشي الكلام وغامض اللفظ ومتكلَّف المعنى، إما بحثًا عن تفرّدٍ واستظهارًا لقدرات لغوية وأدبية، وإما نتيجة تشبُّع بثقافة عصرٍ بعينه دون غيره، أو إيثارًا لشخصية قضت هاموا بأسلوبها وعشقوا طريقتها حتى النخاع، وإما تأثرًا بطبيعة بيئية أو دراسية فرضت عليهم هذا المستوى العالي من اللغة، أو لأسباب طي الكتمان.
لا حرج أن يلتقي الطرفان على أرضٍ محايدة، لغة عربية فصحى لا تزل إلى مستنقعات العامية، ولا تتعالى إلى التكلف والتعمُّل وإرباك القارئ وإبهام المعنى، لا سيَّما في عصرٍ تطغى فيه ثقافة مقاطع الفيديو على الكتب الورقية والإلكترونية على حدٍ سواء. ألحت عليّ هذه الفكرة مرارًا، وسجلت نُتفًا من مواد تحتاج مراجعة -أو بالأحرى تحديث- القاموس اللغوي للكاتب والمترجم والمتحدث.
أطال عمنا يحيى حقي النفس في كتابه "أنشودة للبساطة" حول مفردات شاعت خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وناشد الكتاب أن يفكوا أسر كلماتٍ بعينها من كتاباتهم، متحديًا نفسه -قبل أن يتحداهم- أن كتابتهم لا تخلو من مفردات محشورة بغير وجه حقٍ -مراتٍ ومرات- جراء فقرهم اللغوي. يُفهم من ذلك أن كاتب هذه السطور لم يأتِ بجديد ولم يفتح عكا، إنما قيّد ملاحظات شخصية حول بعض الألفاظ، وزينت له نفسه أن يعرضها للفائدة العامة.
لا معنى لاستعمال كلمة دمدم في حديث يدور بين الشخصيات الورقية (الروائية)، ولا مبرر لاستخدامه في الحياة العامة، ما لم يكن مدار الحديث في إطار عداء أو خصومة مستعرة
وأنت تقرأ عملًا أدبيًا، يتبادر إلى الذهن المبالغة في استعمال كلمة ما، ربما تتضجر أو تقرأ على مضض، وربما تبحث عن ترجمة أكثر احترافية، لكن ماذا لو أنها الترجمة الوحيدة؟ أو أفضل التراجم المتاحة؟ إليك مثال، حين تقرأ عددًا لا بأس به من الروايات العالمية المترجمة، وتقف على استعمالٍ مبالغٍ فيه لكلمة ما، تسأل نفسك: هل عقمت اللغة العربية فلا بدائل أو مفردات لهذه الكلمة؟ أم أن القاموس الشخصي للمترجم ضحلٌ هزيل المحتوى؟ ما ينسحب على كلمة، يُطبّق على عشرات الكلمات -والألفاظ والتراكيب- غيرها.
بين يدي الآن رواية من الأدب اللاتيني، اتكأ المترجم فيها -ضمن ما اتكأ- على لفظة دمدم بشكلٍ مفرط؛ ففي رواية من القطع المتوسط، عدد صفحاتها 192 صفحة، ذكر المترجم الفعل (دَمْدَمَ) 27 مرة، والفعل نفسه ملحقًا بتاء التأنيث (دمدمت) 8 مرات، أما كلمات (يدمدمون/ يدمدم/ مدمدمًا/ دمدمة)؛ فنصيب كل واحدة منها مرة يتيمة، ثم انتقل إلى كلمة مشابهة (تَمْتَمَ) فذكرها مرتين، في حين وردت كلمتا (يتمتم) و(التمتمة) مرة واحدة.
في هذه السطور، نستعرض معنى دمدم والفرق بينه وبين معاني كلمات مثل (تَمْتَمَ/ غَمْغَمَ/ دَنْدَنَ/ بَرْطَمَ/ رَطَنَ)، ثم نحكم على صحة استعمال الكلمة محل النقاش في عددٍ من جمل إحدى الروايات.
