الرأسماليّة والمَلل
سعيد ناشيد
كيف انتصرتْ الرأسمالية على أنصارِ الحقِّ في العُطل، الحقّ في الرعاية، الحقّ في التقاعد المُبكّر، وعمومًا الحقّ الإنساني في "أوقات الكسل"؟
على مدى العقدين الماضيين، أشهرنا القبضة بالملايين، ثم خسرنا كلّ شيء في نهايةِ الأمر! ملأنا الأرض بالمسيراتِ والإضراباتِ والمنتدياتِ ثمّ تلاشى الحلم فجأة! ملاحم كبرى من حركاتِ مُناهضةِ العولمة، واحتلوا وول ستريت، والمنتدى الاجتماعي العالمي، والسترات الصفراء... إلخ، كلّها صارت فجأة هباءً منثورًا.
انهارتْ المقاومة حتى إشعار آخر. ثم ماذا بعد!؟
حتى "الأحلام الخطرة" في شمال أفريقيا والشرق الأوسط تحوّلت بدورها إلى كوابيس بلا نهاية. ربّما نسينا أنّ القوّة وهمٌ قد يدمّر كلّ شيءٍ لكنه لا يستطيع أن يبني أيّ شيء، بل كلّ ما فعلته مشاعر الاستقواء بالجموع أنّها حرمتنا من فرصةِ طرح الأسئلة الحقيقية.
وإلى الآن لم نطرح أسئلة التقييم بعد.
أمّا بخصوصِ خياراتِ الرأسمالية العالمية فهذا هو السؤال الآن: كيف تمّ تمرير الإجراءات الأشدّ قسوة بكلِّ يُسرٍ وسهولةٍ، من قبيل الرّفع من سنِّ التقاعد، تقليص العُطل، الزيادة في ساعات العمل، وذلك أمام انهيار المقاومة من أجل حقِّ الإنسان في أن "لا يفعل أيّ شيء"؟
بين الكدح والملل يُفضّل الإنسان الكدح. تلك هي المعادلة التي أدركتها الرأسمالية، ولم تدركها المشاريع المنافسة لها، أو ليس بعد
على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين، وإلى حدودِ سنوات الثمانين من القرن العشرين، ساد الاعتقاد بأنّ تطوّر الحضارة البشرية سائرٌ بخطى حثيثة نحو خفضِ سنِّ التقاعد، والتقليص من أيّام وساعاتِ العمل، وذلك بفعل تطوّر التكنولوجيا، والعمل النقابي، وبرامج الرعاية الاجتماعية، وهو ما يتماشى مع أهداف مجتمع الرخاء الشامل. لقد بدت تلك الأهداف وشيكة بالفعل، وكانت أدبيات فترة ما يُسمّى بـ"الثلاثين المجيدة" (ما بين 1945 و1975) ترى مواطن المستقبل ينعم بوقتِ راحةٍ كافٍ للسينما والمسرح والموسيقى والرياضة والحبّ والقراءة والرقص، وما إلى ذلك من مباهجِ العيش.
كان الاعتقاد السائد أنّ ساعات العمل في اليوم قد تصبح أربعا أو أقل، وأيّام العمل في الأسبوع قد تصبح أربعا أو أقل، وشهور العمل في السنة قد تنخفض بدورها، وسينعم الإنسان البسيط بما يكفي من الوقت لكي يستمتّع بعمره القصير.
لكن..
فجأة تلاشى الحلم، وانقلب الاتجاه، فارتفع سنّ التقاعد، وتقلّصت العطل، وارتفعت أيّام وساعات العمل، وأصبحت عطلة نهاية الأسبوع نفسها في بعض المجتمعات موضع تساؤل. بل الأدهى هو الغطاء الحقوقي الذي اخترعه البعض: لا يمكننا أن نمنع الإنسان من حقِّه في أن يعمل أكثر من أجل أن يكسب أكثر!
إجراءات الرّفع من سنّ التقاعد، والزيادة في أيّام وساعاتِ العمل، لم تتعرّض للمقاومةِ الشرسة كما توقّع الكثيرون، وتفسير ذلك يستدعي استحضار بعض آليات التحليل الفلسفي.
انتصرت الرأسمالية لأنها وحدها وعدت الإنسان بحياةٍ أقلّ مللًا في كلّ مجالات الحياة
كيف ذلك؟
بصرفِ النظر عن مصالحِ الرأسمال العالمي، فقد جاءتْ تلك الإجراءات متجاوبةً مع حاجةِ الإنسان المعاصر إلى التّقليص من مللِ الشيخوخة، ملل العُطل، ومللِ أوقات الفراغ، طالما كلّ وسائل الترفيه المُتاحة لم تنجح في درءِ الملل.
بين التعبِ والملل يُفضّل الإنسان التعب.
بين الكدح والملل يُفضّل الإنسان الكدح.
تلك هي المعادلة التي أدركتها الرأسمالية، ولم تدركها المشاريع المنافسة لها، أو ليس بعد.
بل عكس ذلك، فإنّ المشاريع المُنافسة للرأسمالية قد وعدت الإنسان بالقضاء على كلِّ الشرور، مثل الفقر، الجوع، الحرمان، الجهل، الجريمة، السرقة، المرض، الألم... إلخ، إلا أنّها بخصوص الملل لم تخبره بأيّ شيء.
لقد انتصرت الرأسمالية لأنّها وحدها وعدت الإنسان بحياةٍ أقلّ مللًا في كلّ مجالاتِ الحياة: التناوب على السلطة، الاستهلاك السريع، عقود العمل المؤقتة، تمويل المشاريع الصغرى... إلخ.
في هذا العالم صنفان: وارثون بمختلف ممتلكاتهم، وكادحون بمختلف وظائفهم
وها هي المعادلة: بين المجازفة بكلِّ شيءٍ والملل من كلِّ شيءٍ، قد يختارُ الإنسان المجازفة بكلّ شيء.
لم تنتصر الرأسمالية لأنّها وعدت الإنسان بألمٍ أقل، بل انتصرت لأنّها وعدت الإنسان بمللٍ أقل.
يطالبُ الإنسان بأوقاتِ فراغٍ أكثر، لكنه يخاف منها في المقابل، لا سيما إنْ كان من غير المحظوظين الذين لم يرثوا مشاريع كبرى من الآباء والأجداد. والحقيقة البادية للعيان أنّ الناس في هذا العالم صنفان: وارثون بمختلف ممتلكاتهم، وكادحون بمختلف وظائفهم.
مللُ أوقاتِ الفراغ هو المعادلة الصعبة التي ينبغي أن يعالجها كلّ الذين يقاومون من أجل الحقِّ الإنساني في "أوقات الكسل".