بدايةً، أشهر استخدام لهذه الكلمة يرد في الذكر الحكيم، في سورة الشمس، إذ يقول المولى تبارك اسمه "فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها"، ويُدرك القارئ من سياق السورة أن المراد إلحاق العذاب بقوم نبي الله صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ ففي "التحرير والتنوير" يقول الطاهر بن عاشور عن معنى الآية الكريمة (أي صاح عليهم ربهم صيحة غضب، والمراد بهذه الدمدمة صوت الصاعقة والرجفة التي أهلِكوا بها)، وقد قرأ الجمهور (فدمْدم/ بميمٍ بين دالين)، وقرأ ابن الزبير (فدهْدم/ بِهاءٍ بين دالين)، قال القرطبي: وهما لغتان كما يقال امتقع لونه واهتقع لونه.
والفعل دمدم على وزن فعلل، والمراد أطبقَ عليهم الأرض، ويقال دمَّم عليه القبر إذا أطبقه، ودمدم مُكرّر دمَّم للمبالغة في المعنى مثل كَبْكَبَ، وتكرر في هذا الفعل حرفان أصليان بعد حرفين أصليين، ومثله نجد أفعال (زلزل، حصحص، شقشق، وسوس، همهم، غمغم، تمتم، دندن، جرجر)، وهي أفعال رباعية عند جمهور البصريين، وانفرد أبو بكر بن دريد -صاحب المقصورة- فوضع لها بابًا خاصًا ألحقه بباب الثنائي.
في "الصحاح" يقال دمدمت الشيء إذا ألزقته بالأرض وطحطحته، وقال القرطبي في تفسيره "وحقيقة الدمدمة تضعيف العذاب وترديده"، أما في "معجم اللغة العربية المعاصرة"، فيقول الدكتور أحمد مختار عمر: "دمدم على، يدمدم، دمدمةً؛ فهو مدمدِم، والمفعول مدمدَمٌ عليه، ودمدم على القوم أي غضب عليهم فأهلكهم". قال غيره إن دمدم بمعنى دمر، وأصل الدمدمة الغضب، وعند صاحب "فتح البيان في مقاصد القرآن" الدمدمة إهلاكٌ باستئصال.
يقول السمين الحلبي في "الدر المصون في علوم الكتاب المكنون "إن الدمدمة حكاية صوت الهدَّة (بالدال)، وهو ما يُثبته القاسمي في "محاسن التأويل"، في حين تجد في "حاشية الطيبي على الكشاف" نقلًا عن الراغب أن الدمدمة حكاية صوت الهرّة (بالراء)، وعنه أخذ صاحب "الأصلان في علوم القرآن"، وكذلك محمد عبد الخالق عُضيمة في "دراسات لأسلوب القرآن الكريم"، علاوة على إبراهيم الإبياري في "الموسوعة القرآنية"، ولا شك أن تصحيفًا (تغيير في حروف الكلمة) وقع فيه أحد الفريقين.
تأسيسًا على ما سبق، لا معنى لاستعمال كلمة دمدم في حديث يدور بين الشخصيات الورقية (الروائية)، ولا مبرر لاستخدامه في الحياة العامة، ما لم يكن مدار الحديث في إطار عداء أو خصومة مستعرة؛ إذ إن سماع الكلمة -أو قراءتها- تُحيل المتلقي إلى المعنى أو أكثر المعاني شُهرةً، ما لم يكن دراسًا للغة متعمِّقًا في الفروق اللغوية.
حتى الآن، قد تشعر بارتباك في المعنى وأنت تقرأ تعبير أحدهم "دمدمت: لم تعد حياتنا كما كانت، شيء تغيَّر بيننا لا أفهمه، ثم أطرقت مليًا والدمع يخنقها"، وفي موضع آخر "نهض واقفًا ودمدم: طابت ليلتك"، حينها تسأل: أين معنى دمدم من السياق؟ وهل يمكن استخدام مفردة أكثر دقة؟ وهذا مدار حديثنا المقبل.